السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
في تعز... "جنان ما يخارجك"!
الساعة 20:16 (الرأي برس - عربي )

حرب أخرى أكثر شراسة من المعارك الدائرة في الميدان تشهدها تعز. حرب تدور في الظل، ليس بوسعك ملاحظتها للوهلة الأولى، لكن مع الأيام ستستشعرها وتلمسها، في تعب الناس وقلقهم اليومي، ومع نهاية كل شهر سترى كيف تتجلى صورة هذه الحرب.


ككل الخدمات والمصالح المتوقفة في تعز، كان سوق العمل قد توقف منذ وقت مبكر، عاد العمال إلى منازلهم قبل أن تبدأ الحرب، ومع استمرارها أصبح وضع الناس مأساوياً، على الصعيدين المادي والنفسي، وبات غير مبالغ فيه القول إن الحرب ولدت "مجانين".


الصحافي فهد العميري يحكي، تفاصيل واحدة من القصص التي تضج بها محافظة تعز لضحية من ضحايا التدمير النفسي الذي خلفته الحرب. يقول "ذات ليلة خرجت أتجول بعد منتصف الليل، وحينما وصلت لقرب سور جامعة تعز شاهدت طفلين (طفل وطفلة) بين العاشرة والثامنة من العمر، سألتهم فين بتروحوا؟ أجابوني بنجيب المفتاح لصاحب الدكان، فرافقتهم بعدما قالوا إنهم سيوصلون المفتاح وسيعودون".


يتابع "كنت أمشي وأنا غير متصور المشهد ولا مصدق ما يجري، الطفل يمسك بأخته ثم يسبقها وهي تقتفي أثره وتحاول أن تختبئ فيه. وصلنا أمام البقالات فرأيت مسلحاً كنت أعرفه مسبقاً يدعى إبراهيم من شباب المقاومة، سلمت عليه وطلبت منه مرافقتنا لتوصيل الأطفال ثم نعود، مشينا للحظات وإذ بنا نسمع صوت امرأة خلفنا تلهث وتبكي وتنادي أولادها، التفت إليها قائلاً لا تخافي نحن معهم سنوصلهم ونعود معاً، سألتها لماذا يخرج الأطفال في هذه الساعة المتأخرة من الليل، قالت والدهم مصاب بحالة نفسية وإنه حين تأتيه الحالة يتحول إلى شخص آخر".


يزيد "كانت مناجاتها، استغاثاتها لله لا تفارق شفتيها، حسبنا الله ونعم الوكيل، كنت أسير وكأنني في حلم مزعج، وصلنا سوق بير باشا، دخل الطفلان ونحن معهم من بوابة السوق الخلفية، يالله ماذا لو كانوا وحدهم؟ كيف سيمرون بين كل هذا الظلام؟ المشهد لا يصدق، مشهد الخوف والرهبة هنا أشد من كل ظلام الشارع، سلمنا المفتاح وأثناء عودتنا كانت هناك كلاب كثيرة في نباح مستمر، كانت تقترب منا ولن تتردد في العض إذا أتيح لها المجال، وكنت وإبراهيم نبعد الكلاب فيما الأم تضع أولادها ذات اليمين وذات الشمال. أثناء عودتنا، كانت المرأة تتحدث إلى الله أن يكون معها، تخبره أن لها أربع سنوات في خضم المعاناة، تطلب منه أن يلطف بها وبأولادها وأن لا يتخلى عنها ويمنحها الحماية، كانت تتحدث عن ظروفها المعيشية الصعبة، ليس لدينا شيء في البيت، والواحد يشكي لله. عاد الطفلان وأمهم إلى البيت وما زلت في دوامة التساؤلات، والقشعريرة لا تفارقني، كيف ستكون حياة الطفلين وأمهما مع أب يعاني نفسياً؟". عفيف: الأضرار النفسية السيئة التي سببتها الحرب في تعز مرعبة جداً


للحرب في تعز ضحايا بلا حدود، فمن لم يحترق بنارها اكتوى بشظايا شظف العيش والتدمير النفسي والخوف والرعب، الذي لا تقل ضحاياه عن ضحايا السلاح بكافة أنواعه.


 وقف أمام ضحية من ضحايا التدمير النفسي الذي سببه الحرب. أيوب، البالغ من العمر 45 عاماً، أحد ضحايا الحرب والوضع الإقتصادي المتردي في تعز. أيوب رجل معاق يبلغ من العمر أربعين ونيفاً، فقد إحدى رجليه في لغم وهو في التاسعة من عمره، ليس له مصدر دخل سوى ما يجود به المحسنون عليه وعلى زوجته وطفليهما. ومع مأساة الحرب، ازدادت حالته المادية والنفسية سوءاً، وأوصدت بوجهه كل الأبواب، مرت عليه أيام لا يجد فيها ما يقتاته هو وأسرته، مما ضاعف حالته النفسية، وهنا دخل الإبتزاز المجتمعي الوحشي، الذي هو نتيجة سلبية من نتائج الحرب، التي ألقت بكل ثقلها على كاهل معاق لم يقو على الوقوف برجل واحدة ليتحمّل أعباء الحياة في الوضع الطبيعي، فكيف في الحرب؟ كل ذلك طرح أيوب في الموقف الصعب والزاوية الحرجة، وهنا كانت بداية الإنهيار والصراع العنيف مع الذات، فدخل في صدمة نفسية جعلته يفقد كل القيم والمبادئ الإنسانية، إذ إنه مقابل أن يوفر لقمة العيش له ولأولاده باع زوجته.


قد يبدو الأمر مستغرباً لكن هذه هي الحقيقة، فالجوع كافر والفقر يدمر ما لا تدمره كل أسلحة الحروب. إتفق أيوب مع زوجته على أن تتظاهر بأنها تحب م.ع.م. الذي كان قد استغل الحالة النفسية لدى الرجل، فطلب منه أن يبيعه زوجته مقابل 50 ألف ريال. زوجته هي الأخرى كانت قد مرت بكل المراحل النفسية السيئة التي مر بها أيوب، فوافقت على خطته ببيعها، حتى يأخذ زوجها المبلغ وتفر هي من عند الرجل وتعود إليه، لكن ما حصل أن أيوب فقد عقله تماماً بعد أن رفضت زوجته الرجوع إليه، وفضلت الزوج الجديد، تاركة خلفها زوجاً مختلاً عقلياً، وطفلين الضياع مصيرهما والحرب قدر محتوم عليهما.


الوضع المادي المتدهور في تعز وتأخر صرف المرتبات حرب أخرى على أهالي مدينة منكوبة بكل المقاييس جراء الحرب والحصار. الكاتب الصحافي، توفيق أغا، يسرد بدوره قصة مرعبة لضحية أخرى من ضحايا التدمير النفسي للحرب في تعز. في تصريحه يقول أغا إن "مدرسة في الأربعين من عمرها قتلت أمها في الجحملية قبل أيام بعد أن دخلت بحالة نفسية، وهي من بلغت الناس بمقتل أمها حين خرجت تصيح للجيران تعالوا شلوا المرأة هذه من عندي، فلها يومين ميتة، وعندما دخل الناس وجدوا أمها مهشمة الرأس، وبيد بنتها بانة حق دبة الغاز، ومستمرة بخبط رأس أمها، في إشارة اليهم أن يأخذوها، وفي هذا الوضع تم أخذ البنت إلى المصحة بعد أن جنت وفقدت عقلها". 


المختصون يؤكدون أن أخطر آثار الحروب هو ما يظهر بشكل ملموس وواضح للعيان لاحقاً في جيل كامل من الأطفال، وسيكبر من ينجو منهم وهو يعاني من آثار الصدمات ومشاكل نفسية عدة.
د. وهاج المقطري تحدثت  عن الآثار النفسية السلبية للحروب، موضحة أن "الصدمة النفسية تصيب المخ بتغيرات في نسيجه، وتشير الدراسات النفسية إلى أن 80% من الناس الذين يقعون في مناطق حروب مباشرة يتعرضون إلى صدمات نفسية بدرجة ما أو بأخرى، منهم 10% يصابون باضطرابات ما بعد الصدمة، ووُجد أن الإنسان عندما يتعرض إلى صدمة عنيفة أو نوبات متتالية من الخوف، تحدث تغيرات كثيرة للجهاز العصبي والهرموني لديه، وتفرز مواد خاصة كالكورتيزون الذي يسبب إذا استمر الضغط النفسي ضموراً في الخلايا العصبية في مراكز المخ، المسؤولة عن المزاج والتعلم والذاكرة والتوافق مع ضغوط الحياة، فيصبح الإنسان منهكاً بشكل شديد".


وتضيف المقطري أنه "يكفي أن نعلم أن 25% من الإصابات التي يتم إجلاؤها في أغلب الأحيان هي حالات هلع وذعر، بمعنى أن حالة واحدة بين كل أربع إصابات يتم إخلاؤها أثناء القصف تحتاج إلى التدخل النفسي العاجل، إلا أن الإصابات النفسية أثناء الحروب للأسف لا يتم تسليط الضوء عليها في المستشفيات، علمًا أنها تسجل الكثير من مجمل الإصابات الكلية، ذلك أن الإصابات المباشرة هي التي تحظى بالإهتمام. ومن آثار الفزع الناجم عن القصف، الشلل الهستيري وأزمات تنفس خانقة نتيجة للتوتر النفسي، إضافة إلى زيادة معدل الإرهاب والعنف وتبلد المشاعر، وكلها أعراض تصنف تحت حالة (اضطراب ضغوط الصدمة) التي تعرف اختصارا بـ(PTSD)، والتي تسبب اختلالاً نفسياً رهيباً، وتشكل نسبة اضطراب ما بعد الصدمة لدى الأطفال النسبة الأكبر، وليس بالضرورة أن يتعرض الإنسان بنفسه للمآسي ولكن يكفي مشاهدة النيل من الأقرباء".


تسببت أزمة الحرب الحالية في تعز بآثار كارثية، في حين لم تقم المنظمات الدولية والمحلية بواجبها حيال ذلك كله، كما يؤكد أحمد عفيف، عضو الفريق القطري الإنساني التابع لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية في اليمن. يؤكد عفيف أن "الأضرار النفسية السيئة التي سببتها الحرب في تعز مرعبة جداً، وهو ما جعلها تنعكس على المجتمع، ابتداءً بضغوطات النزاع والنزوح وانعدام المأوى والغذاء ومياه الشرب وفقدان الأهل والمسكن ومصادر العيش، كل هذا جعل غالبية الناس في حالة يرثى لها".


ويشير إلى أن "المنظمات الدولية المعول عليها لم تستطع تغطية فجوة الإحتياج لكل النازحين والمتضررين والمجتمعات المضيفة، ففقد الناس الأمل وأوصدت عليهم الأبواب، وأصيبوا بصدمات نفسية كبيرة وضغوط حياتية ثقيلة، تحولت إلى عنف مجتمعي نشهد آثاره كل يوم".


ويلفت إلى أن "الفرق الميدانية المعنية بتتبع النازحين رصدت أنواعاً عديدة من الضغوطات، مثل الإنتهاك الجنسي والجسدي وانتهاك الكرامة وغير ذلك، تعرض لها النازحون في مراحل تنقلهم. كل هذه الضغوطات ظهرت على شكل عنف أسري تعرض له الأطفال من قبل أهلهم وغير أهلهم، يمارسها الكبار كتنفيس عن الضغوط".

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً