الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
طبيب يجترح نصوص السرد بمشرط العشق - محمد الغربي عمران
الساعة 20:47 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



هو ليس ضيفا على الحرف.. د شريف عابدين ..الاسكندراني الممتهن الطب وعاشق الأدب. كما يصف بعض النقاد من يكون تخصصه الأكاديمي بعيد عن مجال الادآب بالضيف على الأدب. بل هو أديب ومبدع أصيل في مجال السرد. 
 

ولذلك يجد من يتابع نتاجه السردي في القصة القصيرة والقصيرة جدا.. وكذلك في أطروحاته النظرية حول فنيات القصة وخصائصها يدرك جليا بأن هذا العاشق يتعامل مع الكلمة كما يتعامل الطبيب مع الكائن الحي 
لحظات تكوين نصوصه القصصية.. فكل شيء لديه بحساب دقيق مثلما يتعامل مع المشرط والمبضع في أي تدخل جراحي لكائن.. ولذلك نجد أن عابدين ومن خلال نصوصه القصصية والصادرة في أكثر من مجموعة.. يتقن وبصورة عالية ومميزة صياغة أفكاره وبأقل القليل من المفردات.. بل وينتقي من مترادفات اللغة ومشتقاتها ما يمكنه من تقدي النص المكثف.. مثلما ينتقي الجواهرجي لآلئه.. وفي ذلك يهدي القارئ جملا منضودة بعناية كما عقود الزهر بل وعقود اللؤلؤ .. متقنا بناء تلك الجمل لنقرأ نصوصا بديعة التكوين والتشكيل الفني للموضوع.. أو كما يقول الروائي منير عتيبة يعي أن الإبداع لا يقتصر على انتقاء الفكرة بل في كيفية تقديمها.. وهو يعني بالجانب الفني .. دون الإخلال بالجوانب الموضوعية.

 

وما يهمني اليوم أن أقدم للقارئ مقاربتي هذه حول مجموعة عابدين القصصية الصدارة مؤخرا عن دار غراب في القاهرة 2015.. وبعنوان أحمر شفاه.. بعين المحب لهذا الإنسان الأكثر من رائع .
والبداية من غلاف المجموعة في طبعتها الأولى حيث يلاحظ تسيد اللون الككاوي على مجمل ما جاء فيه .. مبرزا وجه فتاة أكثر ما يلفت فيها شفتيها المكتنزتين بشبق لافت . وتلك الشفتين ينسجمان مع العنوان"احمر شفاه" إلا أن مخرج الغلاف استمرأ ألا يميز تلك الشفاه بلون مغاير .. وهنا المفارقة .. حيث جاء اللون مسيطرا على تفاصيل الغلاف وجزيئاته . مكتفيا بشبق اكتنازهما.

 

وحتى تكتمل الصورة لدى القارئ الكريم علينا أن ندلف إلى صفحات المجموعة لنجد أول ما يستقبلنا هو الإهداء "إلى من علمني أن بذرة الحلم لا تنمو إلا في ارض الواقع.. إلى أبي في الذكرى المئوية لميلاده." إهداء في غاية الرقة .. في الوقت الذي توقعت أن يأتي الإهداء إن كان هناك إهداء رومانسيا كما هو العنوان والغلاف.. لكنه الكاتب الذي يجيد رسم متاهاته .. يقدم لنا ذلك الإهداء الجاد في حرف منه.. ويذهب بنا إلى عوالم وفاء سمو الروحي والوفاء الراقي.. وهذا ما يميز الكاتب لمن يعرفه عن قرب. وبعد الإهداء تأتينا نصوص المجموعة تباعا والذي سأبدأ مغايرا للمألوف من الفهرس لعناوين النصوص. إذ أن العنوان في تصوري جزء أساسي من النص وهو يمثل بوابته والمفضي إلى جوانبه الموضوعية والفنية. إذا بين يدينا أثنى عشر عنوان منها ماهو تقليدي مباشر.. مثل:حكاية كل يوم.. خيبة أمل. ومنها ما يبعث على التفكير والتأمل.. مثل: لا أريد أن أبكي الآن.

وكذلك هناك عناوين تدفعنا للتساؤل ..مثل : يوم طويل من ذلك الشهر.. حياة مؤجلة. ومنها ماهو مثير.. مثل: إغواء عطرها..أحمر شفاه.. رجل وحيد ينتهكني.. مؤاخذة الجحش بقضم الجزرة . وهناك عناوين توحي بأكثر من معنى.. مثل: مؤاخذة غين بغمزة عين . ومنها ما يقدم لنا صورا شعرية..مثل: ضمادة طين .. نشيج متصل لرداء ممزق. 
 

وما ذكرنا من تصنيف عناوين ليس بالضرورة أن يقيدها القارئ بما طرحنا.. فبعضها يحمل عدة معان ومدلولات.. وأرى أن العنوان يبين قدرة الكاتب على استنباط ما يعبر عن نصوصه من عناوين..أو ما يقدم روح النص.. ولأن النصوص إبداع قائم بحد ذاته فعلى الكاتب ألا يستقر على عناوين تقليدية ومباشرة.. بل يعمل جادا وباحثا عما يلفت ويثير المتلقي شريطة ألا يبتعد عن روح النص .
 

والحديث حول نصوص المجموعة قد يحتاج منا وقتا كافيا .. لنسبر أعماق كل نص... وسأكتفي هنا بمقاربة لبعض الجوانب والنقاط كتحية واجب إعدادها لكاتب متميز .. وقد لفت انتباهي عدة ملاحظات وأنا أقرأ المجموعة.. خاصة فيما يتعلق بالجوانب الفنية التي أتبعها عابدين.. عن وعي وإدراك وهو الضليع بفن السرد.. ومنها: 
 

1- صلة الواقع بالخيال الذي أنتهجه الكاتب في نصوصه هذه.. حيث أن جل أفكار نصوصه قد انتقاها الكاتب من محيط معيشته للمجتمع وتلك الشخصيات أيضا تشعرنا وكأنها تعيش بيننا.. ومنها ما نصادفه دوما في حياتنا اليومية. إلا أن الكاتب لم يعتمد على ذلك الواقع المباح بل نجده وقد حلق بخيال المقتدر ليأتينا بالمدهش والمثير في رسم الشخصيات وصياغة الفكرة .. ونختار النصوص التالية : "احمر شفاه" حيث أجاد في سبر أغوار الأنثى .. ما يناقض مقولة أن الأنثى هي الأقدر على الكتابة حول نفسها.. بعد أن أخذ البعض بالتنظير حول ما يسمى بالأدب النسوي تحت مبرر أن المرأة هي الأكثر معرفة بما تفكر به وتشعر إزاء النساء .. متجاهلين أن المسألة إبداع وخيال يمكن لكل جنس ارتياده متى ما أمتلك خيالا خصبا. ونص "رجل وحيد ينتهكني .." حيث نحت لنا الكاتب بخياله الثري تلك الشخصية المضحكة ذات اللثغة في نطق بعض الحروف.. وما يعتمل في نفوس من يتعامل معه .

وبذلك يقدم لنا الكاتب نماذج إنسانية مطعمة بخيال مدهش ورائع. وفي نص "مؤاخذة الجحش بقضم الجزرة .." يظهر لنا خيال الكاتب في معالجة تلك الغريزة الإنسانية "الجنس" كدافع ومؤثر جوهري ليس في حياة الفرد بل في حياة البشرية.. حيث تقودنا مجموعة من العادات إلى الخجل من تلك الغريزة الإنسانية.. ومواراتها خلف جلابيب كثيفة عكس ممارساتنا وقناعاتنا كي نظهر كما رسم لنا الدين والمجتمع .. بينما هي الفعل الأسمى والاعذب.. بين غرائزنا جمعاء.. إذ وصمناها بالفاضح وهي جوهر الحب الذي لولاه لكنت الحياة عبث. والكاتب في هذا النص ينقلنا إلى زمن غير زماننا من خلال شخصيات أبتكرها خياله من عصور قديمة .. مؤكدا بأن الإنسان هو الإنسان ذكر أو أنثى تسيره أجمل الغرائز وألذها في كل زمان ومكان.
 

2- تطعيم تلك النصوص بصور شعرية مكثفة تحمل معني ودلالات غاية في الإمتاع.. فمثلا جملة "لكأ ني أشعر أيضا بملابسها تراقبني" ص 14 " لكن كيف تتنفس وقد التهم شفتيها"ص17" زلال عينيها أسكره حين ارتشف منه منسابا على شفتيه"ص106" ظل يدعك عينيه حتى صارتا ككأس دم تنسكب منها الدموع" ص 105 . وهكذا هي العديد من الصور الشعرية التي يؤثث بها الكاتب جل نصوص مجموعته. بل أنه أفاض في بعض النصوص حتى أضحت مقاطع شعرية يمكننا اجتزاءها كنصوص مستقلة. ما يدل إلى أن الكاتب شديد الصلة بالشعر وقراءته.. وبذلك يغترف من مخزونه البلاغي النابض بالإدهاش ما يصنع لنا نصوصا متميزة. ولن أستفيض في أترك الأمر للقارئ حتى يتصفح هذه المجموعة التي يقترب بعض نصوصها من النصوص الشعرية في الشكل والصياغة مثل نص "حياة مؤجلة" ومقاطع من نص " لا أريد أن ابكي الآن " والذي صاغ الكاتب معظم مقاطع هذا النص.. ليذكيه بعبق والشوق ومعاني الخلود العاطفي للفكرة الأسمى الحب والعطاء والإيثار.. هذا الإنسان الذي ملأ البسيطة من فيض حبه وفتنته وشوقه للخلود وأداته الجنس والتكاثر في حيلة يقاوم بها الفناء .
 

3- الحوار الداخلي.. حيث يغوص الفرد مع شخصه في أعماق النفس البشرية .. وقد يلاحظ أن الكاتب أبتعد عن المباشرة وابدأ رأيه ككاتب كما يقع بعض الكتاب .. دافعا بالصراع الوجودي بين شخصيات النصوص ليقدم لنا نصوصا ناضجة ومكتملة.
 

4- الوصف في "ضمادة من طين" نص أعتمد الكاتب فيه على تقديم شخصية هامشية .. شخصية قد نصادف مثيلها في السوق..أو على رصيف الشارع .. حين نجلس على مقعد المقهى في.. أثناء تجوالنا.. شخصية منكسرة تسير بين الناس لا يلقى لها بال.
نص مليء بالحنين والإحساس حين يرقع الطين ما برز من عري عابر سبيل.. إنسان يعيش ويتنفس لكنه في حكم المجتمع كائن منبوذ.. كائن لا يهتم له أحد وإن نهره البعض.. أو عنفه لاقترابه منه يبتعد دون أي ردة فعل.. نص يفيض بكل معاني الإنسانية.. يدفعنا لمحاكمة أنفسنا ومعاتبة أدياننا.. ولعن رجال السلطة في مجتمعاتنا حينما لا يهتموا بمثل تلك الحالات وما أكثرها.
يغرق النص في إدانتنا حين نميز بين إنسان وإنسان لحالته الاجتماعية أو وضعه الاقتصادية ولا نعي بأن ذلك الكائن البائس لم يختار ذلك الطريق..وانه مجني عليه منا جميع ..ولا ندرك بأن من أجل سنت الشرائع والأديان.. ومن أجله تفجرت الثورات.

 

بالفعل نص بمثابة بيان ثوري ضد بلادة الإحساس التي تسيطر علينا وقد حسبنا أنفسنا ذوي قلوب رحيمة.. وقلوبنا أقسى من الأحجار حين نمر على مثل تلك الكائنات الرصيفية ولا نمد لها يد العون حتى بالكلمة الطيبة والابتسامة وحسن المعاملة. فأي قلب وأي روح تحمله أيها العابدين بين حناياك وأنت تصيغ هذا النص؟
 

ذلك النص دفعني إلى إغلاق صفحات المجموعة والتوقف عن الكتابة.. ولم أكمل بقية ملاحظاتي.. وأنا أسمع نحيب ينساب بداخلي حزنا لفقدي إحساسي وأحسب نفسي من ذوي الضمائر الحية ليأتي هذا النص ويثبت لي النقيض. شكرا دكتور لأنك خيبت ظننا بأنفسنا.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً