الأحد 24 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
مكتبة عبد الناصر... "رعى الله زمنها"
الساعة 00:49 (الرأي برس - عربي )

لم تعد تلك الحجرة الطينية المتواضعة، الواقعة في ركن أحد شوارع مدينة عتق القديمة في شبوة، قادرة على استقبال زّوراها.

تلك هي مكتبة الفقيد صالح محسن برمان الخليفي، والتي أطلق عليها اسم زعيم القومية العربية، جمال عبدالناصر. مكتبة ظلّت طوال أربعة عقود من الزمن منارة ثقافية وإعلامية، والنافذة الوحيدة التي تتزوّد بها محافظة شبوة بالمنشورات الصحافية والأدبية. هو البكاء على الأطلال إذاً، ما يفعله، اليوم، كلّ من ذهب ليشاهد ما آلت إليه المكتبة، التي اغلقت أبوابها، العام الماضي، وإلى أجل غير مسمّى.
يقول محسن برمان، نجل مؤسّس المكتبة، لـ"العربي"، إن "المكتبة صارعت، خلال السنوات القليلة الماضية، من أجل البقاء واستمرار إشعاعها الثقافي، الذي بدأ منذ ستّينيات القرن الماضي، لكن اندلاع الحرب العام الماضي، كان سبباً في توقّفها، نظراً للشلل الذي أصاب الحياة العامّة في البلاد، وخاصّة في المواصلات، ناهيك عن الأضرار التي تعرّضت المكتبة لها بسبب الحرب".
رائد التنوير في شبوة 
ولد مؤسّس وعميد المكتبة، الفقيد صالح محسن برمان، عام 1934م، في منطقة الجابية إحدى مناطق قبيلة خليفة، وهاجر، في مطلع شبابه، إلى المملكة المتّحدة لطلب لقمة العيش، حيث تنقّل بين المدن البريطانية، حتّى استقرّ به الحال في مدينة برمنجهام، وقد اكتسب الفقيد ثقافة جيّدة في المهجر.
عاد إلى أرضه في العام 1967م، فأخذ على عاتقه مهمّة نشر الوعي الثقافي والتعليمي في مناطق العوالق وخليفة والسلطنات المجاورة، حيث أنشأ أوّل مكتبة ثقافية في عتق، وهي مكتبة جمال عبد الناصر، فأصبحت صرحاً ثقافيّاً وتنويريّاّ وتعليميّاً مهمّاً.
منذ العام 1967م، لعبت مكتبة عبد الناصر في عتق دور حجر الزاوية في نشر الوعي الثقافي في شبوة، في فترة الستينيّات والسبعينيّات والثمانينيّات والتسعينيّات والألفية الثالثة، إذ كانت المكتبة تمدّ أبناء المحافظة بالصحف والمجلّات والكتب الثقافية.
في فترة الستينيّات، كانت صحف "الأيّام" و"فتاة الجزيرة" و"النهضة" وغيرها، وبعد الإستقلال، كانت صحف عديدة مثل "14 أكتوبر" و"الثوري" و"صوت العمّال" و"الراية" و"الفنون"، ومن الصحف والمجلّات العربية "روز اليوسف" و"صباح الخير" و"العربي" و"الدوحة" و"الهلال" و"الصقر الرياضي" و"ماجد" و"سمير" والمجلّات الثورية الفلسطينية، بالإضافة إلى الكتب والدوريّات الثقافية والأدبية.
إرتبط أبناء المحافظة بمكتبة عبد الناصر، فكانت قبلة السياسيّين والمعلّمين والطلّاب من ثانوية حنيشان ودار المعلّمين وموظّفي الإدارات في عتق، الذين كانوا يتسابقون على المكتبة للتزوّد بكلّ جديد ومفيد من عالم الثقافة والمعرفة والعلم والسياسة والإقتصاد والرياضة والفنون وغيرها، كما كانت المكتبة تزوّد مديريّات المحافظة بمختلف الإصدارات الصحافية والثقافية التي تصلها.
ظلّ عميد المكتبة ومؤسّسها، الفقيد صالح برمان، يصارع من أجل استمرار المكتبة، حتّى وافاه الأجل في 02/09/1992، تاركاً إرثاً ثقافيّاً وتنويريّاً مهمّاً. وأبى أبناؤه إلّا أن تواصل هذه المكتبة الرائدة مسيرتها الثقافية من بعده، ولمدّة 23 سنة أخرى، لكن العام 2015م كان محطّة توقف اجباري لأعرق مكتبة في شبوة.
ذكريات لا تنسى كانت مكتبة عبد الناصر قبلة السياسيّين والمعلّمين والطلّاب
الكاتب والمحلّل السياسي الجنوبي، صالح الجبواني، من أبناء شبوة الذين يحملون ذكرى طيّبة لهذه المكتبة. يستعرض، في حديثه إلى "العربي"، شريط ذكرياته عنها بالقول: "زرت مكتبة عبد الناصر قبل عقود عدّة خلت، وأنا لا أزال صبيّاً صغيراً، ووقتها، كنت أسكن في عتق، وقد كنت شغوفاً بالقراءة منذ تلك السنّ، ووجدت احتراماً وأبوّة من قبل العمّ العزيز المغفور له، صالح محسن برمان، صاحب المكتبة، الذي قال لي، ذات يوم، وأنا أتطلّع لعناوين الصحف والكتب، وليس معي حتّى نصف شلن أشتري به صحيفة: معقول (الموّاض) يقرأ؟ ويقصد بالموّاض الشخص الذي يحرّك الوعاء الجلدي (الشكوة)، الذي يضعون فيه اللبن ليتحوّل إلى حقين، فضحكت خجلاً، ومدّ يده وناولني مجلّة "العربي" وقال: إقرأ يا (الموّاض)، فقلت ما عندي قيمتها، فردّ باسماً هي لك منّي ما دام تحبّ القراءة، ففرحت كثيراً، وظلّت هذه المجلة بحوزتي لسنوات طويلة، وظلّ يدعوني بـ (الموّاض) كلّما زرت المكتبة، وزياراتي لها ظلّت مستمرّة حتّى وافاه الأجل، ثم استمرّت في عهد أولاده".
ويستطرد في ذكرياته قائلاً: "كنت عندما أدخل مدينة عتق -وكانت مدينة صغيرة– أذهب لمكتبة برمان، فقد كانت ملاذي وحديقتي ومنتزهي، لقد كانت جزءاً مهمّاً من حياتي. ونتيجة لذلك، صار أولاد العم برمان إخواني وأصدقائي"، ويتابع: "لقد زرت مكتبات كثيرة، وأذكر أنّني لمّا دخلت مكتبة مدبولي في القاهرة، قلت لمرافقي هذه أشهر مكتبة في العالم العربي، لكنّها عندي لا تساوي شيئاً بالمقارنة مع مكتبة برمان".
ويشيد الجبواني بـ"الدور الهامّ الذي تميّزت به المكتبة في تنمية مداركه وثقافته، وغيره المئات من أبناء شبوة"، لافتاً إلى أن "كثيراً من أبناء شبوة ارتبطوا شعوريّاً ووجدانيّاً بهذه المكتبة، حتّى باتت من الأجزاء المشرقة في حياتهم". 
يبدي الجبواني قلقه على الحال الذي آلت إليه المكتبة، ويتحدّث عن مقترحاته بهذا الشأن: "كلّمت آل برمان قبل أسابيع، أثناء زيارتي لهم في الطائف في السعودية، حينما سألوني عن مقترحي حول المكتبة، بعد أن أغلقت وتداعت جدرانها، وهم يفكّرون ببنائها من جديد، فقلت لهم: رمّموها كما هي، وإذا فكّرتم في الإستغناء عن الجدران الطينية صوّروها، ولتكن جدران الأسمنت نسخة طبق الأصل من شكل المكتبة الحالي". 
رسالة ثقافية وتنويرية 
محمد يسلم باكركر، وكيل مدرسة ثانوية في مديرية ميفعة حاليّاً، يتذكّر، هو الآخر، بشيء من الحنين والفخر، الأيّام الخوالي لتلك المكتبة، ويستعيد شريط ذكرياته أثناء دراسته في معهد المعلّمين عام 1983م، وقصّته مع مكتبة عبدالناصر: "كنّا عند الساعة الثالثة عصراً نذهب للإطلاع على الزاد اليومي من الصحف والمجلّات التي تصل المكتبة يوميّاً، عبر باص النقل البرّي القادم من مدينة عدن، وكنت أحرص على اقتناء ما يطيب من الصحف والمجلّات المحلّية والعربية، وهكذا الأمر لأناس آخرين من أبناء المحافظة، وكنت شخصيّاً حريصاً على متابعة يومية "14 أكتوبر"، بالإضافة إلى "صوت العمّال"، وبعض المجلّات الرياضية".
وأشار باكركر، في حديثه لـ" العربي"، إلى أن "مكتبة عبد الناصر كانت الزاد الثقافي لأبناء شبوة عامّة، وقبلة جميع من يعشق الصحافة والثقافة فيها، بحكم تواجدها في عاصمة المحافظة، التي يتواجد بها طلّاب ثانوية حنيشان ودار المعلّمين وموظفّي الإدارات والمرافق الحكومية، وأفراد الجيش والأمن"، مضيفاً أن "مديريّات المحافظة الأخرى كانت تتزوّد بالصحف والمجلّات والكتب من هذه المكتبة".
ويثمّن باكركر "الدور والجهد الكبير الذي لعبه مؤسّس المكتبة، الفقيد صالح برمان"، موضحاً أن "الرجل كان يحصل على دخل بسيط ومحدود من المكتبة، بيد أن همّه الأوّل من المكتبة، كان تقديم رسالة ثقافية وتنويرية واجتماعية، في وقت كان العمل في مثل هذه المهنة يجلب بعض المتاعب".

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص