الأحد 24 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
فكرية شحرة
ذكريات نزوح .. (1)
الساعة 16:50
فكرية شحرة


أشعلت ثلاث شمعات في إسراف لا مبرر له .. فقد كنت أشعر أن جوفي مظلم غارق في الكآبة والخوف, ولا شموع ستبدد هذا الشعور ..

لقد اشتعلت الحرب فجأة .. وعلى إثرها دكت ضربات التحالف أهداف كثيرة في مدن اليمن حتى وصلت إلى مدينتي ..

ظننت أنني في غاية الاستعداد لسقوط صاروخ في مكان قريب تصل شظاياه لنوافذي, لكني كنت أكذب على حدسي فلا استعداد لدي لأي حروب ..
الحروب لا تقتل الإنسان فقط, إنها تقتل كل شيء في طريقها, تقتل حتى الهواء الذي يتنفسه الأحياء, فيدخل أجسادهم ميتا ويتعفن في صدورهم وتصبح قلوبهم مقابر متنقلة .
كنت وحدي ذلك المساء .. وهذه هي ضريبة الانتماء ..

أجساد الصغار قد تكومت في الفراش تلتمس الأمان من بعضها, متشبثين بي كي لا اتركهم, لقد ناموا في انتظار انفجار .. والانتظار للرعب أشد رعبا دائما .

حين سقط الصاروخ الأول في مدينتي سقط حاجز الأمان دفعة واحدة..
ذلك اليوم عصرا سقط بيت البعسي فوق قاطنيه ..
قال لي الشاب الصغير : أنه وصل فوق ركام الأنقاض بعد أول ضربة صاروخية وهناك سمع نحيب النساء المتوجع والمصدوم , إنه لن ينسى تلك الشابة التي مدت يدها إليه منتحبة وهي تقول بصوت مخنوق: خرجونا ... قال لها بحماسة يائسة : اصبرين سنخرجكن ..

لكن السقف الإسمنتي كان أثقل من سواعد عشرات الرجال والشباب الذي ألتفوا حول الركام للمساعدة أو السرقة . وكانت طلقات رشاش المراهق الحوثي فوق رؤوسهم كفيلة بجعلهم يتركوا السقف ينهار أكثر فوق أجسادهن ..
قال الشاب الصغير : أن أحد الذين حاولوا رفع السقف الإسمنتي أنفعل بقوة وهجم على المراهق الحوثي وكال له عددا من الصفعات والركلات وهو يصرخ بتشنج شديد :
_ أنتم السبب يا كلاب .. أنتم السبب في قتلهن وقتل البلاد كلها .
و في المساء وعلى ضوء الشموع الثلاث ..كنت أحدق في السقف برعب ..
كرهته .. وكرهت كل السقوف والجدران التي تحمينا, وفجأة تطبق على أرواحنا حتى تنتزعها .
في آخر ساعات ذلك النهار كان حي صلبة السيدة والأحياء المجاورة شبه خالية ..
إنه نزوح الصدمة والرعب, شيء لم تتخيله مدينتي .

وكان لابد من النزوح .. صعد أبن الجيران يعرض المساعدة لأخذنا إلى حيث نشاء .. 
فقلت له : ربما في الصباح .. 
في مدينتي إب وغيرها كثير من مدن اليمن تتكالب على الناس جهات الموت بشكل يدعو للرعب فإن لم تمت بسلاح ميليشيا الحوثي, ستموت بقصف المليشيا نفسها ..
وإذا نجوت فستموت تحت قصف قوات التحالف بنيران صديقة, فهذا التحالف جاء من أجل مساعدتنا لصد هذه المليشيا ومساعدة عزرائيل أيضا بقتلنا عن طريق عدم الاهتمام بمن يجاور هدفا يجب قصفه .
لقد قتل بقصف التحالف وشرد أعدادا تضاهي من قتل وشرد بفعل جماعة الحوثي وحليفه المخلوع, هل ترون من هو الضحية دائما ؟ ...إنه الشعب البريء ..
لقد نسيت أن أذكر جهة أخرى للموت : إنه الجوع ..
ربما لم تسجل حالات وفاة بسبب الجوع, لكن مئات وألوف من قتلت نفسياتهم جوعا في عجز عن توفير لقمة العيش لعائلاتهم .. لقد كان الجوع يفترس اليمنيين خوفا من الجوع والحاجة, كل شيء أنعدم فجأة وأرتفع سعر الموجود إلى درجة لا يتخيلها الفقير .

البطالة واختفاء فرص العمل وتسريح العمال من أشغالهم أصابت اليمنيين بالجنون فقرا . 
لا يوجد أعمال لكي يأكل الأطفال ..
الوقود .. الكهرباء .. الغاز ..
كان ثلاثي شلل الحياة المتبقية لدينا في اليمن .
لأيام وأقول أيام ولا أدري هل ستصبح شهورا أو سنوات لم نرى الكهرباء .. أصبحنا في ظلمة داخل ظلمة.


الوقود عصب الحياة أختفى فأختفت معه الحياة بكل تفاصيلها التي لم نكن ننتبه لها ..
لا بضائع .. لا ماء .. لا مواصلات .. لا اتصالات .. كل شيء أختفى ..وأصبحنا معزولون عن كل شيء يمكنه أن يخبرنا هل سنكون بخير ؟
في الصباح ومن نافذتي المطلة على الحي شاهدت ..
جماعة من المسلحين قد حشطوا ملابسهم حتى بانت مؤخراتهم يمرون في نفير غبي سيتصدون للطائرات بعصي الخشب الرشاش على أكتافهم ..
زامل يصدح من مكان ما .. عن الحرب التي ستحول الخضرة إلى رماد .. ذكرني أنني كنت أحب أن أشرب بن الصباح على صوت فيروز وهي تصدح من قناة السعيدة .

تمر نساء وأطفال محملين بملابسهم في اوعية صابون كريستال يفرون إلى المجهول ..
و مجنون حافي القدمين يسير بتعقل واضح صوب مكان الانفجار في الصالة الرياضية ..
ربما يبحث عما خلفه المجانين ليستفيد منه ..
وأشخاص يمرون ذهابا وإيابا مسرعين في لهفة وأثناء مرورهم يلعنون آل سعود بطريقة تخص الغير مهذبين ..وفي طريقهم لا ينسون لعن حزب الإصلاح ..
الإصلاحيون دائما في وجه المدفع حتى وإن حاولوا أن يكونوا خلفه أو من يوجهون أهدافه .
رجالهم إما مختطفين ومعتقلين أو مشردين وهاربين من ذل وإهانة الاعتقال .
حين يأتي الصباح .. تشعر أنك على ما يرام .

لذا كنت أتمنى ألا أترك منزلي, رغم شعوري أنني الباقية الوحيدة في الحارة, كانت مخاوف الناس أن يضرب مبنى البلدية الذي يتوسط الحارة والذي يفصلني عنه منزلين ومساحة أرض صغيرة قد انتقلت إلي بقوة .. من أجل الصغار يجب أن نترك البيت ..
لقد كانت أسوأ ليلة مرت عليهم على الأطلاق .. يبحثون عن النوم كي لا يخافوا ..
وكلما غرقوا في نوم أرق هبوا واقفين لصوت انفجار آخر ..
كان لابد من النزوح من أجلهم .. تجربة لم تخطر على بالي يوماً ..

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص