الاثنين 25 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
علي ناجي الرعوي
ماذا بقي لكي نقر بالفشل؟!
الساعة 16:20
علي ناجي الرعوي


من النادر أن تجد أمة أو شعباً على وجه الأرض يمعن في تدمير ذاته ووجوده وتاريخه وحاضره ومستقبله، كما هو حال الشعب اليمني في المرحلة الراهنة، والذي تصر أطرافه أحزاباً وجماعات موالاة ومعارضة على مواصلة سياسية الانتحار الجماعي تماماً كما تفعل الحيتان والدلافين حين تقرر الانتحار فترتفع إلى علو شاهق لتعود لتصطدم بالماء أو الأرض وتموت، فقد وصلت تلك الأطراف إلى حالة افتقدت معها المخيال السياسي وموهبة ابتداع الحلول والمخارج للمشكلات، التي تعصف في البلاد لتستسلم لهذا النزيف المستمر والصعود المقلق لأعمال العنف وأصوات الانفجارات التي لا تكاد ان تهدأ هنا حتى تدوي في مكان آخر وكأنها من تنتظر إعلان وفاة هذا الوطن لتقوم بتشيعه إلى مثواه الأخير. 

وهذا النمط (من الانتحار الجماعي) يبدو شاخصاً في الانهيارات المتتالية للعملية السياسية وسقوط قواعد الدولة وتغول جرائم الارهاب واستشراء مظاهر الفوضى، التي يمسك فيها الكل بخناق الكل من دون أن يدري احد من يحارب من بالضبط ولأي هدف أو مشروع يحارب في ظل غياب أي قدر من الانسجام بين اطراف العملية السياسية من جانب وبين هذه الاطراف والسلطة الحاكمة من جانب آخر، وكأن هذه المنظومة لا يعنيها من قريب أو بعيد التدهور، الذي يعاني منه المجتمع والذي وجد نفسه يتخبط وسط ركام هائل من الخيبات ومشاهد الجثث والدماء التي تراق في الشوارع وعلى قارعة الطريق. 

من السهل القول بأن اليمنيين بنزوعهم إلى سياسة (الانتحار الجماعي) يغتالون حاضرهم ومستقبل أجيالهم وانهم بهذا الأسلوب المدمر والمميت يتقافزون فوق حطام مقدراتهم، التي كانوا يأملون أن يبنوا بها دولتهم الجديدة.. ومن السهل القول أيضاً بأن باب التمني لم يعد متاحاً ولو كمهرب مؤقت من جحيم الواقع البائس، الذي يتقاسمونه في شبه دولة افتقد رئيسها الكثير من صلاحياته ومجلس نواب نسي الناس متى خرجوا لانتخابه وحكومة تعوم في فراغ الخزينة العامة ونكسة تراجع اسعار النفط، الذي تمثل عائداته المورد الاساسي لتلك الخزينة، وكذا فراغ دولة متآكلة وتركة مؤسسات وأجهزة تعمل في جزر منعزلة.. لكن ما هو اصعب من كل ذلك هو ان يرى الانسان وطنه يتدمر وأهله ينتحرون جماعياً ولا يستطيع ان يفعل شيئاً، خصوصاً إذا ما كان الجميع يبرر صمته على هذا الواقع بالركون إلى وعد منتظر للمستقبل، الذي قد لا يأتي إن لم يتحول إلى مجرد وهم كبير وكابوس يطارد الاجيال . 

قد لا ينفع الغريق التراشق بالتهم بين المتسبب في غرقه وبين من يتفرج عليه وهو يغرق بقدر ماينفعه ان يعمل المتخاصمين بروح صادقة ونوايا حسنة لإنقاذه وانتشاله من الامواج المتلاطمة، وان يتحمل كل طرف مسؤولياته مذنباً كان أم ضحية، على اعتبار ان العاصفة إذا ما هبت فإنها لن تفرق بين حاكم ومحكوم وبين وزير وغفير وغني وفقير ولا بين شجر أو حجر، ومثل هذه المسؤولية قد تكون تشاركية أو قد تكون جماعية أو نخبوية أو غير ذلك، فإنها تصبح فرض عين إذا ما تعلق الأمر بإنقاذ الوطن الذي يتدحرج نحو الهاوية على مرأى ومسمع من كل أبنائه. 

ليس لغزا ما حصل ويحصل في اليمن.. فالرواية معروفة وأبطالها واضحون ولا عقد مخفية فيها على الاطلاق.. وهي رواية بدأت بلقاء جمع وزيرة الخارجية الامريكية السابقة هيلاري كلينتون نهاية عام 2010م بقادة أحزاب اللقاء المشترك، حيث حرصت المسئولة الامريكية في هذا اللقاء على ان تسال قادة الاحزاب عن الدولة التي يريدونها ومشروع التغيير في خطة احزابهم ؟ إلا أن الجميع لاذ بالصمت فادركت حينها كلينتون أن لا احد من هذه القيادات او الاحزاب يملك مشروعاً للتغيير بقدر اهتمام الكل بالوصول إلى السلطة فما كان من الوزيرة الامريكية سوى القول: اتركوا الأمر لنا ونحن من سيتدبره.! 

وبالفعل فلم يتأخر الوعد كثيراً فقد انفجر الصراع في اليمن بعد اشهر قلائل من ذلك اللقاء قبل ان يتحول الى مواجهات عسكرية بدايات عام 2011م ليتدخل الخليج لاحتواء الموقف وتأمين انتقالاً هادئاً للسلطة بين الرئيس علي عبدالله صالح ونائبه عبدربه منصور هادي، إلا أن تلك الجهود الخليجية سرعان ما جرى الالتفاف عليها وتحييدها من قبل الامم المتحدة، التي عمدت الى تدويل الازمة اليمنية وإخضاعها لقواعد الفصل السابع لتدخل الامم المتحدة ومن خلفها مجلس الامن الدولي من النافذة ويخرج الرعاة الخليجيين من الباب. 

في اليمن لسنا بحاجة الى تقديم ادلة وقرائن على الدور الملتبس، الذي لعبه مبعوث الامم المتحدة وكيف نجح هذا المبعوث في كسر الحاجز المقاوم لتدويل الازمة اليمنية، فالشواهد الدالة على ذلك كثيرة ابتداءً من نقل الصراع السياسي على السلطة الى صراع من نوع اخر بين الشمال والجنوب، وكيف تم استقطاب الفيدراليون من اليمين واليسار إلى مؤتمر الحوار واقناعهم بمشروع إعادة بناء ديموغرافية المجتمع اليمني بما يتكيف مع اعادة رسم خارطة البلاد في نطاق الاقلمة ليقسم اليمن فيدراليا داخل مؤتمر الحوار بعد ان قسم قبل ذلك عسكريا ومناطقياً، وها هم أولئك الذين حملوا لواء الفيدرالية ينقسمون اليوم من جديد حول شكل هذه الفيدرالية بين فريق يريدها من اقليمين وآخر يريدها من ستة اقاليم في جولة جديدة من الصراع لا نعلم أين ستنتهي بنا. 

سيتطلب الامر وقتاً ليس قليلا ليتبين الخيط الابيض من الاسود في العاصفة اليمنية، التي تتجه الى مستنقع خطير، ونذرها تتمثل اليوم في صراع مذهبي ملتهب وعمليات انتحارية دامية ودعوات لتفكيك الدولة إلى مكونات اصغر جهوية وطائفية ومذهبية مرشحة لان تتقاتل في ما بينها على بئر نفط او على بئر ماء أو على مرعى للابل أو الغنم لا فرق وذلك ما نبه إليه كافة المراقبين، الذين تساءلوا ومازالوا عن الاسباب الحقيقة وراء حالة التفسخ والتشظي التي تشهدها المنظومة المجتمعية، خاصة وان اليمن على مدى قرون لم تعرف الصراعات والحروب المذهبية فقد تعايش الشافعية والزيدية في سلام ووئام، بل إن المذهبين ظلا قريبان لبعضهم البعض بشكل كبير، الى درجة ان هناك من يصف الشافعية بيسار المذاهب السنية والزيدية بيمين المذاهب الشيعية.. فهل كانت مثل هذه الوحدة شكلية واختفت تحت وطأة النزاعات التي تعصف بالمنطقة والتي تأخذ عادة بعداً طائفياً ؟ أم أن أخطاء المرحلة الانتقالية هي من اسهمت في ظهور هذه الشروخ في جدار الوحدة الوطنية ؟ 

وفي لحظة عاصفة كهذه فإن ما نحتاجه اليوم ليس إلقاء اللوم على طرف وتبرئة الاخر وإنما سد الثغرات التي تهب منها رياح الفتنة التي ستقتلعنا جميعاً، وسيكون الخطأ الأكبر ألا نعترف الآن أننا من هزمنا انفسنا بأنفسنا وفشلنا في ادارة المرحلة الانتقالية وجعلنا الاخرين هم من يتحكمون بمصائرنا لنصل الى هذه الخاتمة السيئة، التي لن توقف فواجعها الفيدرالية ولا الدستور الجديد، الذي ليس فيه ما يدعو الى التفاؤل على المستوى الوطني بقدر انه الذي يضمن استمرار المرحلة الانتقالية لسنوات غير محددة ربما ينتهي اليمن قبل نهايتها.

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص