الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الكتابة سيرة للألم قراءة في ديوان " حبات مطر "(1) للشاعرة سعدية بلكارح - حميد ركاطة
الساعة 23:33 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


في ديوانها " حبات مطر " تبرز الشاعرة المغربية سعدية بلكارح اشتغالا متنوعا ، ارتكز على ابراز صورة الذات في مرايا القصيدة ، من خلال اعتماد خطاب متنوع بين الاسترجاع ، والبوح ، وخطاب الذات ، والتصوف العاشق .و خطاب الآخر . وهو ما أبرز صراعا نفسيا لذات مبعثرة تعمل على إعادة ترتيب شتاتها ، بنوع من القلق ، بين الغياب والانشطار . 
 

لقد توسلت الشاعرة لإبراز ذلك على آليات اشتغال متنوع ، بين التركيز على الصورة الشعرية المتداعية ، والاستبدال اللغوي ، والاستعارة ، من خلال التنويع بين الكتابة الشعرية ، والنثرية . ما جعلها كتابة متمركزة حول ذات رسمت سيرتها ،بالارتكاز على الاسترجاع 
والارتكاس نحو الماضي . كما برز طقس كتابة ليلية ، تبعا للقاموس الموظف في العديد من القصائد . 

 

في حين برزت العلاقة بالمكان،  بين الحب ، والنفور ، والتمرد ، ناهيك عن الحضور القوي لصورة الوطن ، ومعالمه بالإضافة إلى استحضار  بعض القضايا الاقليمية كالقضية الفلسطينية . لنتساءل عن أهم مرتكزات هذا الديوان ، وعن خلفيته الجمالية ،والابداعية حسب ما تجلى في قصائد الديوان  .
 

1) صورة الذات في مرايا القصائد 
 

تتحول الذات الشاعرة إلى صنوبرة ، تبارز عاصفة،  بقدر ما تعمل على افتضاض جموحها ، تعكس ظلال نفسيتها التواقة للارتواء، كما في قصيدة " حبات مطر " ص 15 ، وهو ما جعل من عامل الأنسنة أساسيا للكشف عن رمزية الأشياء ، ودلالتها داخل قصيدة تدثرت فيها الذات بالاستعارة ، والمجاز، لتمرير خطاب البوح الصادق للآخر ، ما عرى شوقها ، وتمزقها ، وألمهاورغبتها ، المفعمة بالانشطار ، تقول الشاعرة "
صواعق الشوق تدوي 
تبرق وترعد حولي
تجرفني سيول الشتاء الماضي إليك 
تخدعني زخات منكسرة على شطآنك 
لامرأة أخرى التحفت ظلي " ص 15 

 

فالخطاب الشعري المتوسل بالاسترجاع ، والتذكر يتوغل نحو ماض قاس جدا ، ليعري عن درجة عالية من احتراق الذات ، وعن حسرة  ذات موغلة في الألم ، بالارتكاز على آليتي البوح ، أواللوم ، وكذلك الندم ، تقول الشاعرة " 
كنتَ فيه العاصفةَ تفتض جموحي
وكنتُ صنوبرةً تبارز جنونك " ص 16
ولعل هذا الاسترجاع المرير ، لم يكن مجرد عامل لإبراز عمق الخلاف الحقيقي بين الشاعرة ، وحبيبها. فهي بقدر ما قدمت العديد من التنازلات ، تحملت وقع الخيانة ، والفراق ، والجفاء . لكنها رفضت بشكل مطلق ،تجريدها من حلم حياتها . تقول "
ليس عيبا تجريدي من 
نومي 
إنما العيب تجريدي من 
حلمي " ص 17 

 

لتبدو الذات  ككيان محتل من طرف نفسه ، حسب ما تجلى  من حمى الصراع الدائر في نفسية الشاعرة ، كما في قصيدة " حين تحررت مني " ص 20 ،  صراع يضمر رغبة التحرر من قيود مضمرة ، مكبلة للرغبة ، والبوح ، والانطلاق  ، مما وضعها على محك تأمل وجودي رهيب .تقول الشاعرة "
شهقة تسافر في المدى 
تتوغل بين اغترابك ، وترقبي " 
وهي قيود تعبر في الواقع  عن أقسى درجات الرغبة في الانسلاخ ، والتحرر تقول " 
لم تعد تلك النظرات اليابسات ترهبني 
قد تحررت ذات يقظة منها ، ومني " ص 20 
وهو تحرر يهدف للبحث عن عالم جميل ، وعن شوق يضخ جرعة الحياة ، والحب في أسمى معانيهما ، وإلى غسق يغسل فجرُه ،  وجهَ الليالي الحالكة .تقول الشاعرة "
تلوح شقائق النعمان 
تبشر بحكايا ألف ليلة وليلة 
تضُوع رائحة اللُّقاح " ص 20 .

 

كما ستبرز حالة الذات الممزقة  من خلال قصيدة " انفاس مضطربة " ص 30 ، كذات موزعة  بين أحلام اليقظة ، وكوابيس الحلم ، بتحولها إلى ساحة وغى مليئة بالصراع ، والتوتر ، والقلق ، والغضب . لتنعكس ردود أفعال بارزة ،  من خلال الارتكاز على متناصات عديدة مستوحى أغلبها من النص القرآني بدت على شكل تساؤلات :"
كم من "هيكل سليمان " بات مزروعا في أرضي ؟
كم من بلقيس شمّرت عن ساقيْها لتدخل صَرحي ؟
كم من ..أبي جهل " تطَبَّع في سوق نخاسة باع أتْربتي ؟"
هذا الكشف الدال ، ستطالعنا تداعياته ،  في نهاية القصيدة ، كيقينيات موحية على تيه ، وضياع ، لذات أشبه بوطن قلق ، وحائر . تقول الشاعرة "
اليوم أيقنت أني مجرد أرقام 
منسوخة من رفات صمتي 
التصقت بجدارٍ وَهْميّ 
( ..)
ولن أبكيَك بعدُ يا وطني 
فإن مت
لن أسقيك من دمي " ص 30/31 

 

في حين ستبلغ الذات  الممزقة درجة عالية من التماهي بين روحين ، ونفسين ، كما في قصيدة " سكبة طائشة " ص 39 ، حيث نشعر بنوع من الانصهار اللا إرادي في ذات الآخر، لحظة شوق جارف ، سيجرد الذات الشاعرة  من هويتها ، وكنهها ، وسيتحول الآخر إلى رداء وحيد ، يلف  ذلك الكيان . وهو ما حقق نوعا من الامتلاء الروحي الذي وصل درجة عالية من الحلول ، جراء سكبة لا إرادية ستجردها من هويتها ، تقول "
 تجردني مني
فألتحفَ آخر ورقة تسّاقط على طاولتي 
ليسود العراءُ حولي ..وتظلَّ أنت .. ردائي " ص 39 
إنه التحام إرادي  كذلك سيتم عبر الانجذاب بين كيانين ، ينفلتان من عقالهما ، وسيتناسلان إلى أجزاء غامرة ، تعيد ترتيب أبجدياتهما المبعثرة من جديد .

 

لكن السؤال الذي يطرح  نفسه بقوة هنا هو ، لماذا تتدثر  هذه القصائد بخطاب ذاتي إلى بكل هذه الأهمية ؟ وهل يمكن اعتباره ( الخطاب ) ،  نوعا من الأنانية ، أو مجرد  تمركز حول الذات نفسها  ؟ أم أنه مجرد بحث عن تفرد ، ومغايرة ؟
فالحميمية التي تكتب بها الشاعرة  سعدية بلكارح عن ذاتها ، أو محاسبتها ، أومساءلتها ، أوانتقادها ،  إن كان ظاهريا يعري عن انكسار ، وخيبة ، وفشل ، وحزن ، وحيرة ، فإنه في ذات  الجوهر يبرز بحثا عن التطهر ، والصفاء ، من خلال خطاب ارتكز على رصد تفاصيل يومية مفعمة بجرأة عالية ، بصدق كبير . تقول الشاعرة في قصيدة " شرود لذيذ " 
إليك يا أنا أكتب يومياتي هذا المساء 
أنت يا امرأة خضبتْ خلجاتِها ألوانُ الفقد 
أنت حين يأتي المساءُ ، تفيقُ 
فيك كل الحواس إلا حاسة 
الادراك " ص 26 

 

ما يفسر  لحظة  ذلك الارتقاء نحو تصوف جارف ، سيجرد الذات الفانية من أدرانها ، وأوزارها ، لتنخرط في سكر روحي عاشق،  ثمل بالوجد ، والشوق ، والآهات . كأنه بحث عن ولادة جديدة ، تعيد نوعا من التوازن للذات الحائرة  . تقول الشاعرة "
وتسألين الليل هل تستطيع أن تصنع لي هوية من ابتسام 
الصبح ...تدلني عليّ ؟ " 
هذي يدي رصيفٌ للجراح....
(....)
لم أعد أعرف .. هل أفرح ام أحزن ؟ " ص 26 
إنها أسئلة دالة على الحيرة ، والتيه بين طيات وجد عاصف ، ستنتهي بمتعة الادراك والكشف "
لتنام بين جفنيك يا أنا
 دمعةٌ 
تضمّختْ بالفرح " ص 26 
وهو إحساس سيترجمه كذلك النص الموازي " سعديات " ص 27 ، تقول الشاعرة " 
يسائلها الليل عن طيفه ، يخاتلها حين الغياب ، وهو بين الهدب ، والجفن ، تغزله شعاعا لصبحها والمساء " 

 

كما سيكتسي "خطاب الذات"  في قصيدة " بتلات حارقة " ص 18 نوعا من الانعكاس في مرايا البوح ، حيث تكشف الشاعرة عن لوعتها ، وحبها ، واشتهائها الجارف ، لمعشوق متمنع ، يرفض الانصياع ، وهي ترصد بدهشة ، ولعها المفاجئ به " 
ما فطنت ولوجك العابث ، ولا وعيت 
تاريخ سفرياتك المهووسة إلي " 
إنه  بوح عكست مرايا الداخل،  تفاصيله الدقيقة ، وعرت عن حيثيات اندساسه بالأعماق لحظة استرجاع مفاجئ ، من خلال استقرائها لملامحه، تقول الشاعرة  " 
رهينة عينيك الشبقيتين ، أوارب عطشي ، وتغنج الاشتهاء
تفتنني ألف مرة 
وتضمَدُني رشفةٌ من شفاه الشوق " ص 18 
وسيتحول هذا البوح الصادق إلى حافز ، لتوجيه دعوة للمحبوب ، لإعادة تنضيد أوراق علاقتهما من جديد،  كي لا تظل منفلتة ، أوملتبسة .ب إزاحة الغموض عنها ،وقد توسلت  في ذلك ، بنماذج من قصص أسطورية سابقة ، و تجارب معاصرة ، وقصص مفعمة بالقسوة ، والخرافة ، والجنون . تقول الشاعرة "
على ركبتيه يجثو " نيرون " ضارعا ، يجترح جنون الخرافة 
يجتر هلوسة الجور ، وفظاظة الانكسار 
ما عادت قدسية لمبعدك ايتها " الإيزيس " ولا بتنا نهاب 
آلهتك المحمومة 
في زمن الصرع ، وجذبة " بويا عمر " " ص 18 

 

وسنلمس أن هذا الطرح ، المستمد من الأسطورة ، سيقابله طرح آخر أكثر غرابة ، وجنونا في زمن حاضر مليء بالخرافة ، يمتح من المعتقدات الغيبية  المحلية ، كنه دلالته ، وخصوصيته المحلية ، في إحالة على الجنون ، من خلال الاشارة إلى " جذبة بويا عمر " طرح  سيكسر موروثا فقد هالته الخرافية ،  في وقت أضحت فيه الحاجة ماسة إلى تغيير القناعات ، والعقليات ، حول مفهوم الجنون ، و الحب ، اعتمادا على مقاربات جديدة ، ترتكز على الارادة ، والوعي ، والقناعة ، والرضى ، لمواجهة مصير الحب ذاته .تقول الشاعرة "
 انفضي خيباتك ايتها المنيعة ، وادرئي عنك علات الماضي ، فالموج يصرع بكبرياء دون تدن حين  (الالتطام ) " ص 19 
فالحب سيظل معلقا بين الغياب ، والانتظار كذلك،  كما يبرز قصيدة " أنت الذي في خاطري " ص 59 ، وهو ما يجعلنا نتساءل عن أسباب تحول الذات الأنثوية إلى مجرد مدينة مهجورة ، تنتظر فارسا يأتي  من بعيد ، ليعيد تأثيث فضاءاتها ، ويذب الحياة في شرايينها من جديد ؟
فكل انتظارات الأنثى من خلال هذه القصائد  ، تظل مقترنة بالخوف ، أو الكشف عن الاشتهاء ، والافصاح عن الشوق ، أو إبراز الألم ، انتظارات لا يتحقق فيها اللقاء المباشر ، بقدر ما تحقق على صفحات  هذه القصائد، عبر التخييل ، أو ترجمة الاحساس الداخلي المفعم بالوهم . تقول الشاعرة " 
تنتابني رعشة الهذيان 
تجتاحني أعباق أنفاسك 
على ضفاف  الوريد
يستقي سقمي  ترياق الحياة 
( ...) هكذا أحسك هذا المساء " ص 60

 

فبين  بين خطاب الأنا،  و" الذات "، سيبرز خطاب الأخر، كما  في قصيدة " فوق الريح " ص 28 ، لتكشف أثاره  عن ندوب غائرة في الذات ، أو عبر هواجس ، وأمنيات مترسبة كذكريات  في رحم الذاكرة ، تؤلب مواجع الشاعرة ، لكنها لا تصل حد هزيمتها ، تقول الشاعرة " 
أبحث عني بين رفات أمنيات
أرمست ذات حين لأجدني تاجا 
بين القرابين 
يعلو الغصون الحانيات ، تميده الانواء ، وأبدا لا تطيحه " ص 28 
وسنلمس أن هذه العودة إلى الحياة ، ستوازيها ولادة جديدة ، لكون النوائب تقوي الروح المنكسرة ، وتخلق وهجها من جديد ، تمنحها جرعة أمل ، وترسم لها مسارا ، مغايرا تقول الشاعرة  " 
ذاك المساء 
عزفت آخر لحنٍ من تأليفكَ،
كسّرتُ قيثارتي على نصبك القابع 
داخلي
تحررت من لون جدائلي
وتعفَّرت بلون الحرية ..
هذا المساء " 
سعديات ص29

 

ونلاحظ أن حضور الآخر، سيتجسد بقوة عبر حالات مختلفة ، وسيتشكل لحظة الحنين بقوة ، أو لحظة الحلم ، والصمت ، والتأمل ، والتيه ، والضياع . وفق طبيعة الأماني ، والرغبات ، لكنه سيظل متمنعا في الواقع ، تقول الشاعرة "
(..) 
رأيته يحملق في السماء ...
يجرد خاطري من أخيلة الصمت ..
ينشر حولي عبق الظلال..
يفسر لي حلما ضاعت ألوانه
إلا من لون ...يشبه همسه ..
ذاك المساء ..." ص 25 

في حين سيبلغ التعلق بأشياء الآخر  درجة الجنون ، عنداستحضار الذكرى ، أو من خلال "استنشاق عطر معطفه الرمادي "، ليتحول الأمر إلى إحساس بالكينونة . تقول الشاعرة "
ألملم شتاتي المركون خلف وخْز
الذاكرة 
أتوضأ همس عينيك العسليتين 
أتفيأ ظلك المصلوب على ناصية المدى 
أبعثر صمتي الغارق فيك     
فأرحل إليك " ص 33

 

2) سعديات ومجاورة الشعر للنثر 
 

نلاحظ أن قصائد الديوان مذيلة بفقرات تكشف عن تأملات عميقة ،ذيلت  تحت عنوان فرعي " سعديات " تعبر عن الموقف ، ارتكازا على الوصف ، والاستعارة ، أو ضمن بناء تقابلي ( ضوء / ظل ، شمس / كسوف ...) محملة برمزية متعددة الدلالات ، والتأويلات ، لكنها في الواقع تكشف عما يخالج الذات الشاعرة ، من أحاسيس ما يحولها في بعض الأحيان  إلى إشراقات موازية، أو متممة للقصيدة ، لتسمها بمسيم خاص ، وبطابع مميز ، دال على هوية صاحبتها من قبيل "
أيها البعيد لون ظلالك ، واكتسبْ حياة تصطليك وحدك ...
 فما عاد للمخيال صدى يبلغ عنان العنقاء .." ص 14 
وهي مقاطع شعرية ،أو نثرية،  تفتح أفق القصيدة على أفق مغاير ، بتقديمها للعديد من البدائل أو بتشييدها لتوازي نصي ، في إطار من التأمل، أو التقابل ، حسب طبيعة الموقف أو الموضوع .مقاطع مدثرة بحمولات، واستعارات ، وتشبيهات ، وببوح شفيف، يعري عن الرغبة ، والشوق ، والجنون ، لتشكل صورة شعرية متداعية ، ومنسابة بهدوء ، كما تبرز أحيانا كقفلة غير متوقعة . ما يجعلها  كتابة تبرز كانعتاق من ربقة الصمت ، وتمردا على الحزن ، والغبن ، تحلق نحو آفاق رحبة . مبرزة الوجه الآخر للحقيقة المضمرة ، أو للحلم المأمول ، أو للرغبة المقموعة ، أو للصورة المحلوم  بها . لتضحى خطابا ذاتيا ، خاصا يرسم ملامح الشاعرة ، وخريطتها الذهنية ، والنفسية ، المتشعبة ، والمتعددة القسمات والمسارات ، والتطلعات .كما تتخذ  هذه المقاطع أحيانا ملمحا مستقلا،  يكشف عن مجاورة الشعر للسرد ،  باعتبارها نصوصا مستقلة بذاتها ، محددة الهوية عبر ارتكازها على  بناء قصصي ساخر ، للاستدلال على معنى مضمر، كما حدث مع مفهومي " الضجيج / والنباح " الدالين على الاستسهال في الكتابة الشعرية . وبالمقابل تتحدد كمطلب مضمر ، يحث على عدم الاكتراث بالكتابات الرديئة، تقول الشاعرة " 
( ..) 
- وما الضجيج ؟
- إنها بعض الظلال تتحرك بحركته ، فتتداخل فيما بينهما ، محدثة شيئا يشبه الصوت ..لا تحفلي به أمي .
- لا ، لا أبدا لا أهتم ..اغلقي المنافذ يا ابنتي ، وابسطي قلبك للنور " ص 54/55 .

 

3) الكتابة الشعرية بين التضمين والتمرد
 

يمتاز الخطاب الشعري عند الشاعرة المغربية سعدية بلكارح بلغتها الشفافة ، الميالة إلى البوح ، عبر التوسل باستعارات ، وبتوظيفها لأشياء ، من قبيل"مزنة،  شفق ، صدى، مدينة، كرونوس ، رجفة.، دمعة ، امرأة ..." للتعبير عن الذات ، التي بقدر ما تمتطي هذب الشمس ، تجتر حزنا دفينا ، وتشهق بعيدا عن قارعة الحنين .
هكذا تتحول القصيدة ، إلى امرأة تسابق الريح ، دون أن تنكسر أو تتأرجح بين الرمشين كدمعة ، أو كرجفة تخلع الانتكاسة . ما يجعل الصورة الشعرية في تداعياتها ، وانسيابها حمالة أوجه ، ودلالات ، تستقي مفاهيمها ، من قواميس متنوعة عبر الاستبدال اللغوي ، واللفظي ، الذي لا يخل بالمعنى ، بل يجعل منه مفتوحا على التأمل المتعدد . تقول الشاعرة "
خبروه عن مزنة بين الريح
عن شفق زاغت حرمته
عن كرونوس ..في وهلة " الإبتلاع"
عن زويوس .. في حانة الغضب 
عن رجفة تخلع الانتكاسة 
(... )
عن لغة نكصت على عَقبيِ الخليل 
خبِّروه عن امرأة من شعاع 
تسابق الريح ولا تنكسر "

 

فأسلوب النداء بقدر ما يخفي في طياته طلبا ، يضمر تمنعا ، وأنفة عن البوح المباشر . وهو كاشفا عن الاعتزاز بالذات، وعن تمسك برفض الانصياع ، أو الخنوع ،وهو ما تحيل عليه عتبة قصيدة "خبروه اذا يوما عنِّي سأل " ص  22 ، التي  تدري أبياتها  ألما دفينا ، وسؤالا عن الغياب .
فالصورة الشعرية كذلك ،ستبلغ درجة عالية من التشكل، بتحولها إلى أفق رحب يترجم المعنى المضمر ، ويكشف عن المحتمل ، والمرغوب فيه ، أو المحسوس به ، تقول الشاعرة " 
سحائبي تمردت
هطلت مطرا أزرق
فأنْبتَت أرْضي حجارة
وصوتا أحمرَ" ص 35 
في إحالة على تحول قصري ،  على مسخ تفقد معه الأشياء بهاءها، وجمالها المعتاد .
في حين ، سنلمس ان الخطاب الشعري ، ارتكازا على الوصف سيلبس النفس هيئتها المتخيلة ، لتنسج خطابا صريحا ، يستمد مقوماته عبر استبدال لغوي ودلالي عميق ، لتناسب القصيدة وفق بناء تقابلي بين ( الأنا /الاخر، الذات/النفس... ). في حين تتحول الأشياء اللا مرئية ، والمحسوس بها ، إلى كيانات مستقلة الذات ، بعد استحضارها . تقول الشاعرة " 
تشفط ترهلات الاغتراب في الجسد
تُسْبِي قبلات الأماسيِّ الذابلة 
(... ) تجْتَرُّني الصباحاتُ
تتثاءب على نحْري أنفاسُ الفجر (.. )ص 24

 

وهو أمر يحول الذات الشاعرة إلى ذات مسلوبة الإرادة ، منقادة نحو قدرها المجهول ، لا يخرجها من شرودها، وحيرتها سوى حركة مفاجئة .
"تنبلج سطوة معصمِك
وأسرار عطري 
ينط طفل بداخلك 
وطفلة بداخلي 
ينسجانِ حكاية بقلب ووجهين" ص 24 
في إحالة على حالة التحام ، وتجاسد مفاجئ ، يكسران خلاله ربقة الشرود ، والتيه ، عبر الانصهار في ذات واحدة ، بانجذاب عاصف.

4- الكتابة سيرة للألم
 

إننا إزاء قصائد تجعل الذات مركزا ، والذاكرة مرجعا ، والأشياء لبنات موجعة ، تتفتح زنابقها في مروج جسد جريح ، قصائد تكشف نتفا من سيرة ألم ، لم تندمل جراحه الغائرة بعد . تقول الشاعرة " 
دمعة سوداء
انسحبت من قتامة الشمس
أحرقت في مدينتي 
لذة الشروق " ص 47
ما يترجم ألما واحترقا، وتشويشا لذاكرة ، لا تزال  تعيش على آثار سياط جلادها ، المشومة في الحنايا ،ذاكرة  تجد صعوبة في التكيف مع واقعها، لتظل أسيرة المها الأبدي . و وسواسها القهري .لتتمركز حول ذاتها بقوة. وهو ما يفسر سر ذاك الاحتراق ، وذلك التوق نحو استعادة الذكريات ، وبالتالي الآخر. 
إنها قصائد تنزف ألما ، وحيرة على ماض تليد ، وعلى حب مجهض ، لتنتكتب سيرته بمداد الاحتراق ، محيلة الحاضر مجرد محطة للانتظار ، والمستقبل  أفق عدمي ، تضيع فيه كل الآمال .فاقدة  لكل قدرة على النسيان .ماض تسترجع ،تفاصيله الرتيبة ، بالقوة ، كما برز في في قصيدة " حين أنتظرك" ص 51 ،
هناك 
بقية منك تنفثني
وهنا
كل شهيقي ذاتك
(... )
تتناثر جدائل الشوق
تهفو لدغدغة اطيافك "51

 

انه انتظار أبدي  لذات مستلبة نحو الماضي  بقوة ، محفوفة بجنون ، ، تعيش على إرهاصاته بإصرار بغيض  دون القدرة على البحث عن خلاص  . تقول الشاعرة "
ليس غريبا أن ينتحر الشوق 
في رقبة الانتظار 
فأشتهيك من جديد 
وابدأ لا ازفرك "

 

- 5 - جمالية الاستعارة 

 

تبرز جمالية الاستعارة من خلال الحمولة الدلالية التي تكتنزه بها العديد من المفاهيم . مثلا في قصيدة " غيمة لم تكتمل " ص 34، ستتحول الغيمة إلى طفلة تخرج من رحم العصيان، لغسل وجه الوطن بماء الحرية . كاشفة عن فظاعة الاغتصاب ، وعفونة حكم الأحذية الثقيلة . وهي قصيدة ، يمكن اعتبارها صرخة إدانة ضد كل المساومات على حساب مصالح البلاد العربية من طرف المتآمرين عليها من قادتها.
إنها الغيمة التي تغسل وجه القبح من العهر ، والعفونة ، والاغتصاب ، والفساد ، في مقابل البحث عن وجه آخر للبراءة ، والحقيقة ، والحرية .
في حين سيعكس النداء  رغبات الذات الجريحة الباحثة عن ترميم خيباتها ، للقبض عن الزمن الضائع ، المنفلت ، وعن العشق المتمنع . نداء سيحمل في طياته المطالبة بفرصة ثانية، لكنها تبقى بعيدة المنال . تقول الشاعرة " 
تعال نحيك من الشعاع وهجا 
يقينا حُلكة البعد
(.. ) 
تعال نستقي من الليل دفء العشق 
نتلون بسمرة الغسق " ص 49

 

 نداء  كذلك ستنجح فيه الرغبات لتطوف أصقاعا متمنعة ، وحالمة ،عبر الاستعارة ، والخيال الرحب ، لتمتح من مداد الحلم أبرز معالمها الغريبة ، تضيف الشاعرة "
_نرشف من شفاه الحلم  نبيذ الشوق 
نطوي الفصول..ربيعا فربيعاً
(.....)

نسبر الجنون  "
لنلمس في النهاية أن البحث عن الآخر ، في الواقع هو بحث عن الذات ، وعن الهوية المسلوبة ، التي تشكل موطنا ، ووطنيا في ذات الوقت .

 

-6 -طقوس الكتابة الليلية
 

تبرز لحظة الكتابة من خلال هذه القصائد كلحظة ليلية ، وهو أمر لمسناه من خلال الرصيد اللغوي الموظف في العديد من النصوص . "هذا الزمن البوهيمي المندلق مرة كمساء ، أو حمرة الليل ، أو كزمن يضم إشارات المرور نحو الكتابة ، أومصادرة للحلم ، أو لحظة للتشويش ، أو لحظة للسعادة ".
مساء يأتي من نافذة الحلم ، يمد أحيانا يمناه ، أو يثير الدهشة تحت أحزمته ، كزمن يغسل غسق وجهه ، أو كزمن للاغتراب ، والذبول .
ولعل تكرار الاحالة على هذا الزمن ، ودلالته ، هو ما أوعز لنا بهذا الطرح ، حيث نجد الإشارة إليه في العديد من القصائد من خلال توظيف قاموس من قبيل "
حين يأتي المساء ، ذات مساء ، ذلك المساء ، وتسالين الليل ، يسائلها الليل ، يشرفني الليل ، على صدر الليل ، حلول الليل ، أطراف الليل ، يغفو الليل .... " 
فالليل لحظة كتابة ، ولحظات ولادة القصيدة ، برز جليا من خلال قصيدة "حين دعاني القريض " ص 71 ،مبرزة الحالة النفسية التي تعيش الشاعرة لحظات سموها ، ورواقها، ورغبتها . حتى تستوي قصيدتها منتشية في اكتمال ودلال . وهي إحالة  إلى ولادة جديدة بكل ما تحف صاحبتها من حب ، وفرح ، كتعويض عن ليالي السهاد ، والسهر .

 

كما ترتكز آليات الاشتغال في الديوان على أساليب متعددة ، كأسلوب الخطاب ، في قصيدة "كن كما أشاء" 69 ،التي يتحول فيها الخطاب من أسلوب التمني ، إلى أسلوب النداء ، ثم الي الكينونة ، خطاب بقدر ما ينطوي على ترجمة للرغبة ، يروم الكشف عن المكبوت ، والمحسوس به ، وكذلك المحلوم به ، كواقع ملموس ، تقول الشاعرة " 
كن كالغيث
كالريح العنيد 
كرذاذ يلثم الخدين 
كالطير الغريد"
وهي إشارات لبلوغ مراق أعلى درجة من الاستعارة نفسها ، بهدف التحليق نحو الأمنيات العالقة .
" كن لقلبي برزخا
حين التلاقي يوم العيد 
أو كصدر يستقي التنهيد
من نبع رغيد " ص 70 
و أمنيات تظل الذات الشاعرة تطالب بإلحاح تحققها ولو رمزيا "
كن إذن كالرغبة الجذلى
بميلاد سعيد" ص 70 
كما تترجم نداء الجسد التواق إلى الحب والحياة الجديدة ، المفعمة بالحبور ، تبديدا للترقب ، والغياب ، والانتظار ، والشوق .فاعتماد  البوح استراتيجية ،أبرز تعدد قوالب كتابة تجمع بين طياتها بين النفَس الشعري ، والإيقاع السردي الهادئ والهادر ، وفق لغة جارفة ، بصمت القصائد بصور شعرية متداعية في رقة وجلال . كتابة تمتح كذلك من الوصف ، لتنساب كرذاذ مطر أو بقايا لهاث ، وحلم جميل. "كنتُ يا قلبي ( منبهرة ) ، ولا زلت بزرقة الماء المعكوس من صفاء السماء ،مشدوهةً ببياض الياسمين  وحمرة شقائق النعمان ... وطول صفصافة بيتنا ، وزيتونة جدي الشاهقة حيث كنا ندون لقاءاتنا قبل الوجود" 57 ،

 

- 7 -العلاقة بالمكان
 

تبرز تجليات العلاقة بالمكان متأرجحة بين القبول والرفض ، الحب ، والنفور ، كما في قصيدة " أجساد متَهتِّكَة" ص 50 ،التي عرت عن نفسية الشاعرة داخل فضاء مدينتها ، وكشفت عما يمور بأعماقها . و جعل مشاعرها متضاربة نحو المكان ( المدينة ) ، التي برزت ك " 
مسحة من الورم تتخابث خلف العبث
تمشط ضفائر النخاسة تحت السديم 
في عقر القمار بكل شيء " 
تيه ، وانتفاء للهوية ، وللكينونة ، داخل فضاء موبوء ، " متعهر" ، ومتهتك، تنمحي فيه كل الملامح المميزة . تقول الشاعرة " 
وحين يندلق المساء 
وانت تتمسح بحمرة الليل 
تنثال عفونة العهر من عينيك 
تشاكس الأثداء المصلوبة 
على مقاصل الوقت" ص 10 
ورغم هذا النفور الكبير من المكان ( المدينة ) ، فإنه يسكن صاحبته ، ما يحيل كون عامل الكراهية ناتج عن رفض المال الذي آل إليه واقعه ، وسلوك أفراده ، تضيف الشاعرة 
" وأنت تلفظ آخر تسكعك في رقعتي
تلحسك عيون وديعة 
ترقب انتشال أي شيء منك ، حتى اسمك 
الموبوء" ص10 

 

في حين سيبرز مكنون القلب ( كمكان ) للإحساس الداخلي ، عن حب دفين لنفس المكان ( المدينة ) ، باعتباره مسقط الرأس ، كدلالة على الانتماء ، والارتباط القوي الذي يفوق ما أعلنته عنه من نفور وكراهية ، تقول الشاعرة " 
كل الفصول للنوارس تغني
أن احتضني 
عشق الأرض .. في وطني 
تضمخي زرقة السماء ..كفنا 
وانثري على قرص الشمس القُبَل " ص 11 
كما يتحول المكان في بعض القصائد إلى دافع لتأجيج الذكريات ، والمواجع ، مكان يسكن الحنايا ملفوف بالحنين إلى حبيب ما ، والشاعرة على شرفات عمرها تتساءل عن حالتها الغريبة ، وما انتاب كيانها فجأة بعد صبر طويل ،
" وانت واقف على شرفات عمري تشهقني ،
من تكون؟ وعُباب العشق اصطخاب في عمقك وعمقي 
يأخذني منك ويعيدني 
(... )
عرِّفْني مَن أكون 
اذا علمتَ مَن تكون ...."ص61/ 6262

 

انها الحيرة التي تلف الذات الشاعرة على هدير الذكريات التي تتناثر رذاذا على ضفاف الرقراق/كما على ضفاف نهر سبو "
على ضفاف سبو، كمال ضفاف الرقراق، هناك تتبعثر "نبوضنا " على أوردة الليل " 
(.. ) 
نذوب ونمتزج من جديد " ص 62 
وهو ما يجعل المكان ورحابته كذلك فضاء مثاليا لولادة جديدة ، او إعادة للتشكل ، من خلال البحث عن الذات بين تجاويف الذكريات ، وعباب العشق.
كما سيبرز المكان كفضاء مقفر ، وموحش ، كما في قصيدة " تراتيل المطر"  ص67 ، حيث تم بناء  المكان ( المدينة الفارغة السكان إلا من شخصين)  ، مدينة مترعرة  في حشا  السكون ، وبالتالي يتحول البطلان بدورهما ، إلى شخصين مبهمي الملامح ، يتحركان داخل صمت مبعثر ، وتيه كبير ( في إحالة على أسطورة بدء الخلق ) ما يمنح الإحساس بعدم الانتماء ، بدافع الترحال ، والبحث المستمر ، تقول الشاعرة " 
وحين يلثمني عطر اسمك
القرمزي
يبعثرني سواد الليل في عينيك
ابحث عن بقاياي في بعضي 
خارج الزمن المكلوم" ص 68

 

فقصائد ديوان " حبات مطر " للشاعرة المغربية سعدية بلكارح ، هو ارتحال نحو الذات وعوالمها الداخلية ، وكشف عن عمق الاصرار الإنساني في البحث عن الأنا الضائعة ، والحلم المجهض ، لاستعادة التوازن الذاتي ، في عالم تنتصر فيه الكتابة  ، لتحقق  تنوعها ،  وتعددها  ، وبالتالي تفردها . كسيرة للألم ، ووسيلة للانعتاق عبر تأمل وجودي ، وبوح صوفي يصل حد الانسلاخ  .

------------------
 

( 1) سعدية بلكارح " حبات مطر " شعر مطبعة القرويين ط 1 الدارالبيضاء  2015

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً