الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
دراســة "التنصُّص" و تناسخ المحافل في "ساق الريح" للكاتبة ليلى مهيدرة - الحبيب الدائم ربي
الساعة 16:54 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


نحاول في هذه الورقة رصد آليات النص الذاتي أو التنصص Autotexte، في رواية الأستاذة ليلى مهيدرة "ساق الريح"، وفقما بسطه لوسيان دالينباخ وهو يشخص تمرّي (من المرآة) النص، حيث يبني "تعالقات مونولوجية تأملية مع ذاته أو مع جزء أو أجزاء من هذه الذات" عبر فعل انشطاري La mise en abyme باعتباره رهانا حواريا (مونولوجيا) يجريه النص ذاتيا، عبر التلخيص والتكرار والتضعيف والتعرية والتكثيف والاستباق والاسترداد" . . وتكمن قيمة هذه الظاهرة التناصية في كونها قابلة للقراءة على وجهين مجتمعين: محافظة التنصص " على دلالته النصية الخاصة، و"قيامه كذلك بدور تضعيفي ميتانصي". وهو وإن كان "مرتزقا نصيا" حسب توصيف داليباخ إلا أنه يساهم في تضفيرات نصية محايثة قد تمنح النص كثافة شعرية ودلالية.
 

في التباسات العنوان: ساق الريح
 

تنفتح رواية "ساق الريح " للكاتبة المغربية ليلى مهيدرة على عوالم متماوجة، مليئة بالدهشة والانتظار، بدءا من مناص العنوان الذي وإن كان يتناص، مع عناوين فنية مختلفة منها أغنية " ساق الريح"للمطرب الشعبي اليمني علي بن علي بن يحيى الآنسي المزداد بصنعاء سنة 1933، وهي من كلمات الشاعر سعيد الشحي،.وديوان الشاعرة المغربية نجاة الزباير " أقبض قدم الريح"(2007)،و رواية "ساق البامبو" للكاتب الكويتي سعيد السنعوسي (الفائزة بجائزة البوكر العربية برسم دورة 2013 )، إلا أنه، مع ذلك، يطرح سؤال إضافة الساق إلى الريح، التي هي "أَسْطَقِس" لم يثبت أن كانت له ساق، ولو على سبيل المجاز. هذا عدا استحضار مصطلح "ساق الريح"wind leg المتداول في مجال الطيران بالمدرجات حيث الإقلاع والهبوط بخلاف اتجاه الريح. وأيضا العبارة الفرنسية pied-de-vent (قدم الريح) التي تطلق على ظاهرة اختراق شلالات الأشعة للغيوم. والتي يقول بشأنها المأثور الكندي" حينما نرى "قدم الريح" فتلك تجليات نزول الله إلى الأرض". وإذا كان من السهل استيعاب أن تكون لأشجار البامبو سُوقٌ وجذوع فإنه يظل من الصعب تخمين طبيعة العلاقة بين ساقِ وريحٍ. ولو أن ذلك الترجيح قد يدخل، في الحالتين، ضمن الوجوه البلاغية التي ينزاح فيها الكلام عن معناه الحقيقي. علما بأن "الساق" المفترضة للريح قد لا تعني بالضرورة ذلك المقطع المعلوم من الأجساد الحية، أو كما يُجملها "لسان العرب" في الإنسان: ما بين الركبة والقدم، ومن الخيل والبغال والحمير والإبل: ما فوق الوَظِيف، ومن البقر والغنم والظباء: ما فوق الكُراع" ، لأن فهمنا لها ، على هذا الأساس سيظل مشوشا وغير مقبوض عليه بما يكفي من دقة، فيما المراد قد يكون، ربما، قريبا من كون الساق المعنية( وهي مؤنثة طبعا) ، وحسب المعاجم العربية أيضا ، هي "التنفس"و "النفـَس" إذ ورد عن علي بن أبي طالب أنه قال في حرب الشُّراة "لا بُدَّ لي من قتالهم ولو تَلِفَتْ ساقي" أي أنفاسي، ليس هذا وحسب، بل إن الساق الأقرب إلى منطق النص ، ودائما وفق المعنى المعجمي،هي " ذكـَـرُ الحَمام" أو فرخُه الحُرّ، هذا إذا ما استحضرنا العلاقة القديمة بين الحَمام الزاجل والرسائل، وبالنظر إلى كون الحكاية في الرواية تدور حول رسائل مجهولة، ولا يدري أحد أي ريح ساقتها(من السوْق والسياق)أو أي صُدفة قادتها على ساق الحمام (ككناية ) إلى صندوق بريد في عمارة تقطنها سيدة تعاني من عنوسة ووحدة قاسيتين. لهذا فإننا في هذه الرواية أمام عنوان يضع أفق انتظار القراءة أمام كافة الاحتمالات، كشأن الرسائل المريبة التي باتت ترِد على سيدة يفترض أن تكون قاطنة بعمارة أغلب شققها غير مأهول، " إلا من رَجُل عجوز أجنبي ، و من أسرة حديثة العهد بالزواج والإقامة".

ورغم أن الرسائل موجَّهة باسم سيدة لاوجود لها بالعمارة، وبما أن شخصية الرواية ،كما ذكرنا، كانت تقاسي "حياة جافة" فقد استبد بها فضول التلصص على فحوى هذه الرسائل. صحيح أنها قاومت نزوع حب الاستطلاع بوخز ضمير، وأجلت فتح الرسالة الأولى، والثانية والثالثة،إلا أنها لم تنجح في لجم فضولها مع ورود الرسالة الرابعة، ملتمسة لنفسها أعذارا منها كونُِ القدر اختارها لتكون "شاهدة" على قصة حب بين رجل وامرأة غير معلومين. بل أكثر من ذلك فإن ما تحويه الرسائل قد أيقظ فيها حس الأنوثة، و التي يبدو أنها فرّطت فيها منذ مدة غير قصيرة. تقول الساردة- البطلة:

" والأهم أنها حررتني من حياة رتيبة أعشيها، وجعلت الأنثى بداخلي تنتفض و تعود لتتودد لمرآتها وتجدد علاقتها بأشياء تناستها منذ زمن، لأجدني في لحظة ما متشوقة لمقابلة المرأة التي تتغنى بها الرسائل". ولئن كانت الرسائل الثلاث "مبهمة" ولا تكشف عن معطيات أو تفاصيل من شأنها إجلاء "حقيقة" حُب واقعي يسمي الأشياء والأفعال والصفات والأحوال، فإن الرسالة الرابعة فتحت أفقا لـ"تناص ذاتي أو "تنصص" ، وفقما حدده لوسيان دالينباخ، تتناسخ فيه المحافل والحكايات بشكل تضعيفي. 
 

المحفل الأول: حين تختلق الحكاية مرجعها
 

لربما هي حكاية عادية بين رجل وامرأة، ومِثلها يقع كل يوم،من دون إثارة انتباه أحد. بيد أن تسريدها هو الذي منحها أبعادا قد تتجاوز حدود بساطتها. بمعنى أن المثير فيها ليس ما وقع، إنْ وقعَ فعلا، وإنما ما لم يقع. إنها حكاية بياضٍ يبحث عن سواده، وعن صمت يستفز الكلام. والمفارق في هذه الحكاية هو أنها بلا محددات مرجعية مفصولة عن روايتها، و من دون إحالة واقعية يُمكن الارتكازُ عليها. فالحكاية نسجتْ مراجعَها الخاصة من خلال بضع رسائل كتبها عاشق إلى معشوقته، فجنحت، بالخطإ، لجهة أخرى. لقد عملت علاقة ُ الحب المفترضة بين عاشقين مجهولين على تنشيط أفق التخييل، في الرواية، وفتحتْ كوىً لتضافر تساهم فيه أطراف مختلفة في إعادة تشكيل متن حكائي مفتوح بشكل حلزوني، انطلاقا من معطيات شحيحة قدمتها الرسائل الأربع الجانحة، وهي مجرد انطباعات عامة مليئة بالفجوات، سيما وأنها لا تكشف عن هوية الفواعل ولا الإحداثيات المرجعية من زمان ومكان ووقائع بالوسع الارتكاز عليها. ولعل هذا التقتير، هو الذي حرر الخيال ليحلّق عاليا بلا قيود تكبّل شطحه.و ليست حكاية ُ الحب إلا ما خلـّفه الأثرُ أو ما تفصح عنه الرسائل.
 

المحفل الثاني: الساردة البطلة.
 

كما بطلِ رواية "الريش" لسليم بركات الذي أجّل انتحاره إلى حين البت في أمر ريشة مريبة ظهرت، فجأة، في حقيبة ثيابه، فإن الساردة- البطلة في رواية "ساق الريح"، ومع ظهور الرسائل، بصندوق بريد العمارة، بل وفي عتبة شقتها، قررت تعليق تعاستِها حتى تتقصى أحوال "المغامرات" التي باتت ترويها الرسائل أو سترويها.. ولئن كان جنوحُ الرسائل عن وجهتها المطلوبة قد وضع حدا لحكاية "واقعية" من المحتمل أن تكون حادثا متحققا في الزمان والمكان أو لاتكون. فإنه بالمقابل دشن لدى الساردة مسارا حياتيا (حكائيا) جديدا ستستعيد بموجبه إنسانيها وحس"الأنثى" المهجورة بداخلها لزمن غير قصير.. لتجد نفسها كما لو "استيقظت من غفوة"، بحيث صارت أكثر إقبالا على العمل والحياة، وبدل أن تعمد إلى الدفع في اتجاه بلوغ الرسائل إلى وجهتها بالتماس " دليل للجهة الموجهة إليها أو القادمة منها"فإنها باتت تعتبر الرسائل غنيمة َ مصادفةٍ رحيمة، ما لم تكن هي المستهدفة بها. وعليه غدت متطلعة إلى مزيد من البوح في رسائل أخرى قادمة قد تجود بها أشواق العاشق الجسور، من خلف حجاب.
 

المحفل الثالث: الرواية في الرواية
 

لأن الساردة- البطلة وبحكم حيازتها لرسائل- ليست لها، وقعت في يدها- صارت متشبثة بحقها في الامتلاك. وتلافيا للمنازعة في هذا الامتلاك فإنها، وللاحتماء من تهمة الاستحواذ، راحت تتوغل في قصة العاشقين في التخييل لا في الواقع. وهكذا بحثت في مكتبتها الخاصة عن رواية قديمة لنجيب محفوظ(لم تسمّها) سبق لها أن قرأتها في عز شبابها وتماهت مع بطلتها، المسحورة بعاشق " شاب مكتمل الرجولة، فارس أحلام كل فتاة" أحبته وباتت تناجي "طيفه ممسكة بيديه مخترقة شوارع مدينتها، تشاركه تفاصيل حياته". هذه الشخصية الروائية التي فتنتها في مرحلةٍ من عُمْرها بدتْ لها، والحال هذه، ولكأن القدر قد ابتعثها لها من جديد، وها هو يبث إليها أشواقه عبر رسائل تصلها تباعا. في تماهٍ بوفاري(نسبة إلى إيما بوفاري بطلة رواية فلوبير الشهيرة) بين الواقعي والتخييلي. إلى حد أنها بادرتْ بالرد على الرسائل الأربع التي وصلتها بأربع رسائل جوابية تستعيد فيها "مغامراتها" السابقة(التي لم تتم) مع باعث الرسالة.. وبما أن الساردة لم تتلقَّ ردودا على رسائلها فقد خطرت ببالها قصة(قصة أخرى من مقروءاتها) قرأتها حول " امرأة توصلت برسالة بعد سنوات عدة من عزلتها مما أثار فضول الحي وساعي البريد حتى كانت حديث الشارع لأكثر من أسبوع" وفي الأخير انكشف سرُّها.

فقد كانت هي من بعث الرسالة إلى نفسها "لتوهم نفسها أن هناك أحدا ما في مكان ما يهتم لحالها وينقش لها حروفا من حبر ويرسلها لها". ويتكرر وهْم التقمص في كتاب "الكرسي الوهمي" الذي شكّل ذريعة للمحاورة بين الساردة وشخص قادم من تجربة ربما لم تعشها ولكنها تسعى إلى نسجها من استيهامات وأحلام. 
 

المحفل الرابع: الساردة في المرآة
 

للمرآة في الواقع والحلم، لدى المبدعين والفلاسفة، دلالات رمزية كثيرة منها أنها تكشف الحقيقة وتعكس الخبايا. بل إنها أداة للتأمل في الدواخل والأسرار. وهكذا نلحظ في رواية الأستاذة مهيدرة، أنه كلما نما حس الساردة بأنوثتها، جراء الحفز الخارجي الذي أحدثته فيها الرسائل، غاصت أكثر في عمق ذاتها لتتأمل التغيرات التي طرأت على مظهرها ومخبرها جراء فترة أشبه بالبيات. من ثم كانت الحوارية التي تبادلتها مع المرآة بليغة ودالة. فبعد قطيعة عادت لتتأمل صورتها المنعكسة في عين المرآة. إنه حوار داخلي (مونولوج) حاولت من خلاله الساردة تبرير استعادتها لـ"الضوء الهارب" و "الزمن الضائع"، وترميم الصورة في مرآة الذات، في جو متسم بالجرأة المشوبة بالخجل، حيث البوح والعتاب.
 

المحفل الرابع: الساردة والبحر
 

لربما كان عنوان الرواية اثناء تخلقها هو "رسائل البحر" إلا أن تفريعات طارئة جعلت عاصفة الريح تهيمن على البحر من دون أن تلغيه من الخلفية مادام حضوره قائما في مجرى الوقائع بقوة. وبقدرما يشكل البحر ملاذا للبوح فإنه يوحي باللامتوقع والمجهول كما أنه يحرّك الأسئلة الملغزة والشجون، وهو بالتالي يسمح بتضعيف الأنا حين التأمل وحين الشكوى. لهذا وجدنا الساردة وهي تستعيد محطات من حياتها تخاطب البحر وتبثه لواعجها.
 

المحفل الخامس :الساردة وبطلتها
 

وهي ترسم سيرة عشق بطلتها ستجد الكاتبة - الساردة نفسها واقعة في تناقض ظاهري كما هو حال النحات اليوناني بيجماليون الذي أغواه تمثال امرأة أبدع نحتها. مما خلق لديها نوعا من الإعجاب والغيرة في آن. لأنها وإن كانت تعيش تجارب عشق ليس بمقدور الكاتبة- الساردة الانخراط فيها إلا أنها، مع ذلك، كانت "تحقق رغائبها" المسيجة بالقيود الاجتماعية. ومعناه أن الفن عموما ، والكتابة على وجه الخصوص، يمنحاننا إمكانية أن نحيا "حيوات متجاورة" ومتداخلة، و " جمالية اللحظات تقاس بإحساسنا بها لا ببكائنا على ضياعها". ذلك أن "الاختراع" الفني يضفي على "لواقع" أثرا من شأنه أن يثريه ويعمقه.
 

المحفل السادس أو المحفل الجامع: الكتابة والتلقي
 

لقد رأينا كيف أن موتيفا (حافزا) سرديا بسيطا: (رسائل إلى عنوان خاطئ)، ولّد مسارات كثيرة من الدوائر والأمواج على صعد مختلفة كلها كانت تصب في أفق الرهانات التي خاضتها الكاتبة وهي تبني عوالمها التخييلية. فتداخلت المحافل وتخارجت، تداوليا وسرديا وسيميائيا، لتورط المتلقي، أو تشركه على الأقل، في لعبة الكتابة،بما هي فعالية غائية، خاصة وأن الساردة- الكاتبة(وهي هنا محفل من محافل الكتابة) ألفت نفسها هي أيضا واقعة في شرك شخوصها، ضمن أطروحة ما انفكت الرواية تحيك خيوطها وفق السؤال الإشكالي التالي:" هل يمكن للصورة أن تنتصر على الحقيقة وأن تظل الحكايات فينا أقوى من كل الواقع الذي نعيشه؟" تقول الكاتبة الساردة "فالنار التي أشعلتها بعض حروف على ورقة شفافة قد لا ينطفئ إلا بحقيقة شفافة".
 

هكذا إذن تغدو حصاة صغيرة في بحر السرد دوائرَ مرآوية متناسلة لبناء متخيل جميل محلق في سماء الرواية على "ساق الريح".

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً