السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
لا نملك إلا أن نركل الإستعمار
الساعة 22:31 (الرأي برس - عربي )

قد تمر بعض البلدان بحقب أو ظروف تاريخية تجد فيها أنه لا مناص من الإستعانة ومد اليد للخارج، بغرض تقويتها وتدعيمها وشد أزرها، وهو أمر قد يكون إيجابيًا ومستحسنًا إذا جاء وفق تعاون الأمم البشرية وتكافئها، في قالب من الندية لا يسمح بالاستعلاء، ومن الشفافية لا يسمح بفساد الرئيس وخداع المرؤوس. وحضرموت ليست استثناء في هذا السياق الأممي قديمًا وحديثًا، ففي مفتتح حياتها الحديثة وجدت الإنجليز في بيتها أصدقاء وحماة، أو هكذا زعموا.


أصبح الإنجليز في ظروف يطول بيانها جزءًا من المشهد السياسي في حضرموت، بعد أن وقّع سلاطينها معاهدات الصداقة والحماية والإستشارة، وأتت بريطانيا بموظفيها، واختارت من بينهم بعض الحضارمة ممن اطلع على الثقافة الإنجليزية، وأتقن لغتهم، فكان من بينهم الأستاذ محمد عبد القادر بامطرف الذي سنتركه يقيم تجربته مع الإنجليز، وموقفهم من حضرموت وحكومتها المتعاهدة معهم ما قبل الإستقلال.


ولكن قبل ذلك ما هي نظرة الشعب في حضرموت إزاء استعانة حكومته بالإنجليز، يراها بامطرف ويعللها بقوله: "لقد رأينا، في بداية عهد التنظيم الإستشاري البريطاني في الدولة القعيطية، كيف كان الناس مطمئنين إلى، وواثقين في، الإدارة البريطانية، وذلك بعد عهود الظلم والظلام اللذين قاسوهما على أيدي بعض الحكام الحضارم. وحينما ظهرت الإدارة البريطانية بحضرموت على حقيقتها، وحصر رجالها أعمالهم في السباحة على شواطئ الساحل الحضرمي، وإقامة الولائم، ونثر الوعود الكاذبة في كل اتجاه، واستقبال وتوديع كبار الرسميين البريطانيين، الذين يأتون إلينا زاعمين أنهم مهتمون بشؤوننا، والحقيقة أنهم يأتون إلى حضرموت للإستحمام، والتفرج على الحضارم المهضومي الحقوق، ثم يذهبون يتجشأون ويثنون على الطباخين الحضارم، وعلى طريقة الأكل بالأصابع على الأرض الصلبة، نقول حينما انقلبت الإدارة البريطانية إلى كل هذه التوافه، ووقفت من الأماني القومية الحضرمية موقف الإستهجان، والإهمال، واللامبالاة، ضاق الحضارم بكل شيء بريطاني، وأصبحوا ينظرون إلى العلم البريطاني (رمز الوجود الإستعماري البريطاني بحضرموت)، وكأنه طالع شؤم ونحس يخفق في الأفق الحضرمي. لكن الحضارم لو علموا لما توقعوا من الإستعمار أكثر من ذلك، ولكن واقع البلاد السيئ آنذاك، وعبث حكامهم، وتعكير بعض أخوتهم صفو الأمن في البلاد، أنساهم حقيقة الوجود البريطاني؛ الأمر الذي ساعد دار الإستشارية البريطانية أن تكسب لنفسها مكانة مؤقتة في أنفس الجماهير". بامطرف: كل ما جرى تحقيقه في حضرموت كان بالإمكان أن يحققه الحضارم وحدهم


ورأى بامطرف أن السلطة المحلية حينها "تعتبر شكلاً وموضوعًا، امتدادًا لدار الإستشارة البريطانية بحضرموت، وأنهم يعملون وفقًا للنصيحة البريطانية المقدمة إليهم، بحكم المعاهدات القائمة"، تلك المعاهدات رأى أن خسائرها كانت على حضرموت أعظم من فوائدها، بل كان المستعمر هو الرابح والمستفيد الأول منها. وفي بداية الأمر اعترف بامطرف بفائدة مهمة مفترضة قام بها الإنجليز، تلك هي حماية البلاد، وتوطيد الأمن في أنحائها، فقال: "منذ أن وفد الإنجليز إلى هذه الديار في عام 1937م وطَّدوا الأمن بحضرموت توطيدًا نشكرهم عليه كل الشكر، والحضارم يفت في عضدهم المعروف؛ فيعترفون به اعترافًا يملأ جوانحهم، ويعمي أبصارهم عن كل إساءة لحقت بهم، مهما قلَّ شأن ذلك الجميل". ثم شكر للإنجليز عملهم على تنظيم وحدات عسكرية بقصد حفظ الأمن والنظام، لكنه رأى أنهم لم يكملوا جميلهم هذا؛ لأن تلك الوحدات، رغم بسالة النخبة من رجالها وإخلاصهم لوطنهم، لم تعد إعدادًا كافيًا للمحافظة على الأمن والنظام بدون استعانة خارجية من الإنجليز، ولاسيما سلاح الطيران، فصار مستقبلها متصلاً ببقاء الوجود الأجنبي الذي يدربها، ويراقبها، ويدفع رواتبها.
واعترف بامطرف للإنجليز عند قدومهم، إضافة لما ذكر، بإقامة سلطة محلية على شيء من التنظيم في هذه البلاد، لكنه نعى عليهم تكبيل هذه الإدارة، ومنعها من الحصول على أي دعم أو عون، وربطها بمواردها المالية المحلية المحدودة، ولم تجُد المملكة المتحدة إلا بمساعدات إغاثية قليلة، ويصف بامطرف هذه الحالة قائلاً: "قبع الإنجليز على مقاعد المستشارين النصحاء أمامنا، وأمطرونا وابلاً من الإرشاد والتوجيه، ولكنها كانت إرشادات وتوجيهات في تربة من الفقر، تسقى من معين الأماني البرَّاقة وأحلام اليقظة، وكانت النتيجة أن زرعوا معنا الريح، وحصدنا وحدنا الأعاصير التي قذفت بالرماد كله في أعيننا". 


ورأى بامطرف فوق ذلك أن كل ما جرى تحقيقه في حضرموت، كان بالإمكان أن يحققه الحضارم وحدهم دون حاجة للتدخل الإنجليزي، فقال: "كل ما حققناه في ميادين التقدم، إن كان هناك تقدم يُذكر، في معارفنا، وصحتنا، ومواصلاتنا، وإداراتنا، كان في وسع الحضارم أن يحققوه وحدهم بفعل سير الزمن المضطرد، والتفاعل الخارجي، حتى ولو لم يكن للإنجليز شأن بحكم هذه البلاد". إن بامطرف يرى أن الإنجليز صاروا هم الحاكم الفعلي للبلاد، أما ما أقاموه من إدارة، ومن مجلس محلي لحضرموت ما هو إلا جزء من خطة الحكم غير المباشر، الذي يصفه بامطرف بأنه "أسوأ ما تفتَّقت عنه العقلية البريطانية الإمبريالية في بعض البلدان الخاضعة لبريطانيا؛ إنه حكم يقتل الكرامة، ويهدر الرجولة، ويولد الإتكالية، ويميت الشعور بالمسؤولية"، وهي صفات طالما ألصقها بامطرف برموز الحكومة الشرعية آنذاك.


ويزيد بامطرف الأمر وضوحًا ويصف قتامة الصورة عن قرب؛ لأنه شاهد واطلع على ما لم يره ولم يعرفه غيره، فقال يصف تلك الحالة: "إنه لمن حسن الصدف بالنسبة لي، ومن سوء الصدف بالنسبة للإستعمار وعملائه في المنطقة، أن ألتحق كموظف بإدارة المستشار، ثم في حكومة المكلا، فعن طريق هاتين المؤسستين شاهدت كيف يتزلَّف كبار المسؤولين في الحكومة المحلية للإنجليز، وكيف يُقبِّلون الأرض بين أيديهم، واطَّلعت على الأساليب الجهنَّميَّة التي يستخدمها الإستعمار في حكم الأقطار الضعيفة، وكيف تتم سيطرة الإستعمار البريطاني لا على مقدرات الشعب فحسب ولكن على تفكيره وعواطفه. وعن طريق إدارة المستشار خاصة، استطعتُ أن أشاهد الرزايا التي يرمي بها الإستعمار الشعوب المغلوبة على أمرها، وهي رزايا لا تقتصر على الإرهاب، وموجبات التخلف، والإكراه، والإغتصاب، ولكنها أحيانًا تتخذ شكل عملاء خطيرين يعدون خصِّيصًا لاحتلال المراكز الحساسة في الحكومة المحلية الواقعة تحت سيطرتهم".


لقد وصف بامطرف فترة مكوثه في المستشارية بالتجربة القاسية، خلص منها إلى قناعة باستحالة رجاء أي منفعة للبلاد في التعامل المطلق مع المستعمر المدعي للحماية والصداقة، ومن هم في ركابه، ويقول عن ذلك: "خرجت أنا من تجربتي القاسية من إدارة المستشار وحكومة المكلا مقتنعًا بأن التعاون مع الإستعمار أمر مستحيل، وأن السير في ركب أرباب المطامع الفاسدين، وذوي الميول المدخولة، وأصحاب المهمات الخاصة لا تقل استحالة".


وأخيرًا يرفض بامطرف أي خطوات سياسية تأتي متأخرة، في وقت تكون محاولة الإصلاح واستغلال الفرص قد فاتت، وقال: "هنا سؤال يفرض نفسه علينا، وهو: من المسؤول عن فوات الوقت الثمين، والجواب: إنه الإنجليز ومساوماتهم وجشعهم، فأنت تطالبهم بشيء معقول في وقته فيرفضون، وتمر الأيام ويصبح ما كنت تطالب به أقل من ما تطالبه الآن، فيعرض الإنجليز عليك ما كنت طالبت به سابقًا، وكانوا هم قد رفضوا تلبيته، وهكذا لدرجة أنك لا تجد ما تطالب به إلا أن تركل الوجود الإنجليزي على وجهه".


وهكذا كان... وهو ما سيكون، وإن طال السكون.

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً