الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
جدلية الذات والآخرقراءة في ديوان " تلالي تضيق بعوسجها " لعمار الجنيدي - د. ديانا رحيّل
الساعة 12:42 (الرأي برس - أدب وثقافة)

    

     حين شرعت في قراءة ديوان عمار الجنيدي، كان طبيعيا أن يستوقفني في هذا العنوان ما يستوقف أي سامع أو قارئ له، أنه يرتبط بشيء أو أنه مدخل إلى شيء يتعلق بالجانب الروحي في الإنسان من جهة، وبالواقع من جهة أخرى.

 

     فعنوان ديوانه يبوح بالكثير، ويشي التمزق الداخلي الذي يعاني منه الشاعر، نتيجة لإبحاره في خضم بحار هذه الحياة، باحثا عن المرفأ الذي يرسى عنده قاربه، والشاعر حينما يصل إلى ما يظن أنه المرفأ الذي ظل مبحررا أملا في النزول والهبوط فيه، سرعان ما يصاب بخيبة الأمل، ويعود إلى عالم الضياع والغربة، وهذا يتجلى بالعنوان "تلالي تضيق بعوسجها".

 

    ديوان الجنيدي – على ما يبدو - جزء من سيرة طويلة لحياة الشاعر، وهذا الجزء يرتبط بمساحة من همومه، وبما كانت هي الهموم نفسها التي طُرحت من قبل في أعماله، لكنها يُعاد طرحها بشكل آخر، وعلى كل حال يمكن أن يكون لكل ديوان خطابه الخاص في إطار خطاب أعم وأوسع لكل أعمال الشاعر.

 

     فالخطاب في الشعر يكون من الذات إلى ذاتها، ويكون من الذات إلى الآخر، كما يكون عن الذات في منظور الآخر. أي أن علاقات الخطاب ؛ خطاب الشاعر إلى نفسه، وخطاب الشاعر إلى الآخر، وخطاب الشاعر عن الآخر، على أن الخطاب عن الآخر ليس من أجل الآخر –عادة- ولكن من أجل الذات أيضا، وهذا يعني أننا ينبغي أن نتذكر دائما أن الذات هي هدف الكشف.

 

    نستطيع القول أن الآخر في أي شكل من أشكاله هو بمثابة المرآة التي تتجلى فيها الذات لذاتها، والتي ينضج فيها ومن خلالها وعي الذات بذاتها، التي تجد فيها الذات طريقا للتحقق على نحو أوقع وأفضل وأصح بالنسبة إلى نفسها. كل ذلك يمكن أن نستعرضه متقاطعا مع الأحوال التي تعرض للشاعر فيما يتصل بإقباله أو نفوره، بتقبله للأشياء أو رفضه إياها، بوعيه بها أو لاوعيه، أي بالعلاقات الإيجابية والسلبية التي تربط بين الشاعر والأشياء. فالذات يمكن أن تطرح ذاتها من خلال الآخر؛ إما بالخطاب إليه، أو بالخطاب عنه، أو بالتماهي معه.

 

أولا : خطاب الذات عن ذاتها

 

  تنقسم الذات أحيانا لكي تكون موضوعا لذاتها، هذا الاستجلاء لوعي الذات، أعني استجلاء الذات لوعيها، استجلاءها أو إدراكها لحقيقة موقفها في الوجود، في الزمان وفي المكان، الآن وما بعد الآن، كل ذلك داخل في صميم الوعي الذي يترسب نتيجة للعلاقة أو لنوع العلاقة التي تربط الذات بالآخر، بل إنه عندما يكون الآخر هو التاريخ أو ما يحدث الآن، فإن هذا الآخر قد يكون سببا لمعاناة الذات ولعذاباتها.

 

  في قصائد الديوان نطالع رؤية الذات لذاتها كيف تتشكل، كيف ترى الذات نفسها:

كم مرة

خذل الشطآن شراعي

كم مرة

ضج الرصيف بخطواتي

وأنا المتأمل

ببرد لياليك

ما زالت خطواتي

تدك صمت الارصفة

تحتطب غيم المساءات  

هذه هي أوضاع الذات التي تريد أن ترى نفسها:

في بطاح الظلام

ضربت خيمتي الصغيرة

وغير مواويل غربتي

وآمالي

لم أمتشق سوى حلمي الذي

ما اكتمل

 

      هذا يعني أن الشاعر يتمرد على واقع أسود مظلم، يشمل العصر كله؛ فالتهمة موجهة إلى العصر كلّه، وإلى عتمة العصر كله وسواده، وهذا السواد لا يقتصر على الوجود الخارجي، ولكنه يتغلغل كي يفسد الضمير النقي. إن كل ذلك يأتي من الخارج كي يحاصر الروح في هذه الذات حتى لا تتحرك، والآخر هنا يعد وبالاً على الذات، يتضح هذا في قوله :

حكايتي مع الليل طالت

وضجت بأودية المساء

أشواقي

والسؤال

يقتفي آثار خطواتي

يحمّلني أكثر مما أستطيع

وجدا

وشوقا

وحزنا

وعندما يختبئ

في لجّة السراب

تطويه مسافات الدهشة

وتضيق التلال

حتى بعوسجها

 

    إن الذات تحاور نفسها أحيانا، وهذا الحوار يصطنعه الشاعر كي يجد السلام مع نفسه اذا كان ذلك ممكنا، فالذات يمكن أن ترتد منقسمة على نفسها، لأنها تقول وتعقب على ما تقول، تقول الشيء وترد عليه، حيث يستخدم ضمير المتكلم لأحد الصوتين، وضمير المخاطب للصوت الآخر، والحوار كله داخل نفس الشاعر، وهذا الأمر يرسم خريطة لآفاق من المعاناة يعيشها الشاعر على مستوى تحقق الذات، وتحقق المعرفة الصحيحة، ومستوى صبوات الروح.

ويهل فجر جديد

ونحن سادرون في صمتنا

وأهلنا هناك

يسامون الذبح المعلن

ماذا يمكن أن يقول القلم

بعدما غفا السيف

على الجدار؟

الخيل تاقت للصهيل

تاقت لفارس يمتطيها

يصول في ميدان الوغى ويجول

الخيل تستنهض الهمم

لكن الصهيل

يصرخ في أودية السراب

ولا من مجيب

 

     وأورد الشاعر كلاما موجها من الذات إلى ذاتها مباشرة، بلا تأويل أو احتياج الى إسقاط على الآخر، أو إلقاء جزء من العبء عليه، فالذات تدعو ذاتها إلى تقبّل الواقع.

 

ثانيا : خطاب الذات إلى الآخر

 

   خطاب موجه من الذات إلى الآخر لكنه اتخذ وسيلة لكي تعرض فيها الذات ذاتها، فذات الشاعر أوجعها العشق، وأضنى الرحيل والضياع القلب منها، قبل أن يكون اللقاء.

لم يكن بالبال رحيلك

ففي القلب خطايا كثيرة

وفي محراب الروح

ابتهالات مؤجلة

غير أني

من أجل عينيك

أنزف شعرا

من أجل وشم الكبرياء المرسوم

فوق أهدابك

واستحلفك

يا محزونة العينين

بأن لا ترحلي

قبل أن أنصب

على رموش عينيك

مشنقتي!!

 

  فالآخر وسيلة لطرح الذات لذاتها، لأزمتها ولرؤيتها من خلال خطابها إلى الآخر، ويحدث الشيء نفسه مع الذات المأزومة، فهي تطرح أزمتها ورؤيتها لهذه الأزمة من خلال خطابها إلى الآخر.

الفارس المهيوب

ستظل تطارده الحسرات

حتى لو وشم الحب على صدره

حتى لو انتزع الشوك

 من جبهة التاريخ

وزرع في حاكورة الوطن

كل أشكال الصمود

 

    من جهة أخرى يكون الآخر ملاذا للذات تجد فيه وعنده خلاصها، وأيضا يكون سبب عذاباتها ومعاناتها. الذات تبحث عن صفاء أصلها، والتطهر من موبقاتها، فالملاذ الإلهي الذي ينشده الشاعر لم يعنِ قط أنه تخلى عن مسؤوليته إزاء الوجود وإزاء الآخرين، وقبل هذا إزاء الوطن، فما زال الوطن قائما في قاع هموم الشاعر الروحية، ولم ينفصل الوطن في صورته وواقعه وفي تاريخه في آنيته عن رؤية الذات.

 

خذلتني أحصنة فرسان القبيلة

حين استسلموا لمشاكسة البغايا

وتركوا أبواب مدينتهم نهبا لعواء العابرين

طموحي أصاب مني مقتلا

فهاجت جروحي على بعض جروحي

واشرئب الصديد فيها

حتى عكر النعاس مزاج العبث

حط السراب على حلمي

وتغير شكل الحياة كموسم ترف

وصار الوطن قصيدة شعر

بهمومي تثقلني

 

ثالثا: التماهي مع الآخر

 

    التماهي مع الآخر هو تماه من الوطن، وسعي الشاعر إلى الارتقاء بالذات هو أيضا ارتقاء الوطن من درك الوحشة، وهو الوحشة والخراب الذي تعاني منه الذات والوطن في الوقت نفسه، فالأزمة واحدة، والخلاص لا بد أن يكون واحدا.

ليس لك بعد الآن

إلا أن تجوب

ميادين الليل

وشوارع الانتصار

وتستجدي الغيمات

أن تجود

بحبات المطر

 

   فديوان عمار الجنيدي "تلالي تضيق بعوسجها" طغت عليه نبرة الذات، وأعني بذلك شعوري بأن الديوان برمته خطاب طويل، يقف الشاعر دائما متحدثا وواصفا ومتألما، لكن الوحدة والاغتراب هما القاسم المشترك الأعظم، والأمر يحتاج إلى وقوف طويل على ذلك، فالاغتراب والانكسار والوحدة والنظرة السوداوية والتشاؤمية، لا بد وأن يكون لها ما يبررها.  

 

    فكل عمل فني لكاتب أو شاعر هو بمثابة لحظة، تلتقطها نظرته المنتبهة إلى أحوال الذات والمجتمع والعالم، وبهذا تقف الذات الكاتبة في مهب السؤال، مدركة أن القانون الوحيد الذي لا يتغير هو قانون التغير ذاته، متشبثة بصور تثبتها الذاكرة .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً