الاثنين 03 فبراير 2025 آخر تحديث: السبت 1 فبراير 2025
الكتابة سيرة للألم قراءة في ديوان " حبات مطر "(1) للشاعرة سعدية بلكارح - حميد ركاطة
الساعة 23:33 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


في ديوانها " حبات مطر " تبرز الشاعرة المغربية سعدية بلكارح اشتغالا متنوعا ، ارتكز على ابراز صورة الذات في مرايا القصيدة ، من خلال اعتماد خطاب متنوع بين الاسترجاع ، والبوح ، وخطاب الذات ، والتصوف العاشق .و خطاب الآخر . وهو ما أبرز صراعا نفسيا لذات مبعثرة تعمل على إعادة ترتيب شتاتها ، بنوع من القلق ، بين الغياب والانشطار . 
 

لقد توسلت الشاعرة لإبراز ذلك على آليات اشتغال متنوع ، بين التركيز على الصورة الشعرية المتداعية ، والاستبدال اللغوي ، والاستعارة ، من خلال التنويع بين الكتابة الشعرية ، والنثرية . ما جعلها كتابة متمركزة حول ذات رسمت سيرتها ،بالارتكاز على الاسترجاع 
والارتكاس نحو الماضي . كما برز طقس كتابة ليلية ، تبعا للقاموس الموظف في العديد من القصائد . 

 

في حين برزت العلاقة بالمكان،  بين الحب ، والنفور ، والتمرد ، ناهيك عن الحضور القوي لصورة الوطن ، ومعالمه بالإضافة إلى استحضار  بعض القضايا الاقليمية كالقضية الفلسطينية . لنتساءل عن أهم مرتكزات هذا الديوان ، وعن خلفيته الجمالية ،والابداعية حسب ما تجلى في قصائد الديوان  .
 

1) صورة الذات في مرايا القصائد 
 

تتحول الذات الشاعرة إلى صنوبرة ، تبارز عاصفة،  بقدر ما تعمل على افتضاض جموحها ، تعكس ظلال نفسيتها التواقة للارتواء، كما في قصيدة " حبات مطر " ص 15 ، وهو ما جعل من عامل الأنسنة أساسيا للكشف عن رمزية الأشياء ، ودلالتها داخل قصيدة تدثرت فيها الذات بالاستعارة ، والمجاز، لتمرير خطاب البوح الصادق للآخر ، ما عرى شوقها ، وتمزقها ، وألمهاورغبتها ، المفعمة بالانشطار ، تقول الشاعرة "
صواعق الشوق تدوي 
تبرق وترعد حولي
تجرفني سيول الشتاء الماضي إليك 
تخدعني زخات منكسرة على شطآنك 
لامرأة أخرى التحفت ظلي " ص 15 

 

فالخطاب الشعري المتوسل بالاسترجاع ، والتذكر يتوغل نحو ماض قاس جدا ، ليعري عن درجة عالية من احتراق الذات ، وعن حسرة  ذات موغلة في الألم ، بالارتكاز على آليتي البوح ، أواللوم ، وكذلك الندم ، تقول الشاعرة " 
كنتَ فيه العاصفةَ تفتض جموحي
وكنتُ صنوبرةً تبارز جنونك " ص 16
ولعل هذا الاسترجاع المرير ، لم يكن مجرد عامل لإبراز عمق الخلاف الحقيقي بين الشاعرة ، وحبيبها. فهي بقدر ما قدمت العديد من التنازلات ، تحملت وقع الخيانة ، والفراق ، والجفاء . لكنها رفضت بشكل مطلق ،تجريدها من حلم حياتها . تقول "
ليس عيبا تجريدي من 
نومي 
إنما العيب تجريدي من 
حلمي " ص 17 

 

لتبدو الذات  ككيان محتل من طرف نفسه ، حسب ما تجلى  من حمى الصراع الدائر في نفسية الشاعرة ، كما في قصيدة " حين تحررت مني " ص 20 ،  صراع يضمر رغبة التحرر من قيود مضمرة ، مكبلة للرغبة ، والبوح ، والانطلاق  ، مما وضعها على محك تأمل وجودي رهيب .تقول الشاعرة "
شهقة تسافر في المدى 
تتوغل بين اغترابك ، وترقبي " 
وهي قيود تعبر في الواقع  عن أقسى درجات الرغبة في الانسلاخ ، والتحرر تقول " 
لم تعد تلك النظرات اليابسات ترهبني 
قد تحررت ذات يقظة منها ، ومني " ص 20 
وهو تحرر يهدف للبحث عن عالم جميل ، وعن شوق يضخ جرعة الحياة ، والحب في أسمى معانيهما ، وإلى غسق يغسل فجرُه ،  وجهَ الليالي الحالكة .تقول الشاعرة "
تلوح شقائق النعمان 
تبشر بحكايا ألف ليلة وليلة 
تضُوع رائحة اللُّقاح " ص 20 .

 

كما ستبرز حالة الذات الممزقة  من خلال قصيدة " انفاس مضطربة " ص 30 ، كذات موزعة  بين أحلام اليقظة ، وكوابيس الحلم ، بتحولها إلى ساحة وغى مليئة بالصراع ، والتوتر ، والقلق ، والغضب . لتنعكس ردود أفعال بارزة ،  من خلال الارتكاز على متناصات عديدة مستوحى أغلبها من النص القرآني بدت على شكل تساؤلات :"
كم من "هيكل سليمان " بات مزروعا في أرضي ؟
كم من بلقيس شمّرت عن ساقيْها لتدخل صَرحي ؟
كم من ..أبي جهل " تطَبَّع في سوق نخاسة باع أتْربتي ؟"
هذا الكشف الدال ، ستطالعنا تداعياته ،  في نهاية القصيدة ، كيقينيات موحية على تيه ، وضياع ، لذات أشبه بوطن قلق ، وحائر . تقول الشاعرة "
اليوم أيقنت أني مجرد أرقام 
منسوخة من رفات صمتي 
التصقت بجدارٍ وَهْميّ 
( ..)
ولن أبكيَك بعدُ يا وطني 
فإن مت
لن أسقيك من دمي " ص 30/31 

 

في حين ستبلغ الذات  الممزقة درجة عالية من التماهي بين روحين ، ونفسين ، كما في قصيدة " سكبة طائشة " ص 39 ، حيث نشعر بنوع من الانصهار اللا إرادي في ذات الآخر، لحظة شوق جارف ، سيجرد الذات الشاعرة  من هويتها ، وكنهها ، وسيتحول الآخر إلى رداء وحيد ، يلف  ذلك الكيان . وهو ما حقق نوعا من الامتلاء الروحي الذي وصل درجة عالية من الحلول ، جراء سكبة لا إرادية ستجردها من هويتها ، تقول "
 تجردني مني
فألتحفَ آخر ورقة تسّاقط على طاولتي 
ليسود العراءُ حولي ..وتظلَّ أنت .. ردائي " ص 39 
إنه التحام إرادي  كذلك سيتم عبر الانجذاب بين كيانين ، ينفلتان من عقالهما ، وسيتناسلان إلى أجزاء غامرة ، تعيد ترتيب أبجدياتهما المبعثرة من جديد .

 

لكن السؤال الذي يطرح  نفسه بقوة هنا هو ، لماذا تتدثر  هذه القصائد بخطاب ذاتي إلى بكل هذه الأهمية ؟ وهل يمكن اعتباره ( الخطاب ) ،  نوعا من الأنانية ، أو مجرد  تمركز حول الذات نفسها  ؟ أم أنه مجرد بحث عن تفرد ، ومغايرة ؟
فالحميمية التي تكتب بها الشاعرة  سعدية بلكارح عن ذاتها ، أو محاسبتها ، أومساءلتها ، أوانتقادها ،  إن كان ظاهريا يعري عن انكسار ، وخيبة ، وفشل ، وحزن ، وحيرة ، فإنه في ذات  الجوهر يبرز بحثا عن التطهر ، والصفاء ، من خلال خطاب ارتكز على رصد تفاصيل يومية مفعمة بجرأة عالية ، بصدق كبير . تقول الشاعرة في قصيدة " شرود لذيذ " 
إليك يا أنا أكتب يومياتي هذا المساء 
أنت يا امرأة خضبتْ خلجاتِها ألوانُ الفقد 
أنت حين يأتي المساءُ ، تفيقُ 
فيك كل الحواس إلا حاسة 
الادراك " ص 26 

 

ما يفسر  لحظة  ذلك الارتقاء نحو تصوف جارف ، سيجرد الذات الفانية من أدرانها ، وأوزارها ، لتنخرط في سكر روحي عاشق،  ثمل بالوجد ، والشوق ، والآهات . كأنه بحث عن ولادة جديدة ، تعيد نوعا من التوازن للذات الحائرة  . تقول الشاعرة "
وتسألين الليل هل تستطيع أن تصنع لي هوية من ابتسام 
الصبح ...تدلني عليّ ؟ " 
هذي يدي رصيفٌ للجراح....
(....)
لم أعد أعرف .. هل أفرح ام أحزن ؟ " ص 26 
إنها أسئلة دالة على الحيرة ، والتيه بين طيات وجد عاصف ، ستنتهي بمتعة الادراك والكشف "
لتنام بين جفنيك يا أنا
 دمعةٌ 
تضمّختْ بالفرح " ص 26 
وهو إحساس سيترجمه كذلك النص الموازي " سعديات " ص 27 ، تقول الشاعرة " 
يسائلها الليل عن طيفه ، يخاتلها حين الغياب ، وهو بين الهدب ، والجفن ، تغزله شعاعا لصبحها والمساء " 

 

كما سيكتسي "خطاب الذات"  في قصيدة " بتلات حارقة " ص 18 نوعا من الانعكاس في مرايا البوح ، حيث تكشف الشاعرة عن لوعتها ، وحبها ، واشتهائها الجارف ، لمعشوق متمنع ، يرفض الانصياع ، وهي ترصد بدهشة ، ولعها المفاجئ به " 
ما فطنت ولوجك العابث ، ولا وعيت 
تاريخ سفرياتك المهووسة إلي " 
إنه  بوح عكست مرايا الداخل،  تفاصيله الدقيقة ، وعرت عن حيثيات اندساسه بالأعماق لحظة استرجاع مفاجئ ، من خلال استقرائها لملامحه، تقول الشاعرة  " 
رهينة عينيك الشبقيتين ، أوارب عطشي ، وتغنج الاشتهاء
تفتنني ألف مرة 
وتضمَدُني رشفةٌ من شفاه الشوق " ص 18 
وسيتحول هذا البوح الصادق إلى حافز ، لتوجيه دعوة للمحبوب ، لإعادة تنضيد أوراق علاقتهما من جديد،  كي لا تظل منفلتة ، أوملتبسة .ب إزاحة الغموض عنها ،وقد توسلت  في ذلك ، بنماذج من قصص أسطورية سابقة ، و تجارب معاصرة ، وقصص مفعمة بالقسوة ، والخرافة ، والجنون . تقول الشاعرة "
على ركبتيه يجثو " نيرون " ضارعا ، يجترح جنون الخرافة 
يجتر هلوسة الجور ، وفظاظة الانكسار 
ما عادت قدسية لمبعدك ايتها " الإيزيس " ولا بتنا نهاب 
آلهتك المحمومة 
في زمن الصرع ، وجذبة " بويا عمر " " ص 18 

 

وسنلمس أن هذا الطرح ، المستمد من الأسطورة ، سيقابله طرح آخر أكثر غرابة ، وجنونا في زمن حاضر مليء بالخرافة ، يمتح من المعتقدات الغيبية  المحلية ، كنه دلالته ، وخصوصيته المحلية ، في إحالة على الجنون ، من خلال الاشارة إلى " جذبة بويا عمر " طرح  سيكسر موروثا فقد هالته الخرافية ،  في وقت أضحت فيه الحاجة ماسة إلى تغيير القناعات ، والعقليات ، حول مفهوم الجنون ، و الحب ، اعتمادا على مقاربات جديدة ، ترتكز على الارادة ، والوعي ، والقناعة ، والرضى ، لمواجهة مصير الحب ذاته .تقول الشاعرة "
 انفضي خيباتك ايتها المنيعة ، وادرئي عنك علات الماضي ، فالموج يصرع بكبرياء دون تدن حين  (الالتطام ) " ص 19 
فالحب سيظل معلقا بين الغياب ، والانتظار كذلك،  كما يبرز قصيدة " أنت الذي في خاطري " ص 59 ، وهو ما يجعلنا نتساءل عن أسباب تحول الذات الأنثوية إلى مجرد مدينة مهجورة ، تنتظر فارسا يأتي  من بعيد ، ليعيد تأثيث فضاءاتها ، ويذب الحياة في شرايينها من جديد ؟
فكل انتظارات الأنثى من خلال هذه القصائد  ، تظل مقترنة بالخوف ، أو الكشف عن الاشتهاء ، والافصاح عن الشوق ، أو إبراز الألم ، انتظارات لا يتحقق فيها اللقاء المباشر ، بقدر ما تحقق على صفحات  هذه القصائد، عبر التخييل ، أو ترجمة الاحساس الداخلي المفعم بالوهم . تقول الشاعرة " 
تنتابني رعشة الهذيان 
تجتاحني أعباق أنفاسك 
على ضفاف  الوريد
يستقي سقمي  ترياق الحياة 
( ...) هكذا أحسك هذا المساء " ص 60

 

فبين  بين خطاب الأنا،  و" الذات "، سيبرز خطاب الأخر، كما  في قصيدة " فوق الريح " ص 28 ، لتكشف أثاره  عن ندوب غائرة في الذات ، أو عبر هواجس ، وأمنيات مترسبة كذكريات  في رحم الذاكرة ، تؤلب مواجع الشاعرة ، لكنها لا تصل حد هزيمتها ، تقول الشاعرة " 
أبحث عني بين رفات أمنيات
أرمست ذات حين لأجدني تاجا 
بين القرابين 
يعلو الغصون الحانيات ، تميده الانواء ، وأبدا لا تطيحه " ص 28 
وسنلمس أن هذه العودة إلى الحياة ، ستوازيها ولادة جديدة ، لكون النوائب تقوي الروح المنكسرة ، وتخلق وهجها من جديد ، تمنحها جرعة أمل ، وترسم لها مسارا ، مغايرا تقول الشاعرة  " 
ذاك المساء 
عزفت آخر لحنٍ من تأليفكَ،
كسّرتُ قيثارتي على نصبك القابع 
داخلي
تحررت من لون جدائلي
وتعفَّرت بلون الحرية ..
هذا المساء " 
سعديات ص29

 

ونلاحظ أن حضور الآخر، سيتجسد بقوة عبر حالات مختلفة ، وسيتشكل لحظة الحنين بقوة ، أو لحظة الحلم ، والصمت ، والتأمل ، والتيه ، والضياع . وفق طبيعة الأماني ، والرغبات ، لكنه سيظل متمنعا في الواقع ، تقول الشاعرة "
(..) 
رأيته يحملق في السماء ...
يجرد خاطري من أخيلة الصمت ..
ينشر حولي عبق الظلال..
يفسر لي حلما ضاعت ألوانه
إلا من لون ...يشبه همسه ..
ذاك المساء ..." ص 25 

في حين سيبلغ التعلق بأشياء الآخر  درجة الجنون ، عنداستحضار الذكرى ، أو من خلال "استنشاق عطر معطفه الرمادي "، ليتحول الأمر إلى إحساس بالكينونة . تقول الشاعرة "
ألملم شتاتي المركون خلف وخْز
الذاكرة 
أتوضأ همس عينيك العسليتين 
أتفيأ ظلك المصلوب على ناصية المدى 
أبعثر صمتي الغارق فيك     
فأرحل إليك " ص 33

 

2) سعديات ومجاورة الشعر للنثر 
 

نلاحظ أن قصائد الديوان مذيلة بفقرات تكشف عن تأملات عميقة ،ذيلت  تحت عنوان فرعي " سعديات " تعبر عن الموقف ، ارتكازا على الوصف ، والاستعارة ، أو ضمن بناء تقابلي ( ضوء / ظل ، شمس / كسوف ...) محملة برمزية متعددة الدلالات ، والتأويلات ، لكنها في الواقع تكشف عما يخالج الذات الشاعرة ، من أحاسيس ما يحولها في بعض الأحيان  إلى إشراقات موازية، أو متممة للقصيدة ، لتسمها بمسيم خاص ، وبطابع مميز ، دال على هوية صاحبتها من قبيل "
أيها البعيد لون ظلالك ، واكتسبْ حياة تصطليك وحدك ...
 فما عاد للمخيال صدى يبلغ عنان العنقاء .." ص 14 
وهي مقاطع شعرية ،أو نثرية،  تفتح أفق القصيدة على أفق مغاير ، بتقديمها للعديد من البدائل أو بتشييدها لتوازي نصي ، في إطار من التأمل، أو التقابل ، حسب طبيعة الموقف أو الموضوع .مقاطع مدثرة بحمولات، واستعارات ، وتشبيهات ، وببوح شفيف، يعري عن الرغبة ، والشوق ، والجنون ، لتشكل صورة شعرية متداعية ، ومنسابة بهدوء ، كما تبرز أحيانا كقفلة غير متوقعة . ما يجعلها  كتابة تبرز كانعتاق من ربقة الصمت ، وتمردا على الحزن ، والغبن ، تحلق نحو آفاق رحبة . مبرزة الوجه الآخر للحقيقة المضمرة ، أو للحلم المأمول ، أو للرغبة المقموعة ، أو للصورة المحلوم  بها . لتضحى خطابا ذاتيا ، خاصا يرسم ملامح الشاعرة ، وخريطتها الذهنية ، والنفسية ، المتشعبة ، والمتعددة القسمات والمسارات ، والتطلعات .كما تتخذ  هذه المقاطع أحيانا ملمحا مستقلا،  يكشف عن مجاورة الشعر للسرد ،  باعتبارها نصوصا مستقلة بذاتها ، محددة الهوية عبر ارتكازها على  بناء قصصي ساخر ، للاستدلال على معنى مضمر، كما حدث مع مفهومي " الضجيج / والنباح " الدالين على الاستسهال في الكتابة الشعرية . وبالمقابل تتحدد كمطلب مضمر ، يحث على عدم الاكتراث بالكتابات الرديئة، تقول الشاعرة " 
( ..) 
- وما الضجيج ؟
- إنها بعض الظلال تتحرك بحركته ، فتتداخل فيما بينهما ، محدثة شيئا يشبه الصوت ..لا تحفلي به أمي .
- لا ، لا أبدا لا أهتم ..اغلقي المنافذ يا ابنتي ، وابسطي قلبك للنور " ص 54/55 .

 

3) الكتابة الشعرية بين التضمين والتمرد
 

يمتاز الخطاب الشعري عند الشاعرة المغربية سعدية بلكارح بلغتها الشفافة ، الميالة إلى البوح ، عبر التوسل باستعارات ، وبتوظيفها لأشياء ، من قبيل"مزنة،  شفق ، صدى، مدينة، كرونوس ، رجفة.، دمعة ، امرأة ..." للتعبير عن الذات ، التي بقدر ما تمتطي هذب الشمس ، تجتر حزنا دفينا ، وتشهق بعيدا عن قارعة الحنين .
هكذا تتحول القصيدة ، إلى امرأة تسابق الريح ، دون أن تنكسر أو تتأرجح بين الرمشين كدمعة ، أو كرجفة تخلع الانتكاسة . ما يجعل الصورة الشعرية في تداعياتها ، وانسيابها حمالة أوجه ، ودلالات ، تستقي مفاهيمها ، من قواميس متنوعة عبر الاستبدال اللغوي ، واللفظي ، الذي لا يخل بالمعنى ، بل يجعل منه مفتوحا على التأمل المتعدد . تقول الشاعرة "
خبروه عن مزنة بين الريح
عن شفق زاغت حرمته
عن كرونوس ..في وهلة " الإبتلاع"
عن زويوس .. في حانة الغضب 
عن رجفة تخلع الانتكاسة 
(... )
عن لغة نكصت على عَقبيِ الخليل 
خبِّروه عن امرأة من شعاع 
تسابق الريح ولا تنكسر "

 

فأسلوب النداء بقدر ما يخفي في طياته طلبا ، يضمر تمنعا ، وأنفة عن البوح المباشر . وهو كاشفا عن الاعتزاز بالذات، وعن تمسك برفض الانصياع ، أو الخنوع ،وهو ما تحيل عليه عتبة قصيدة "خبروه اذا يوما عنِّي سأل " ص  22 ، التي  تدري أبياتها  ألما دفينا ، وسؤالا عن الغياب .
فالصورة الشعرية كذلك ،ستبلغ درجة عالية من التشكل، بتحولها إلى أفق رحب يترجم المعنى المضمر ، ويكشف عن المحتمل ، والمرغوب فيه ، أو المحسوس به ، تقول الشاعرة " 
سحائبي تمردت
هطلت مطرا أزرق
فأنْبتَت أرْضي حجارة
وصوتا أحمرَ" ص 35 
في إحالة على تحول قصري ،  على مسخ تفقد معه الأشياء بهاءها، وجمالها المعتاد .
في حين ، سنلمس ان الخطاب الشعري ، ارتكازا على الوصف سيلبس النفس هيئتها المتخيلة ، لتنسج خطابا صريحا ، يستمد مقوماته عبر استبدال لغوي ودلالي عميق ، لتناسب القصيدة وفق بناء تقابلي بين ( الأنا /الاخر، الذات/النفس... ). في حين تتحول الأشياء اللا مرئية ، والمحسوس بها ، إلى كيانات مستقلة الذات ، بعد استحضارها . تقول الشاعرة " 
تشفط ترهلات الاغتراب في الجسد
تُسْبِي قبلات الأماسيِّ الذابلة 
(... ) تجْتَرُّني الصباحاتُ
تتثاءب على نحْري أنفاسُ الفجر (.. )ص 24

 

وهو أمر يحول الذات الشاعرة إلى ذات مسلوبة الإرادة ، منقادة نحو قدرها المجهول ، لا يخرجها من شرودها، وحيرتها سوى حركة مفاجئة .
"تنبلج سطوة معصمِك
وأسرار عطري 
ينط طفل بداخلك 
وطفلة بداخلي 
ينسجانِ حكاية بقلب ووجهين" ص 24 
في إحالة على حالة التحام ، وتجاسد مفاجئ ، يكسران خلاله ربقة الشرود ، والتيه ، عبر الانصهار في ذات واحدة ، بانجذاب عاصف.

4- الكتابة سيرة للألم
 

إننا إزاء قصائد تجعل الذات مركزا ، والذاكرة مرجعا ، والأشياء لبنات موجعة ، تتفتح زنابقها في مروج جسد جريح ، قصائد تكشف نتفا من سيرة ألم ، لم تندمل جراحه الغائرة بعد . تقول الشاعرة " 
دمعة سوداء
انسحبت من قتامة الشمس
أحرقت في مدينتي 
لذة الشروق " ص 47
ما يترجم ألما واحترقا، وتشويشا لذاكرة ، لا تزال  تعيش على آثار سياط جلادها ، المشومة في الحنايا ،ذاكرة  تجد صعوبة في التكيف مع واقعها، لتظل أسيرة المها الأبدي . و وسواسها القهري .لتتمركز حول ذاتها بقوة. وهو ما يفسر سر ذاك الاحتراق ، وذلك التوق نحو استعادة الذكريات ، وبالتالي الآخر. 
إنها قصائد تنزف ألما ، وحيرة على ماض تليد ، وعلى حب مجهض ، لتنتكتب سيرته بمداد الاحتراق ، محيلة الحاضر مجرد محطة للانتظار ، والمستقبل  أفق عدمي ، تضيع فيه كل الآمال .فاقدة  لكل قدرة على النسيان .ماض تسترجع ،تفاصيله الرتيبة ، بالقوة ، كما برز في في قصيدة " حين أنتظرك" ص 51 ،
هناك 
بقية منك تنفثني
وهنا
كل شهيقي ذاتك
(... )
تتناثر جدائل الشوق
تهفو لدغدغة اطيافك "51

 

انه انتظار أبدي  لذات مستلبة نحو الماضي  بقوة ، محفوفة بجنون ، ، تعيش على إرهاصاته بإصرار بغيض  دون القدرة على البحث عن خلاص  . تقول الشاعرة "
ليس غريبا أن ينتحر الشوق 
في رقبة الانتظار 
فأشتهيك من جديد 
وابدأ لا ازفرك "

 

- 5 - جمالية الاستعارة 

 

تبرز جمالية الاستعارة من خلال الحمولة الدلالية التي تكتنزه بها العديد من المفاهيم . مثلا في قصيدة " غيمة لم تكتمل " ص 34، ستتحول الغيمة إلى طفلة تخرج من رحم العصيان، لغسل وجه الوطن بماء الحرية . كاشفة عن فظاعة الاغتصاب ، وعفونة حكم الأحذية الثقيلة . وهي قصيدة ، يمكن اعتبارها صرخة إدانة ضد كل المساومات على حساب مصالح البلاد العربية من طرف المتآمرين عليها من قادتها.
إنها الغيمة التي تغسل وجه القبح من العهر ، والعفونة ، والاغتصاب ، والفساد ، في مقابل البحث عن وجه آخر للبراءة ، والحقيقة ، والحرية .
في حين سيعكس النداء  رغبات الذات الجريحة الباحثة عن ترميم خيباتها ، للقبض عن الزمن الضائع ، المنفلت ، وعن العشق المتمنع . نداء سيحمل في طياته المطالبة بفرصة ثانية، لكنها تبقى بعيدة المنال . تقول الشاعرة " 
تعال نحيك من الشعاع وهجا 
يقينا حُلكة البعد
(.. ) 
تعال نستقي من الليل دفء العشق 
نتلون بسمرة الغسق " ص 49

 

 نداء  كذلك ستنجح فيه الرغبات لتطوف أصقاعا متمنعة ، وحالمة ،عبر الاستعارة ، والخيال الرحب ، لتمتح من مداد الحلم أبرز معالمها الغريبة ، تضيف الشاعرة "
_نرشف من شفاه الحلم  نبيذ الشوق 
نطوي الفصول..ربيعا فربيعاً
(.....)

نسبر الجنون  "
لنلمس في النهاية أن البحث عن الآخر ، في الواقع هو بحث عن الذات ، وعن الهوية المسلوبة ، التي تشكل موطنا ، ووطنيا في ذات الوقت .

 

-6 -طقوس الكتابة الليلية
 

تبرز لحظة الكتابة من خلال هذه القصائد كلحظة ليلية ، وهو أمر لمسناه من خلال الرصيد اللغوي الموظف في العديد من النصوص . "هذا الزمن البوهيمي المندلق مرة كمساء ، أو حمرة الليل ، أو كزمن يضم إشارات المرور نحو الكتابة ، أومصادرة للحلم ، أو لحظة للتشويش ، أو لحظة للسعادة ".
مساء يأتي من نافذة الحلم ، يمد أحيانا يمناه ، أو يثير الدهشة تحت أحزمته ، كزمن يغسل غسق وجهه ، أو كزمن للاغتراب ، والذبول .
ولعل تكرار الاحالة على هذا الزمن ، ودلالته ، هو ما أوعز لنا بهذا الطرح ، حيث نجد الإشارة إليه في العديد من القصائد من خلال توظيف قاموس من قبيل "
حين يأتي المساء ، ذات مساء ، ذلك المساء ، وتسالين الليل ، يسائلها الليل ، يشرفني الليل ، على صدر الليل ، حلول الليل ، أطراف الليل ، يغفو الليل .... " 
فالليل لحظة كتابة ، ولحظات ولادة القصيدة ، برز جليا من خلال قصيدة "حين دعاني القريض " ص 71 ،مبرزة الحالة النفسية التي تعيش الشاعرة لحظات سموها ، ورواقها، ورغبتها . حتى تستوي قصيدتها منتشية في اكتمال ودلال . وهي إحالة  إلى ولادة جديدة بكل ما تحف صاحبتها من حب ، وفرح ، كتعويض عن ليالي السهاد ، والسهر .

 

كما ترتكز آليات الاشتغال في الديوان على أساليب متعددة ، كأسلوب الخطاب ، في قصيدة "كن كما أشاء" 69 ،التي يتحول فيها الخطاب من أسلوب التمني ، إلى أسلوب النداء ، ثم الي الكينونة ، خطاب بقدر ما ينطوي على ترجمة للرغبة ، يروم الكشف عن المكبوت ، والمحسوس به ، وكذلك المحلوم به ، كواقع ملموس ، تقول الشاعرة " 
كن كالغيث
كالريح العنيد 
كرذاذ يلثم الخدين 
كالطير الغريد"
وهي إشارات لبلوغ مراق أعلى درجة من الاستعارة نفسها ، بهدف التحليق نحو الأمنيات العالقة .
" كن لقلبي برزخا
حين التلاقي يوم العيد 
أو كصدر يستقي التنهيد
من نبع رغيد " ص 70 
و أمنيات تظل الذات الشاعرة تطالب بإلحاح تحققها ولو رمزيا "
كن إذن كالرغبة الجذلى
بميلاد سعيد" ص 70 
كما تترجم نداء الجسد التواق إلى الحب والحياة الجديدة ، المفعمة بالحبور ، تبديدا للترقب ، والغياب ، والانتظار ، والشوق .فاعتماد  البوح استراتيجية ،أبرز تعدد قوالب كتابة تجمع بين طياتها بين النفَس الشعري ، والإيقاع السردي الهادئ والهادر ، وفق لغة جارفة ، بصمت القصائد بصور شعرية متداعية في رقة وجلال . كتابة تمتح كذلك من الوصف ، لتنساب كرذاذ مطر أو بقايا لهاث ، وحلم جميل. "كنتُ يا قلبي ( منبهرة ) ، ولا زلت بزرقة الماء المعكوس من صفاء السماء ،مشدوهةً ببياض الياسمين  وحمرة شقائق النعمان ... وطول صفصافة بيتنا ، وزيتونة جدي الشاهقة حيث كنا ندون لقاءاتنا قبل الوجود" 57 ،

 

- 7 -العلاقة بالمكان
 

تبرز تجليات العلاقة بالمكان متأرجحة بين القبول والرفض ، الحب ، والنفور ، كما في قصيدة " أجساد متَهتِّكَة" ص 50 ،التي عرت عن نفسية الشاعرة داخل فضاء مدينتها ، وكشفت عما يمور بأعماقها . و جعل مشاعرها متضاربة نحو المكان ( المدينة ) ، التي برزت ك " 
مسحة من الورم تتخابث خلف العبث
تمشط ضفائر النخاسة تحت السديم 
في عقر القمار بكل شيء " 
تيه ، وانتفاء للهوية ، وللكينونة ، داخل فضاء موبوء ، " متعهر" ، ومتهتك، تنمحي فيه كل الملامح المميزة . تقول الشاعرة " 
وحين يندلق المساء 
وانت تتمسح بحمرة الليل 
تنثال عفونة العهر من عينيك 
تشاكس الأثداء المصلوبة 
على مقاصل الوقت" ص 10 
ورغم هذا النفور الكبير من المكان ( المدينة ) ، فإنه يسكن صاحبته ، ما يحيل كون عامل الكراهية ناتج عن رفض المال الذي آل إليه واقعه ، وسلوك أفراده ، تضيف الشاعرة 
" وأنت تلفظ آخر تسكعك في رقعتي
تلحسك عيون وديعة 
ترقب انتشال أي شيء منك ، حتى اسمك 
الموبوء" ص10 

 

في حين سيبرز مكنون القلب ( كمكان ) للإحساس الداخلي ، عن حب دفين لنفس المكان ( المدينة ) ، باعتباره مسقط الرأس ، كدلالة على الانتماء ، والارتباط القوي الذي يفوق ما أعلنته عنه من نفور وكراهية ، تقول الشاعرة " 
كل الفصول للنوارس تغني
أن احتضني 
عشق الأرض .. في وطني 
تضمخي زرقة السماء ..كفنا 
وانثري على قرص الشمس القُبَل " ص 11 
كما يتحول المكان في بعض القصائد إلى دافع لتأجيج الذكريات ، والمواجع ، مكان يسكن الحنايا ملفوف بالحنين إلى حبيب ما ، والشاعرة على شرفات عمرها تتساءل عن حالتها الغريبة ، وما انتاب كيانها فجأة بعد صبر طويل ،
" وانت واقف على شرفات عمري تشهقني ،
من تكون؟ وعُباب العشق اصطخاب في عمقك وعمقي 
يأخذني منك ويعيدني 
(... )
عرِّفْني مَن أكون 
اذا علمتَ مَن تكون ...."ص61/ 6262

 

انها الحيرة التي تلف الذات الشاعرة على هدير الذكريات التي تتناثر رذاذا على ضفاف الرقراق/كما على ضفاف نهر سبو "
على ضفاف سبو، كمال ضفاف الرقراق، هناك تتبعثر "نبوضنا " على أوردة الليل " 
(.. ) 
نذوب ونمتزج من جديد " ص 62 
وهو ما يجعل المكان ورحابته كذلك فضاء مثاليا لولادة جديدة ، او إعادة للتشكل ، من خلال البحث عن الذات بين تجاويف الذكريات ، وعباب العشق.
كما سيبرز المكان كفضاء مقفر ، وموحش ، كما في قصيدة " تراتيل المطر"  ص67 ، حيث تم بناء  المكان ( المدينة الفارغة السكان إلا من شخصين)  ، مدينة مترعرة  في حشا  السكون ، وبالتالي يتحول البطلان بدورهما ، إلى شخصين مبهمي الملامح ، يتحركان داخل صمت مبعثر ، وتيه كبير ( في إحالة على أسطورة بدء الخلق ) ما يمنح الإحساس بعدم الانتماء ، بدافع الترحال ، والبحث المستمر ، تقول الشاعرة " 
وحين يلثمني عطر اسمك
القرمزي
يبعثرني سواد الليل في عينيك
ابحث عن بقاياي في بعضي 
خارج الزمن المكلوم" ص 68

 

فقصائد ديوان " حبات مطر " للشاعرة المغربية سعدية بلكارح ، هو ارتحال نحو الذات وعوالمها الداخلية ، وكشف عن عمق الاصرار الإنساني في البحث عن الأنا الضائعة ، والحلم المجهض ، لاستعادة التوازن الذاتي ، في عالم تنتصر فيه الكتابة  ، لتحقق  تنوعها ،  وتعددها  ، وبالتالي تفردها . كسيرة للألم ، ووسيلة للانعتاق عبر تأمل وجودي ، وبوح صوفي يصل حد الانسلاخ  .

------------------
 

( 1) سعدية بلكارح " حبات مطر " شعر مطبعة القرويين ط 1 الدارالبيضاء  2015

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص