الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
«لسان الأخرس» للمغربي عبد الله المتقي مختارات تستحضرُ هموم القصة القصيرة جداً - أحمد الحسين
الساعة 18:21 (الرأي برس - أدب وثقافة)


 

جمع عبدالله المتقي في كتابه الصادر حديثاً بعنوان «لسان الأخرس» عدداً كبيراً من القصص القصيرة جداً في كتاب واحد، للراغبين بقراءة أنماط عدة منها، إذ يتخفَّف الكاتب من الفهم النقدي الحادّ الملامح للقصة القصيرة جداً، الذي كاد أن يحولها إلى حِكم وأمثال بحجة التكثيف، وباتت تُضطر للتعويل على المفارقات السريعة اليومية مما يمرّ مع المتلقي في تفاصيله، دون محاولة أن تأخذ تلك الأبعاد حقها التأمّلي والتعميقي الذي عادة ما يقوم به الكاتب، ولعل مبالغة الكثير من القاصين في التطبيق الحرفي لتلك المفاهيم أو عدم عمق مواهب بعضهم، جعل الكثير من نصوصها تدخل في العادي، وتبتعد عن المدهش الذي ينتظره المتلقي من الإبداع.

 

شخصيّات بلا رتوش

 

يقدِّم المتقي في كثير من نصوصه أفراداً تدور حولهم الحكاية، نعرف عنهم بعض التفاصيل، ولم يُجروا لأنفسهم الكثير من الرتوش كي يصبحوا مناسبين للقارئ، بل تركهم القاص على سجيَّتهم في التعبير، لكنه حين اختارهم من البيئة المحيطة به، تمعَّن في الاختيار، بحيث إنه استطاع أن يقدم نماذج غير مألوفة للقارئ مما يمرّ معنا في الواقع وهم في لحظة مكاشفة. وقدّم أحياناً نماذج لشخصيات لفتت نظره، اكتفى بتوصيفها، ثم طرح من خلالها مفارقة من مفارقات الحياة. بعض شخصياته كانت ثابتة تتحكَّم فيها الظروف، تحْدُث أشياء في محيطها لتنبّهها إلى تفصيل من تفاصيلها. وفي عوالم المجموعة لا يوجد اختلاف كبير بين الشخصيات الواقعية والخيالية، أو فواصل بين حياة الموت والحياة، فقد تحضر شخصية من عالم الموت لتتحاور مع الشخصيات الأخرى ثم تعود إلى مكانها: «أمي تسرِّح حبال رأسها بالزيت البلدي.. أبي يرتق بلوزته بخيوط بيضاء.. و.. أطلقت عمتي صرخة طويييلة، ثم ملأ النواح المكان. بعدها قيل:»دادة ماتت».غرقت عيناي في الدموع حتى نشفت الدواة. وفي الليل، تسللت جدتي من النافذة، تربعت على الحصير، ضمتني إلى صدرها الحامض، قبلتني كما لو مصتني، وبعدها جمعت حـكـــاياتها في سلة. همست في أذني: البقية في أحجياتك. وأغلقت الباب خلفها برفق».

 

الإيديولوجيا جانباً

 

تتخفَّف بعض شخصيّات «لسان الأخرس» من حمولاتها الإيديولوجية لتتفرغ للتعويل على تجربة المكاشفة، فيرصد الكاتب مثلاً آثام الأطفال العفوية في نص «جسد حواء»، إذ يمزج الاكتشاف مع البراءة، والبيئة الحاضنة لآلية التفكير. وثمة رغبة في الكثير من النصوص بإعادة الإنسان إلى بدائيته، بصفته حالة بدائية، يقول مثلاً: «ثم أقبل رجل أنيق كالغبار». شخصيات كثيرة منحدرة مما يسمى «القاع الاجتماعي» لا تراعي الرسمي بمختلف ألوان ظهوره. ويلحظ أن ثمة شخصيات ارتبط حضورها بحضور الحكاية، لها وقع خاص في نصوصه مثل «الجدة». وكذلك مما يلفت النظر أن عدداً من شخصياته تقدم نفسها في حالتين متباينتين: منتهى الالتزام ومنتهى الجنون، ومن هنا تنشأ مفارقاتهم!
 

وعلى الرغم من تعويل كبير من الكاتب على التجربة مصدراً لقصصه، لكن ثمة بعض القصص تتسرّب من بين نصوص التجارب، إذ نعثر فيها على نقاش لفكرة مألوفة مثل «مطر ومطر» التي تناقش المطر بعيداً عن التفسير الديني، فتتناقش الأفكار فيما بينها مباشرة دون بُعد ترميزي أو تخييلي مما يعدّ نابياً عن تجربة المتقي القصصية.
 

ومن الثيمات الملفتة في قصصه؛ الانتظار/ بصفته حالة بشرية يقوم بها بشرٌ ينتظرون أحبتهم ومصائرهم، يجهزون أنفسهم لذلك، مثل قصة «طوارئ» و»عينيك»، وغالباً النساء في قصص المتقي، كما في الحياة التي نعيش ربما، هي التي تنتظر، انتظار الجسد والروح لمطرها، لكن كما المطر في الشرق قليل، فإن من يفون بوعودهم كذلك قليلون، ليسوا هم السبب دائماً، بل غالباً ما تكون الظروف هي المتحكمة بهم كذلك:»ارتدت فستاناً عارياً، هيأت المائدة، وتمددت فوق السرير، الساعة التاسعة، ولا أحد بالباب. تأملت المرود وقارورة الكحل. تأملت طبق الفستق، والقنينتين، ثم ترنحت كاللبؤة فوق السرير. العاشرة ليلاً ولا.. لا أحد بالباب. و… ورن هاتفها الخلوي: أعتذر… مداومة طارئة».
 

وكذلك تحضر هموم الكتّاب وعلاقتهم مع نصوصهم والتاريخ الأدبي في قصص عدة، منها قصة «ضحك» دون رغبة بتحديد المراد الإيديولوجي أو المضموني الذي تريد توصيله، هي تنتج دلالتها الخاصة دون مفاهيم اللغة العادية، بل من خلال السياق الذي تستنبته، وتكاد تبعث في قارئها حالة من الضحك على لا شيء. ينشأ ضحك بالعدوى تعبر فيه النفس عن حاجتها للضحك بصفته حالة ليس من الضروري أن تخضع لأسباب محددة: «ضحك القصة. الكاتب يكتب فوق طاولة بالمقهى.يكتب مثالاً عن مومستين تمشيان على رصيف يوم السبت،تلتفتان، تضحكان مجاناً، تلتقيان برجل ما، برجلين، وتعودان إلى الرصيف. قبل الليل بقليل، اختفتا من الرصيف، واختفى الكاتب من المقهى. فتح الكاتب باب شقته، باب غرفة نومه، ليجد المرأتين على سريره. كانت تهزان بعضهما، وتضحكان كما المجانين.ضحك بدوره كالمجنون، وارتمى من الضحك فوق السرير». يثير القاص في هذه القصة علاقة الكاتب بشخصياته، وآلية فهمه للكتابة، وكيف يحدث التماهي بين التخييلي والواقعي.
 

وتلفت الكثير من قصص المتقي النظر إلى الجسد بصفته أحد أهم مكونات النصوص الرئيسية وعلاقة الأجساد ببعضها، ليس عبر الإثارة، بل عبر لفت النظر إلى مركزيته في الحياة، بحيث تغدو الكثير من تفاصيلها متعلقة به، من ذلك علاقة الرجل بالمرأة وخصوصيتها وماينتابها من حالات حميمية ومايعاكسها، وكذلك علاقة المرأة بالرجل بعامة وهي محور من محاور كتابته، ويحضر ذلك ضمن أجواء كابوسية يتفنن القاص باستحضار شظاياها من الحياة بلغة عادية قريبة من الناس دون بلاغة معهودة في هذا المجال. ولعل قدرة القاص على صناعة أجواء قصصية ملفتة؛ دون حمولات مباشرة للدلالة، أو مرامات محددة، بل يستطيع أن يقدم حالات جديدة مختلفة.

 

أبنية سردية وتناصات متنوعة

 

يلجأ القاص في عدد من قصصه إلى البناء المقطعي بخاصة في مجموعته «قليل من الملائكة»، فيحاول أن يوصل من خلاله رسائله التي يبتغيها، تاركاً الكثير من الفراغات للقارئ كي يملأها، مؤكداً في هذا المجال، أن الحياة ليست سلسلة متواصلة من الحلقات، بل إن هناك الكثير من الفجوات متروكة دون دلالة تنتظر من يملؤها.
 

وثمة الكثير من العناصر في هذه القصص القصيرة جداً مما يمكن أن يكون موضوعاً لحديث القارئ، من مثل: إعادة تفسير النصوص السابقة،دينية واجتماعية وفكرية وسياسية، مثل «ألف ليلة وليلة، وشنٌّ وطبقة» وسواها من نصوص عالمية، لفت الكاتب النظر إليها، وكذلك يُلحَظ أن هناك بعض التكرارات في الأفكار نشأت بفعل كون الكاتب قد نشر قصصه متباعدة، ثم ضمّها في كتاب واحد، ينطبق ذلك على العناوين والأجواء والأفكار.
 

ويعثر القارئ على همّ مركزيّ يطغى في عدد منها، كأن الكاتب يريد أن يوصل فكرة مفادها: إن الهموم تتغيّر من مرحلة إلى مرحلة أخرى، وتتطور المهارات وتتعدد المقوِّمات، لكن بغض النظر عن مثل هذه التغيرات، ثمة فكرة مركزية في هذا السياق، لابدّ من التأكيد عليها: مهما تعددت هذه المكونات فإنَّ روح القاص تسري في نصوصه، دون مبالغة أو افتعال ، بل عبر أجوائه الكابوسية أحياناً والوجودية كذلك، التي تولِّد حالة خاصة في تفاعل المتلقي مع تلك النصوص بحيث لاتمر أمام مخيلته دون أن تترك بصمتها الخاصة، بحيث يجد القارئ ذاته متشابكة مع الكثير من الشخصيات والمواقف التي تناولها الكاتب، كونه قد رصد الكثير من اللحظات الأكثر حميمية في تفاصيل شخوصه عبر عين استطاعت التقاط الفني والمختلف في تلك الأفعال البشرية.
 

يذكر، هاهنا، أن الكثير من الركام القصصي مرّ على القصة القصيرة جداً في السنوات الأخيرة، وما ساعد على هذا الإقبال الجارف أن الكثير من البشر لديهم القدرة على التقاط المفارقات، وساهم في الترويج لأولئك الكتاب وسواهم، «نقاد» يحترفون الترويج لأي نصّ؛ لمئة سبب وسبب، من الطبيعي أن يكون الرد في مثل هذه الحالة من متابعين كثيرين: التاريخ كفيلٌ بنخْل القمح عن الزؤان! مسكينٌ هذا التاريخ سيرصد القتلة والمجرمين، وكذلك النص المتميز من النص العادي، فالقصة القصيرة جداً بصفتها نصاً ليِّن العود، تحتاج إلى كتاب يُضيفون إليها، لايتكئون عليها فحسب، وهذا ربما هو الدور المنتظر من القاصين والنقاد والعاملين في تاريخ الأدب ونظرية الأدب كذلك.

 

عبد الله المتقي: «لسان الأخرس».
دار النايا، دمشق 2014
288 صفحة.

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً