السبت 23 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
المثقفون والحرب: محاولة للبقاء على قيد الإبداع
الساعة 21:24 (الرأي برس - عربي )

أمانينا وتصلب على واجهة كتاب أو جريدة. يبزغ فينا التفاؤل كلما عبرت مسامعنا كلمات لا تشبه الحرب وحزنها ونزيفها. تلك الظلمة التي غطى بها الخراب أعمارنا قد تتبدد وتتبخر على غلاف مطبوع جديد، أو ربما بريشة فنان يمزج في أعيننا الفرح لوحات لا تسيل منها الدماء البشرية بل تقفز منها الفراشات والعصافير. من خنادق الحروب يبزغ كتاب ورواية وألف قصيدة وصورة للمدن المنسية، للأطفال الذين يتضورون وجعاً وجوعاً، لآلاف المقابر التي خنقت عمر الوطن، وسربت من بين أصابعه البارود بدلاً عن العطر. أدباء ومثقفون كسرتهم الحرب ولم تكسر أقلامهم مغامرات السلاح ومقامراته، فكتبوا للحب والسلام والأمل، وأداروا ظهورهم للموت والفقد والخلاف. هكذا قد تزهر في كل سطر حكايانا وأحاديثنا الجميلة، التي كاد أن يمحوها ويشوهها لنشغالنا بقتلنا وسفك دمائنا.


ففي غفلة الحرب، حَلّق فخر العزب وأصدر ديوانه الشعري "على قبر أمي"، وعبد المجيد التركي أصدر ديوانين شعريين هما "هكذا أنا" و"كتاب الإحتضار"، فيما صدر الديوان الشعري "لي يد في كل هذا" لمحمد الحريبي، وأصدر وضاح اليمن عبد القادر ديوانه الشعري "كعمود إنارة خلفته الحرب وحيداً"، وماجد عاطف أصدر "شهيٌ أيها الملح". وفي فن الرواية، أصدرت نادية الكوكباني روايتها "سوق علي محسن"، وأضاف الغربي عمران إلى رواياته الحزينات - كما أسماهن - رواية جديدة هي "مسامرة الموتى"، ولم يأخذ ريان الشيباني زمناً فاصلاً عن الحرب حيث خرجت للنور روايته "نزهة الكلب"، ومنير طلال كتب روايته التاريخية "الزهراء السقطرية"، وسامي الشاطبي كتب روايته "أنفٌ واحدة لوطنين"، ورستم عبد الله كتب "مدينة الموتى"، وبسام شمس الدين أصدر "نزهةٌ عائلية"، وفكرية شحرة أصدرت "قلبٌ حاف"، ومحمد إبراهيم الغرباني "نوب الغياب"، وندى شعلان "بئر زينب"، وسيرين حسن "طقوس الشرنقة"، وعبدالله عباس الإرياني "حانوت شوذب"، ومهى صلاح رتبت حكايتها "كيف أنام دون حكاية؟" موعداً على أراجيح الحلم للأطفال.
وفي مجال القصة القصيرة، صدرت لأحمد الأسعدي مجموعته القصصية "أحلام قابلة للتقشف"، ولانتصار السري "لحربٍ واحدة"، وللطف الصراري "الرجاء عدم القصف". وعن سلسلة نونة للسرد القصصي صدرت المجموعة القصصية القصيرة جداً "بين حب وحرب"، هي العدد الأول من السلسلة، وقد جمعت فيها ما يقارب 15 كاتباً وكاتبة، والكثير الكثير من الكُتاب الذين أثروا الساحة الأدبية بمطبوعاتهم وأعمالهم القيمة الجديدة والتي لم تسعفنا الذاكرة لسردها. النسيج الإجتماعي الذي مزقته الحرب لملمته أصابع الأصدقاء وبوحهم ومشاغباتهم، رقعته فعالياتهم الثقافية التي جاءت بعيداً عن سلطة وقرصنة وزارة الثقافة المشلولة وبجهدٍ شحيح وذاتي. نادي القصة في صنعاء أيضاً لم يتوقف عن سرد الحكايا واستضافة الأدباء والمثقفين من كل الأطياف والآراء، وما قتلته العصبويات والمذهبية والعنصرية فينا أحيته فعاليات الأصدقاء وأمسياتهم الثقافية الحميمية والتي لم تتوقف طيلة الحرب.


وفي هذا السياق، يقول الكاتب والروائي، محمد الغربي عمران، رئيس نادي القصة في العاصمة صنعاء، إن "نشاطات كُتاب السرد ليست بغرض تخفيف وطأة الحرب لكنها أنشطة بغرض مقاومة القتلة، ولأن المبدع يعيش حالاته في الكتابة، فالأنشطة بالنسبة له تعد جزءاً من مناهضة الحرب، كما أنها تثبت أن اليمن ليست للقتلة وأنها ساحة للابداع والثقافة". ويضيف الغربي أن "أبرز المعوقات التي واجهتنا كمؤسسة ثقافية هي أن نائب وزير الثقافة، الشاعرة هدى أبلان، قطعت ما كان يصرف للمنظمات الإبداعية عدا مخصصات ضئيلة بالكاد تغطي إيجار المقرات، لذا تراكمت ديون هذه المؤسسات، مما لا يدع مجالاً للشك أن وزارة الثقافة باتت تهدف من خلال قطعها للمخصصات إلى إغلاق تلك المنظمات والمؤسسات الثقافية، وبالفعل أُغلق ما يساوي 95% منها؛ وعلى سبيل المثال أغلق اتحاد الأدباء والكتاب بجميع فروعه في الجمهورية، وهي حرب قامت بها الوزارة بالوكالة وكأنها تنفذ برامج لدعم سلطة الأمر الواقع".


لكن على الرغم من تعرض المثقف اليمني للقتل والخطف والاعتقال والتغييب والملاحقة ظل صوته ثابتاً وجهوراً، ولم تفلح ظروف الحرب القاسية والنزوح وصعوبة السفر والتنقل وأيضاً صعوبة حصول الأدباء والكُتاب على نسخ من مطبوعاتهم التي طبعت خارج اليمن أصلاً بسبب الحصار وإغلاق المطارات ودور النشر، في منع إقامة الفعاليات وورش العمل الثقافية. وعلى عكس ذلك، كان للبعض منهم السبق والفضل في إنعاش الوسط الأدبي عبر مواقع التواصل الإجتماعي وفي ورش عمل عبر تطبيق الـ"واتس آب". وكان للكاتب سامي الشاطبي الفضل في لم الشمل لعدد كبير من المثقفين والأدباء الشباب وإقامة ورش عمل ودورات ثقافية لمجموعة منهم، كل حسب رغبته، وقد تكللت جميعها بالنجاح.


و ضمن ورش العمل هذه، كانت ورشة كتابة السيناريو المسرحي والسيناريو التلفزيوني وورشة كتابة الشذرة والنثر وورشة كتابة المقال الأدبي وورشة كتابة القصة القصيرة وورشة كتابة الرواية، وقد تخللت الورش مجموعات للعمل ولكل ورشة كانت مخرجاتها؛ من مثل طباعة رواية مشتركة هي رواية "كهنوف"، والتي ضمت مجموعة من الكتاب العرب، وتكفل مركز الإدريسي الثقافي بطباعتها ونشرها وتوزيعها. كذلك، نُشرت للمشاركين في هذه الورش بعض المقالات الأدبية والشذرات والأعمال النثرية في ملحق "اليمن اليوم" الثقافي. كما أن الحرب لم تفلح في تغييب مشاركات بعض الأدباء والمثقفين في مهرجانات وفعاليات أدبية خارج اليمن وحصد الجوائز أيضاً. يعتبر المثقفون أن خلافات الساسة حشرتهم في مساحات شائكة


من جانبه، قال الكاتب والمخرج، أسعد الهلالي، في حديثه  إن "الحرب والأوضاع المضطربة أظهرت الحاجة الملحة والشديدة للوعي والثقافة، حتى تقوم بتحليل ما يجري من أحداث وإعادتها إلى مسبباتها والتكهن بنتائجها. فلقد أنتجت الحروب فلسفات وقيماً اجتماعية وفكرية بالغة الأهمية، ربما هي التي أرست دعائم الإستقرار السياسي والمجتمعي والاقتصادي للغرب، الذي سبق أن عانى ويلات الحروب والاضطرابات الداخلية والخارجية". ويرى الهلالي أن "ما تقدمه ورشات العمل الأدبية على مواقع التواصل الإجتماعي يُعدّ خطوة جيدة في مقاومة ما يراد لليمن من دمار، يتجسد بأقسى أشكاله في تحطيم شريحة الشباب وديناميكيتهم الفكرية والإبداعية، لذا لا غرابة أن يبادر المثقف اليمني إلى مثل هذه الورشات التي ستحرك الراكد بسبب الحرب والأزمات السياسية، والتي تحاول أن تجعل منه أمراً واقعاً يرزح الإنسان تحت عبئه".


يختلف الجميع حول مسببات الحرب، ويتفقون حول تأثيرها على جوانب الحياة المختلفة، كالجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والجانب الثقافي ليس استثناﺀ من ذلك، فقد كان المشهد الثقافي اليمني أبرز المتضررين بالحرب من خلال انهيار المؤسسات الثقافية التي حاربتها القوى السياسية، بالإضافة إلى انعدام المسارح ودور السينما في اليمن؛ فقد قامت سلطة الأمر الواقع بإغلاق الصحف والمجلات وإغلاق المواقع الإلكترونية والتضييق على المتنفسات الثقافية المتواجدة في الحد الأدنى في اليمن، ولم تهتم إلا ببعض المؤسسات المحسوبة عليها وعلى أتباعها، ومثل هذه السلوكيات كان لها تأثيرها السلبي على المثقف، ولهذا فقد تدهور المشهد الثقافي بشكل كبير، وبالمقابل كان لهذه الأوضاع أثرها الإيجابي على إبداع المثقف الذي عاش الحرب ووثق أحداثها ومعاناتها.


وفي هذا السياق، يقول مدير مركز الإدريسي الثقافي، الكاتب والأديب سامي الشاطبي،إن "مؤسساتنا الثقافية دمرتها الحرب، فأطراف النزاع مسؤولون بدرجة كبرى عما حدث لها سواء من قصف أو احتلال أو قطع مصادر تمويلها على شحها، لذلك قمنا في مركز الإدريسي الثقافي وبدعم شخصي مناسب بالعمل عبر مواقع التواصل الإجتماعي، وأقمنا ورشة لكتابة رواية مشتركة هي رواية (كهنوف)، شارك بها زهاء 24 كاتباً وكاتبة من أنحاء البلاد العربية. وكانت فكرة ناجحة رغم المثبطات التي واجهتنا، وقد أُصدرت في كتاب مطبوع، وهي تتناول قصة رحالة يجوب البلاد العربية بحثاً عن الأمن، في كل فصل يجوب بلداً معيناً يتناوله وفق صيغة متفق عليها مع كاتب معين".


وتختلف الآراء حول الدور الذي يلعبه المثقف والمؤسسات الثقافية في التخفيف من وطأة الحرب وجنونها، وهم أنفسهم - أي المثقفين - ينتقدون مواقف البعض منهم، ويؤكدون على المساحة الشائكة التي حشرتهم فيها خلافات الساسة ونزواتهم وطيشهم. وحول ذلك، يقول الكاتب الصحافي، عبد الواحد السامعي، إن "دور المثقف تلاشى إلى أدنى مستوياته، ولم يعد هو الضمير الشعبي الحي، أو رمانة الميزان والبوصلة التي توجه وجدان الشارع للحقيقة، بعيداً عن أكاذيب أطراف الصراع التي كرست كل وسائلها لإذكاء القتال، والتخندق لإحداها". ويضيف أنه "للأسف سقط كثير من المثقفين كشأن كثير من الإعلاميين في هوة الحرب، فصاروا مروجين، بل وينظرون إلى الحرب بقداسة زائفة، ويتمترسون بقوة مع هذا الطرف أو ذاك، وهو ما أعطى انطباعاً ضبابياً أكثر حدة، إذ اصطف أولاً رجال الدين المحسوبون على هذه الأطراف، ثم تلاهم المثقفون، والإعلاميون، وبذا فقد نجح السياسي الطامح في فرض سطوته على الكل في ضم هؤلاء إلى معركته، وهو ما أدى إلى مشهد مجتمعي رخو ساعد بإدامة الإقتتال، وتحوله إلى مربعات وهمية شديدة التعقيد، كالمناطقية، والمذهبية، والارتداد نحو تشظي الوحدة، وربما انهيار شبه الدولة التي عمل المثقفون على ترميمها طوال ما يزيد عن نصف القرن الذي هو عمر الثورة شمالاً وجنوباً". ويشير السامعي إلى أن "نفراً قليلاً من المثقفين ظل يتعاطى بإيجابية مع الحرب، محذراً من تبعاتها، ومن حقيقة أهدافها الضيقة، ومن كونها بعيدة الصلة بالشأن الشعبي، وارتباطها أساساً بمصالح ضيقة لتلك الأطراف، همها الأول الإنفراد بالسلطة والثروة، وتختفي تحت حجم كبير من الشعارات الرنانة كالشرعية والثورة وغيرها".
ويتحدث الكاتب الصحافي، وضاح اليمن عبد القادر، بدوره، عن سلطة الأمر الواقع التي "مهدت لحدوث شرخ في الحقوق والحريات، بتكميم الأفواه والقمع والتنكيل"، معتبراً أنه "لم يعرف التاريخ اليمني القديم ولا المعاصر كهذه الجماعات القمعية التي جاءت من خلف التاريخ ومن كهوف الظلمة، لتقف عائقاً أمام الضوء الذي صار يسكن أعماق كل يمني. فقد كان الكتاب والأدباء والفنانون والصحفيون من أكثر الفئات التي تعرضت لقمع ممنهج ومنظم، سواء عبر القتل أو الإختطافات والاعتقالات، وكان تحريض زعيم الجماعة الحوثية واضحاً تجاه الفئة التي تحمل القلم والعدسة والريشة في مواجهة لغة الإستقواء والكهنوت. ويتابع وضاح اليمن: "أنا غادرت اليمن بعد الإعتداء الذي تعرضت له، ومن ثم الإعتقال والمطاردة، كوني كنت أعمل مصوراً مع شبكة التلفزيون العربي ووكالة الأناضول التركية في تعز، واستطعت أن أواصل نشاطي الإعلامي في الخارج عبر مختلف الوسائل الإعلامية، كما أنجزت عملين شعريين يمتان للواقع الذي عشنا، وأعمل حالياً على عمل روائي والتجهيز لمعرض تشكيلي خاص بي يجسد هذه المرحلة التي هي بالفعل مرحلة مخاض عسير".


وحول تدمير مؤسسات الدولة الثقافية والاجتماعية وتغييبها، ومحاولة طمس هوية المثقف الإنسان، يقول الشاعر والصحافي، فخر العزب، "لم تهتم قوى الإنقلاب إلا ببعض المؤسسات المحسوبة عليها وعلى أتباعها، وهي مؤسسات تحمل خطاباً مذهبياً لا يؤمن بالآخر ولا بثقافة الإختلاف وتحاول إبراز اللون الواحد". ويعتقد العزب أن "مثل هذه السلوكيات كان لها تأثيرها السلبي على المثقف الذي تعرض للتضييق والاختطاف والاعتقال، وظل المثقف وكلمته حبيساً في معتقلات قوى الإنقلاب"، لكنه يرى، في المقابل، أنه "كان لهذه الأوضاع أثرها الإيجابي على إبداع المثقف الذي عاش الحرب ووثق أحداثها ومعاناتها من خلال النص الشعري والقصة والرواية، وهذا الإبداع وإن ظل حبيساً إلا من خلال بعض النشر في مواقع التواصل الإجتماعي، فإن انتهاﺀ الحرب سيكشف الستار عن الفنون الأدبية التي تمت كتابتها من قبل المثقفين اليمنيين"، متابعاً أن "الرواية الأدبية ستكون هي الأبرز حضوراً باعتبار أن هذا الزمن هو زمن الرواية". ويزيد: "إذا ما ألقينا نظرة على ما يتم نشره فيمكننا القول إننا أمام جيل مميز من المثقفين الذين يجيدون مطاوعة الحرف للتعبير عن مرحلة تاريخية هامة من مراحل الشعب اليمني ونضالاته في سبيل الإنعتاق من القوى الظلامية، فالكتابات الأدبية توثق في مجملها لأحداث الحرب المأساوية التي ألقت بجراحاتها على كل أفراد الشعب اليمني".


أما الكاتب، محمد إبراهيم الغرباني، فيلخص الحالة الثقافية في اليمن بقوله: "منذ بدء الحرب وحتى الآن يستمر غياب الثقافة والمثقفين بشكل متسارع، وأسباب هذا كثيرة، خصوصاً أن الحالة الثقافية في اليمن ليست مؤسسية وخاضعة للأمزجة. مع الحرب زاد وضعها سوءاً، وصل إلى حدّ غيابها بشكل كبير، وما تناقص عدد الأنشطة والفعاليات الثقافية المُختلفة إلا تأكيد على تدهورها في البلاد. ليس هذا فحسب بل وصل الحال إلى تحول المثقفين والنُخب الثقافية إلى أدوات تُستخدم بشكل سلبي في الصراع الراهن، وأصبح الكثير من المثقفين يكتبون عن الموت والخراب ولم يقوموا بدورهم الذي يفترض بهم في هكذا حال، وهو صناعة الوعي والحفاظ على الحالة الثقافية وتوهجها حتى لا تتضاعف مأساة البلاد والعباد".

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص