السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
رحلة على متن "الزعيمة": عندما يُساوى البشر بالأنعام!
الساعة 19:59 (الرأي برس - عربي )

محمود البتول، محسن فضل، بركات الجبلي، وعلاء الدبسي. أسماء لأربعة من عناصر "المقاومة" التي قاتلت في صفوف القوّات الموالية للرئيس عبد ربه منصور هادي، ضدّ "أنصار الله" والقوّات المتحالفة معها، في الضالع. بعد حوالي عام ونصف العام من خروج "أنصار الله" وحلفائها من الضالع، يصارع هؤلاء الأربعة ومعهم كثيرون الأمراض والأوبئة، بعدما رفضت حكومة الرئيس هادي الإستجابة للمطالبات بمعالجتهم، وتركتهم طريحي الأفرشة يكابدون فيروس "الكبد البائي".


هذا الأخير تسلّل إلى جسد البتول الذي كان تصدّر صفوف قوّات "الشرعية" المحاربة في معسكر العرشي بالضالع، كما تسلّل الفيروس إلى جسدَي فضل والجبلي، وكذلك الدبسي الذي أصيب برصاصة اخترقت عموده الفقري وتسبّبت بشلله. بعد الإستيئاس من إمكانية العلاج محلّيّاً، نصح الأطبّاء محمود البتول بالسفر إلى الخارج لتلقّي العلاج، تحت طائلة الموت الذي بات متربّصاً به. إلّا أن البتول أصرّ على اصطحاب رفاقه الجرحى معه في رحلته، وتحمّل نفقات علاجهم، دونما دراية بما سيتعرّض له في السفر، على متن سفينة مخالِفة، إلى جيبوتي.


"زعيمة" التعاسة
"الزعيمة" هو اسم السفينة التي قدمت من جيبوتي حاملة الأغنام إلى عدن، أغنام الأضحية في مناسبة العيد، على أن تعود بالمسافرين، الذين لا يعلمون بأنّهم سيُقدّمون هم أنفسهم أضحيةً لطمع وجشع ربّان السفينة. عند الساعة الرابعة من يوم الثلاثاء، السادس من شهر سبتمبر الحالي، وفي ميناء المعلّا بعدن، كان الموعد لاصطفاف المسافرين. الحاجة هي ما تجعل الغريق يتمسّك بقشّة النجاة، كون الوجع طغى. خيّم الصمت على الوجوه ولم يستثن مريضاً سواء كان جنوبيّاً أم شماليّاً. لم يعد ذلك مهمّاً الآن، طالما أن الحاجة الطبّية توحّد الضمير الإنساني. وعلى كلّ حال، فقد أوكلت لـ"الزعيمة" مهمّة ساوت بين الإنسان والحيوان، وهي النقل، نقل أيّ شيء. ولسخرية القدر، فقد كانت الأفواج تتقاطر وكأنّها سيول جرارة، اللهم لا حسد. أحد الخبثاء قال معلّقاً: إن حال القبطان المسرور للكثرة العددية يقول "يرزق الله من يشاء بغير حساب".


عند صعود المسافرين على متن "الزعيمة"، بدأت الإتّهامات بجشع القبطان تتعالى، والتململ من الطمع للكسب والربح السريع، ولو كان ذلك على حساب البشر وخصوصاً المرضى من كلا الجنسين، يتصاعد. كانت الأيادي على القلوب، والأصوات ترتفع أكثر، وبعد أربع ساعات من الإنتظار ظهرت "زعيمة" أخرى، ناشدها المسافرون التقليل من حمولتهم، لكن القبطان قرع طبول الخنّ (تشغيل المحرّكات)، في محاولة للهروب، وإبداء حسن النية في الإنطلاق.


الموقف حقّاً في غاية الخطورة، أكثر من مائتين وخمسين نفساً حُملت على ظهر "الزعيمة"، أنا واحد منها. أثناء التحرّك، تأرجحت المشاعر ما بين الإستسلام للقدر المكتوب "في لوح محفوظ"، وبين استذكار "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة". صرخات الطفولة، أنين المسنّين، بكاء النساء، آهات المرضى، ليس هناك ما يُسمع غير هذا، واللعنات، حين يريد أحدهم مدّ رجله ولا يجد مساحة لذلك، بسبب ازدحامنا في "الزعيمة".
العمّال الهنود وحدهم يتألّمون لآلامنا، ولكنّهم لا يملكون حقّ إزالة الشكوى. بعد ساعة من الرحلة، قدّم إلينا العمّال وجبة الغداء، كانت عبارة عن قرص "روتي" (خبز) يزن عشرة جرامات تقريباً، يمكنه دخول موسوعة غينيس كأصغر وأنحل "روتي" في العالم، لكنّه يحوي بداخله خمس حبّات فاصولياء. البؤس يبدو جلياً في "الزعيمة"، على الرغم من الرسوم الباهظة التي يدفعها المسافرون، والتي بلغت 120 دولاراً للمسافر الواحد. كما أن الرحلة ليست طويلة، لكن "التسلحف" في حركة "الزعيمة" هو السبب.


الوصول إلى جيبوتي
ثلاث عشرة ساعة أو تزيد حتّى وصلت السفينة إلى مرسى جزيرة أبخ الجيبوتية. هنا، صعد رجل الأمن الذي استنكر الحمولة الزائدة، واصفاً إيّاها بـ"غير الشرعية"، متسائلاً عن سماح الأمن في ميناء عدن لمرور القبطان بهذا الوزن؟ قائلاً "ألستم بشراً؟".


عادة ما يستمرّ التفتيش للسفن ساعتين، من قبل الأمن والجمارك، وهذا ما رأيناه. كانت السفر تمضي من أمامنا، ونحن لا نزال على قيد التفتيش. وبعد ستّ ساعات من التفحّص والتمحيص في الهويّات، أُخلي سبيل "الزعيمة" المتجاوزة للأعراف والقوانين النافذة في أيّ بلد كان. وبذلك، شقّت طريقها نحو العاصمة جيبوتي، غير آبهة بفعلتها هذه. بقيت فقط 25 كيلو متراً تفصلنا عن العاصمة.


في تمام الخامسة عصراً، لفحت الشمس الأجساد، عمّت الفرحة صدور المسافرين، قال أحدهم هامساً في أذن حبيبته الطاعنة في السن "ها قد وصلنا"، لتعبّر عن امتنانها بابتسامة ملأت وجهها. أربع وعشرون ساعة بالتمام والكمال حتّى طويت رحلة أوجعت الأبدان، وأبكت النفوس.


مريض من أبناء محافظة إب اليمنية، يُدعى محمد، وصف الرحلة بـ"الجحيم"، واكتفى من الكلام. مريض آخر من محافظة أبين الجنوبية، يُدعى عبد الله يسلم، رأى أنّها "مهزلة، لقد تشبّهنا بالأغنام التي اقتيدت إلى عدن لسلخ جلودها أضحية للعيد، كنّا مثلها تماماً"، أمّا مالك "الزعيمة"، ويُدعى مروان، فدافع عن دجاجته التي تبيض له ذهباً، وادّعى أن سفينته بإمكانها "حمل أربع مائة طنّ".

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً