الجمعة 20 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
حجة... ذاكرة الثورة ومخزون "الأنصار"
الساعة 21:16 (الرأي برس - عربي )

يبدأ خط الرحلة من غرب مدينة عمران. تجتاز القيعان وتعلو رويداً رويداً في مرتفعات تطل على وادي عقار الزراعي، ليستفيق نظرك على حصن قارن الذي اختاره المخرج ناصر العولقي مسرحاً لتصوير مسلسل "الفجر" الإجتماعي في زمن تلفزيون الأبيض والأسود، والذي يحكي عن أيام حكم الإمام يحيى حميد الدين، ونجله الإمام أحمد. تتراءى لك الشرفة التي كان يطل منها بطل المسلسل، محمد الضلعي، "بركتنا"، ليصرخ في وجه القبيلي: "يا خبيث". تجتاز الحصن إلى سفح الأشمور، وهنا تمنى الثائر عبد السلام صبرة ورفاقه لو تنقلب بهم السيارة بعد فشل ثورتهم في العام 1948م، واقتيادهم إلى سجون حجة مكبلين بالسلاسل.


مع اقترابك من جبل الزافن، تتجلى على يسارك مسور، التي اتخذها منصور بن حوشب مركزاً لإمارته في صراعه السياسي والمذهبي مع تلميذه علي بن الفضل، في القرن الحادي عشر الميلادي. وفي قرية بيت الولي، الحد الإداري الفاصل بين محافظتي عمران وحجة، تكون قد قطعت مسافة 70 كم من خط الرحلة، وهنا نصبت القوات المصرية مدافعها لتثبيت أركان الجمهورية الوليدة، كما رسم فيها الشيخ مجاهد أبو شوارب خططه للسيطرة على حجة، وسيّر منها فرق الجيش الشعبي مع المقادمة لقتال أنصار الإمام محمد البدر.


الخذالي بوابة الدخول
في نقيل الخذالي، بوابة الدخول إلى حجة، يقف أمام ناظريك نصب تذكاري من الصخر، تعمد المهندسون الصينيون واليمنيون الإبقاء عليه كشاهد على التضحيات التي قدموها حتى شق رأس جبل الخذالي، ونحت الطريق الإسفلتي في صميم صخور الجبال المتزاحمة. من جوار النصب، تتجلى حجة كفردوس من الجمال المطرز بالمدرجات الزراعية والمنازل المتناثرة كاللؤلؤ، والغيوم تتهادى بين جنبات الجبال وتقبل النوافذ صباح مساء.
 

أمام هذه التموجات اللامتناهية من السحر والدهشة، تكتشف نبع الإلهام الذي سكن الشاعر حسن الشرفي حتى جاد بغنائية:
يا ريتني في جُباكم عصفري
وإلاَّ حمامي على امكنَّة يدور
أتشاقرك من قبال المشقري
واسبِّح الله خلاق البدور
لاذا توهَّم ولا هذا دري
ولا سمعت امحُكى باطل وزور
والا فيا ليتني لك عسكري
أسير معك حيث ما تشتي تسير
أقطّف القات لك حالي طري
واسقيك بارد مبخَّر بالبخور
وان جيت ترقد أفرِّش ميزري
والحِّفك بالمشاقر والزهور
وريت والله وصدرك دفتري
أكتب عليه شعر موَّاج البحور
كم سبَّني الناس بك وانا بري
ولو تجمَّلت فالباري غفور
وقود الصراعات
تتلوى في الطريق الإسفلتي هبوطاً، وتتنفس عبق الأرض وفوح النباتات والأشجار. وفي كل منعطف في مديرية كحلان عفار، تقابلك لوحة مزدحمة بأسماء "شهداء مسيرة أنصار الله"، ودليل إرشادي إلى مقابرهم. حتى مطعم "قلفاح" في مركز المديرية حولت جدرانه الحرب إلى معرض صور لضحاياها. يقول السكان هنا إن "محافظة حجة قدمت 70 شهيداً خلال يناير الماضي في مواجهة العدوان السعودي".


ذاكرة دامية لهذه المنطقة مع الحروب والصراعات منذ القدم؛ حيث كانت مسرحاً لاقتتال أكثر من إمام على السلطة، ودفعت الكثير حتى تخلصت من الإحتلال التركي الأول والثاني. وفي العام 1948م، قدم إليها ولي العهد، أحمد يحيى حميد الدين، من تعز عبر الحديدة، مستنجداً بأهلها للثأر لمقتل والده والقضاء على الثورة، فالتف الآلاف حوله من جبال وسهول حجة التي كانت غارقة في العزلة. خرجوا خلف الإمام أحمد بعدتهم وعتادهم، ليجتاحوا العاصمة صنعاء، ويخمدوا ثورة 48 خلال أيام، ويعودوا إلى حجة محملين بغنائم المدينة، التي أباحها لهم بعد أن ثبتوه إماماً خلفاً لوالده، واقتادوا معهم "الدستوريين الذين يريدون استبدال القرآن ونزع الولاية من آل البيت". عشرات من العلماء والشعراء والأدباء والضباط والمشائخ استقبلتهم سجون حجة مثخنين بآمال خائبة. لقد عملوا ما بوسعهم من أجل انتشال اليمن من الجهل والفقر. أعدوا الدستور وقتلوا الإمام يحيى وشكلوا حكومة، لكنهم فشلوا في القضاء على ولي العهد.

 

جسور مهدمة
تحلق على جناح الغيم في مرتفعات حجة، ومع هطول المطر تنبعث من داخلك نشوة مختلفة معها، يكون لغنائية حسن الشرفي بصوت الفنان أيوب طارش طرب خاص:
مطر مطر والظبا بينه تدوّر مكنَّه
يا ريت وانا سقيف
يا ريتنا خدر بدوي كلهن يدخلنه
لو ما يروح امخريف
يا ريتنا كوز بارد وحدهن يشربنه
على شوية صعيف
يواجه سائقو السيارات والشاحنات صعوبة في التوقف على جنبات الطرق الجبلية، وتتوقف حركة السير عند تساقط الصخور في مواسم الأمطار. ومع ذلك، لم يترك طيران "التحالف" الذي تقوده السعودية جسراً إلا وقصفه بسلسلة غارات. تتدفق مياه الأمطار في سائلة شرس، فيعلق مئات المواطنين على جنباتها لأن الجسر هدمه قصف الطيران. وتتكرر المعاناة في بقية السوائل على امتداد الطريق الرئيس في المحافظة.
 

ذاكرة الدم
تحيط الجبال بمدينة حجة، وتعلوها حصون نعمان والظفير والجاهلي، وتتربع فوقها قلعة القاهرة التي تتدلى في مدخلها سلسلة حديدية، كشاهد على ما لاقاه رجالات 1948، من حمل الأغلال والأقفال الغثيمية التي تخضبت بالدماء من سيقانهم ومعاصمهم. يخيل إليك سماع صرير السلاسل التي كان يجترها المشير السلال والنعمان والزبيري وغيرهم ممن تجرعوا مرارة السجن في أقبية القلعة، ووثقها الشاعر والثائر أحمد عبد الرحمن المعلمي في كتابه "مذابح وأغلال... مذكرات من سجون حجة".


لا تستخدم القلعة اليوم لأي غرض، ولم يعد بها سوى مدفعين من بقايا الإحتلال التركي مكسوين بالصدأ. ضابط و20 جندياً اتخذوا من غرف "العكفة" سكناً في مدخل القلعة، ومع انقطاع الرواتب لأكثر من خمسة أشهر، لم يعد في القلعة سوى بضعة جنود يلوكون معاناتهم مع أعشاب القات.
على مقربة منها، "ميدان حورة"، الذي تحيط به اليوم عدد من المباني الحكومية، وتدحرجت على ترابه الكثير من رؤوس الثوار، ومن حل عليهم غضب الإمام أحمد بمن فيهم أخواه العباس وعبد الله. في العام 2011، اتخذ الشباب المطالبون بإسقاط نظام صالح من ميدان حورة ساحة لخيامهم واحتجاجاتهم، لكن تفرق جمعهم وتمزقت بعدها الخيام بفعل حرارة الشمس والأمطار والرياح. وعلى مسافة ليست بالبعيدة من القلعة والميدان، ينتصب قصر سعدان بطوابقه الـ6 وملحقاته، والذي بناه الإمام يحيى حميد الدين في عام 1350 هجرية. وبعد قيام ثورة سبتمبر، صار هو القصر الجمهوري، واكتسب مهابة في عهد المحافظ مجاهد أبو شوارب، وبعدها انضم إلى قائمة الشواهد على التحولات في تاريخ حجة.


إلى خيام الجوع
غادرنا مدينة حجة صوب المديريات الشمالية الغربية. لقد صارت الجبال خلفنا وارتفعت درجة الحرارة وانبسطت الطريق في السهول. مساكن من العشش وسحنة سمراء ومظاهر بؤس وفقر ونقاط تفتيش متقاربة تابعة لـ"أنصار الله". هنا، وجدنا النازحين من جحيم الحرب في ميدي وحرض في تجمعات متناثرة، بمديريات عبس وحيران ومستبا وخيران المحرق وبكيل المير. آلاف الأسر النازحة اتخذت مساكن من طين وقش، وأخرى تسكن في العراء أو في خيام مهترئة أو تحت الطرابيل. مساكن لا تقي قاطنيها شمس النهار ولا صقيع الليل. نساء وأطفال يعيشون وسط معاناة متفاقمة ويفتقرون لأبسط مقومات الحياة من غذاء ودواء.


بحسب تقرير المفوضية السامية للاجئين ومنظمة الهجرة العالمية في أكتوبر 2016م، فإن عدد النازحين في مديريات محافظة حجة 80 ألفاً و898 أسرة. لا تصلهم مساعدات مركز سلمان للإغاثة، ولكن طائرات "التحالف" الذي تقوده السعودية توزع عليهم الموت بين الحين والآخر، وتتناثر أجساد العشرات منهم في المخيمات. لايسمح لوسائل الإعلام بالاقتراب من مراكز إيواء النازحين، عدا وسائل الإعلام التابعة لـ"أنصار الله" وحلفائهم. لقد كانت الرحلة أشبه بالتسلل في الأرض المحرمة.


بين "امجفا" و"امغلايب"
لايحزم الأطفال النازحون من حرض وميدي حقائبهم إلى المدارس، لكنهم يحملون حزم الحطب التي قضوا ساعات من نهارهم في اقتطاعها من الأشجار في البراري، ليعرضوها للبيع على المسافرين بملابسهم المهترة وأجسادهم التي تلفحها حرارة الشمس في جنبات الطرق، من أجل الحصول على ما يسد جوعهم مع أهاليهم.

تلجأ النساء في مخيمات النزوح إلى تربية الأغنام والماعز، وتتقاطر الفتيات بحثاً عن الماء في الآبار التابعة لأهالي المنطقة.

ويعتصر الأسى والحزن كبار السن، ولسان حالهم:
دايم زماني وانا بين امجفا وامغلايب
ماذقت طعم امسعادة
ميان له عز من فارق ديار امحبايبْ
وكيف يهناه زاده

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً