السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الريدة وقصيعر... نديمة البحر ومستودع أسراره
الساعة 19:11 (الرأي برس - عربي )

على بعد 200 كم تقريباً شرق مدينة المكلّا، عاصمة محافظة حضرموت، تقع مديرية الريدة وقصيعر، وبينهما تفصل مناطق شحير والشحر والحامي والديس الشرقية. أوّل ما يلفت انتباهك لحظة اقتحامك "المشقاص"، المجسّمات الكبيرة للقوارب الشراعية، التي توحي بولع أهالي المديرية بالبحر ومزاولتهم مهنة اصطياد الأسماك، إلى جانب اهتمامهم بزراعة الحقول والبساتين.


للتوغّل أكثر في تاريخ المدينة، تحتاج أوّلاً إلى التنقّل في شوارعها الداخلية الترابية غالباً، هناك ستلاحظ كيف أن المباني السكنية متواضعة التصاميم، ولا يكاد ارتفاعها يتجاوز الطابقين أو الثلاثة، في مدينة كان غالبية سكّانها ممّن يستقرّون في دول الخليج، وتحديداً دولة الكويت.


تستدعيك الحاجة، حينئذ، للقاء بأكبر رجالات المديرية، الذين يقضون ساعات يومهم الطويل في السمر وتبادل الزيارات والأحاديث. منهم، بإمكانك أن تستهلم الخيوط الأولى لتحرّكاتك، التي يُفترض أن لا تستثني حصن القائم بأعمال السلطنة القعيطية للشؤون الإدارية في مديرية الريدة وقصيعر.

يروي الحصن كيف كانت قصيعر منطقة محاطة بسور من ثلاثة اتّجاهات هي الجنوب والغرب والشمال، فيما الناحية الشرقية مفتوحة على البحر. في كلّ ركن من أركان السور حصن؛ في الجانب البحري من جهة الشمال حصن النوبة، وباتّجاه الغرب حصن العسكر ثمّ سدة قصيعر، المدخل الرئيس للمدينة، وما بينهما حصن الربع والقاضي وحصن بشهر (موقع الجمارك الحالي)، الذي هُدم في أواخر زمن السلطنة القعيطية، إضافة إلى حصون المنازح والخيصة والمصينعة والحزا. كلّ هذه الحصون المهدّمة امتدّت على طول الشريط الساحلي لمديرية الريدة وقصيعر إلى منطقة المصينعة قرب حدود المهرة، وجميعها اليوم أصبحت مجرّد أطلال وأثراً بعد عين. من أشهر الرقصات في المدينة، رقصة الكنمبورة المرتبطة بمواسم الحجّ


من الحصون، هبطنا إلى مقبرة القوارب الخشبية في خيصة العبادي (خيصة المكلّا سابقاً)، والتي كانت بمثابة مجحب ومرسى لهذه القوارب في عهود غابرة. مشهد غير مألوف يعتريك وأنت تلامس بكلتا يديك العشرات من بقايا السفن التي تحطّمت، وأصبحت خردة بعد وفاة صنّاعها وانتشار سفن الـ"فيبرجلاس". هياكل هذه القوارب نُقلت إلى خيصة سلوم بن زين؛ الإسم الذي يُقال إنّه لشيخ توفّي على ظهر إحدى السفن في عرض البحر، ووصل جثمانه إلى هذه المنطقة، فدُفن فيها لذلك سمّيت باسمه. ومن أبرز الملّاحين في المنطقة، سالم عوض محموص، الملقّب بسالم عواضات، رغم أنّه لم يتعلّم القراءة والكتابة، والشيخ سالم مبارك باعباد؛ وكلاهما شكّلا مرجعاً للملاحة البحرية، وكنز معلومات لكلّ طامع في الخوض في عباب البحر وتحدّي تيّاراته. وكانت الريدة وقصيعر، إبّان عهد الدولة القعيطية، تصدّر الأسماك عبر البحر مجفّفة ومملوحة، وتستورد الحبوب والتمر والأواني المنزلية. ولم تخل علاقتها بالبحر من المآسي، جرّاء الكوارث الطبيعية التي ضربت سواحل حضرموت خلال العقد الأخير، والتي من بينها إعصار تشابالا، هذا إلى جانب اختفاء عدد من البحّارة في عمق البحر، ومنهم من عاد سالماً ومنهم من ما لا يزال مصيره مجهولاً.


ومن أبرز أعلام المنطقة، أيضاً، أوّل شهيد حضرمي في فلسطين، البطل محمّد سعيد باعباد، خرّيج الكلّية العسكرية في القاهرة، والذي استشهد في 1970م، في معركة بمنطقة المشروع، شرقيّ أشدوت يعقوب، ودُفن في الريدة وقصيعر.


تفرّد آخر تتميّز به "المشقاص" في مراسيم الأعراس، التي كانت تستمرّ في الماضي لمدّة ثمانية أيّام. أوّل يوم يشهد مراسيم الربوط والحراوة، أي إظهار العريس بلباسه المميّز، والإختتام في ثامن يوم بـ"الزينة"، حيث تُزفّ العروسة إلى بيت العريس من "الخدر" (بيت مستقلّ تعيش تحت سقفه الفتيات المقبلات على الزواج لوحدهنّ، حيث يتجهّزن للعرس ويتقلّدن أزهى زينة). إلّا أنّه مع مرور الوقت، تقلّصت مراسيم الأعراس في فترة السبعينيّات إلى ثلاثة أيّام، وحاليّاً تقتصر على يوم واحد يتضمّن "ربوط" وغداء وعقد وزفّة، فضلاً عن ألعاب الهبيش والعدّة والزامل للرجال، وأغاني "الغية" أي النعش بهزّ الرأس للنساء.


ومن أشهر الرقصات في المدينة، رقصة الكنمبورة المرتبطة بمواسم الحجّ، وتُقام تحديداً في الأيّام العشر الأواخر من ذي الحجّة، وتنتهي في يوم عيد الأضحى المبارك، وخلالها ينتظم الأفراد على شكل "شنف" (صف مقابل صف)، كلّ صفّ يتكوّن من عشرين فرداً، وفي قلب "المدارة" يلعب شخصان على إيقاعات طبلَين ومراوسَين وطُوس (أوان معدنية صغيرة). وللكنمبورة لحن مميّز خاصّ بها، ومن أبرز شعرائها يسر خميس بن حامد المتوفّى مطلع التسعينيّات، والذي حاول العمل على التجديد في لحن الرقصة، مع الإشارة إلى أن مناطق الريدة والديس الشرقية ومعبر والمنازح تمتلك لحناً وإيقاعات متشابهة، بينما تنفرد قصيعر بلحن أقرب إلى رقصة العدّة.


ومن بين الأبيات الفلكورية التي يردّدها الأهالي أثناء تأديتها:
يأهل الكنابير يالله عسى عوده *** يالله عسى عوده
بغيت في سعفكم عالشرع *** والجوده عالشرع والجوده
وجاءت لفظة الريدة وقصيعر من اسم "قصيع العر"، الذي يعني قصى التراب أي المناطق الرملية. فالريدة هي المناطق الرملية التي ترعى فيها الجمال، و"المشقاص" عند العامّة تدلّ على الإتّجاه إلى الشرق، والمغراب الإتّجاه إلى الغرب، وما زال أهالي المنطقة يتداولون هذه الكلمة حتّى اليوم.
 

مقالات أخرى ل منال القدسي
"ماما نجيبة"... سقى الله أيّامها!
طلاب يؤكّدون مقتل الوجيه... والسفارة همّها تكاليف التشريح والنقل
صالح السييلي... اللغز المعمِّر
محمّد كزعول: خصومات تتعدّى الـ50% للمرضى اليمنيّين في مصر
"قطيع" يمثّلهم ولا يمثّلنا!

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً