الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مقاربة في مجموعة "وآلام أضاعت سحرتها" لـ خالد العبسي - علي الفهد
الساعة 14:38 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

لعل فن القصّة القصيرة جدا من أكثر الأجناس الأدبية إشكالاً؛ لتداخله مع قصيدة النثر تحديدا ، وذلك راجع إلى حجم القصة الذي يتطلب تكثيف الفكرة وضغطها في لغةٍ شعريةٍ تمكن النص القصصي من توصيل الفكرة بجمالية عالية وفي أقل عدد من الكلمات ، يقول شكلوفسكي وهو يواجه صعوبة حد هذا الجنس الأدبي وتعريفه: " لا أستطيع سوى الاعتراف إنني لم أجد حتى الآن تعريفا للقصة القصيرة، بمعنى أني لا أستطيع أن أحدد الصفة التي يجب أن تميز " الموتيف" من جانب أو كيف يجب أن تتألف "الموتيفات " من جانب آخر؛ لكي تتحقق "الحبكة "، فلا يكفي، لكي نشعر أننا نقف أمام قصة قصيرة أن تحتوي على صورةٍ بسيطةٍ، أو موازاةٍ بسيطةٍ بين عنصرين ، أو حتى تقديم وصف بسيط لحدث من الأحداث." 
 

لقد ضاعت الحدود بين كثير من الأجناس الأدبية والشعرية في هذا العصر، وتناهى المبدع في البعد عن تخوم الجنس الأدبي الذي يكتب فيه، وبرزت أشكالٌ أدبيةٌ إشكالية، يصعب تصنيفها في إطار التقسيم التقليدي للأجناس.
ومنذ أن أشرعت الأشكال الأدبية أبوابها لرياح التجديد الحاملة للقاحات قادمة من فنون ومجالات أخرى، سرعان ما أدرك النقد هذه التغيرات، فأنتج مصطلحات ومفاهيم نقدية تلمّست مثل هذه التداخلات والتخارجات، مثل " شعرية القصة القصيرة ، وسردية القصيدة ،وسينمائية الصورة ...،إلخ.

 

ولم تكن مجموعة العبسي ، الفائزة بجائزة "دبي الثقافية للإبداع" ، والتي حملت عنوان ،"وآلام أضاعت سحرتها"، لم تكن بمنأىً عن تلك التلاقحات بين الفنون الأدبية، خاصة، وأن الأستاذ خالد عبد الحليم، يكتب في حقول أدبية متنوعة، فله تجربة في أدب الرحلات، وأخرى في الشعر، فضلا عن كونه،باحث في اللغة العربية قبل هذه وتلك.
 

والمتتبع للمجموعة يجد النفس الشعري متخللاً للقصص القصيرة ،بدءاً من عتباتها ‏‎frown‎‏ رمز تعبيري وآلام أضاعت سحرتها، رغبة المطر،حوارات على حائطٍ فيسبوكي يريد أن ينقض،أيها التاريخ ، يا أيها الزنيم ،...،وغيرها)، بل أن بعضها يتخذ من شطر بيت شعري مشهور عنوانا لقصته " لنا الصدر دون العالمين "
وإذا ما اتجه القارئ نحو المتون يجد أن التنافذ، بين لغة الشعر والسرد، يصل إلى حد التماهي، بل أن لغة مطالع بعض النصوص القصصية وخواتيمها، يشابه مطالع قصائد النثر؛ ففي القصة التي حملت عنوان "حق"يستهلها القاص بقوله :

 

" سأبقى على الرغم من أنف الكون ...., ويختمها بعبارة "هواجس تتنامى أثناء لحظات الرعب "
وفي قصة "ضحية أخرى" نجد أن لغة القصة، تكتنز بغموض وتكثيف شعريين، ولو تم تلقيها خارج إطار التحديد الاجناسي للمجموعة القصصية؛لكانت قصيدة نثر بإمتياز :
"لا نصيب لي في العصافير و تغاريدها 
فهي تفر مني دائما
والغربان التي تملأ الحياة بالتفاصيل الماكرة
تظل بعيدا حذرا مني... "

 

ومع أن كثيراً من القصص بنيت وفق أسلوب (الديالوج)، من خلال الحوار بين ذاتين أو عدد من الذوات،بصيغة ( أحدهم ,الآخر )أو ( الأولى – الثانية) أو ما يحيل إليهما من علامات (-,-)تؤدي وظيفة الإحالة إلى ذاتين أو أكثر، إلا أن لغة الحوار جاءت محملة بطاقات شعرية ومفارقات ترصد غرائبية عالم القاص، ومحيط تجربته،موظفا تقنية المفارقة القائمة على التصادم، " فالقصة القصيرة لا تتطلب الفعل وحسب، بل تتطلب الفعل ورد الفعل، كما تتطلب أن لا يكون هناك تتطابق بينهما " ونجد هذا البناء التصادمي في قصة اتخذت شطرا لبيت الشاعر العربي أبي فراس الحمداني عنوانا لها " لنا الصدر دون العالمين " 
- هو : أتعطش لشرب جميع بحار العالم لابول على رؤوسهم من المحيط إلى الخليج
- إحداهن : ستكون أنت أحد المبتلين 
- هو لتكن عملية انتحارية لتخليص الإنسانية من أوبئة الصحراء المزمنة 
- أخرى أهكذا تتحدث عن أهلك و قومك ؟
- هو: لعنة الله علينا أجمعين أكتعين أبصعين
- ثالثة : اتق الله لابن آدم نصف ما نطق
سكت قليلا، ثم تبسم بملل وقال :
نصف لعنةٍ لا تكفي 
شاب تنتزعة الحداثة وتستبد به نشوة التمرد إذا كان بين الجميلات "
فالتصادم بين الرؤى تصل ذروتها في موقف الشاب مع نهاية القصة ، بينما نجد المواقف المستسلمة والمتمثلة بمواقف الأنوثة، التي عبرت عنها لغة النص القصصي، بعبارات فقيه ،نحو،: اتق الله .أو المقولة التي تشبه المأثور الديني " لابن أدم نصف ما نطق"

 

لكن فك اللغز يأتي في الختام ليسخر من الجميع حتى من الشاب، وذلك بكشف موقف الشاب المدفوع بنشوة الذكورة في حضرة الأنوثة الفاتنة، إنه احتجاج صارخ على سلوكيات مضمرة،لعل الفقد والهوة القائمة بين الفتى العربي،والمرأة، أبرز الإشارات الثاوية في النص .
ويتحدث( شكلوفسكي) عن أبرز الهيئات التي تأتي عليه القصة، فيذكر منها النموذج الذي يكون تطويراً لقول شعبي يأتي في النهاية ليست القصة نفسها سوى تطوير له ،ولعل قصة " خوف أشد وخوف" لخالد حليم من هذه النماذج :
"- الأولى : يقال أن نبيا من الأنبياء أخبر قومه 
أن الهق يوم القيامة 
يقتص للشاة التي لا قرون لها من الشاة ذات القرون 
- الثانية :وهل يقتص للشاة من الذئب والأسد ؟
حديث بين شاتين خائفتين إحداهما قرناء والأخرى غير قرناء".

 

فالقصة السابقة ليست سوى تطوير المأثور الديني وحرفه عن مضامينه الدلالية، التي جاء مرسخا لها ، وذلك عبر آلية النقض،بالحجاج الذي يسخر من العدل وصوره ، في حين أن قيم الظلم أكثر بروزا، وتكرارا ، وكما لو كانت هي الأصل لا الفرع .
ومن الثيمات المهمة التي ترتكز على التناقض في القصة القصيرة وبنيتها،" تيمة الاستحالة الزائفة فنجد التناقض ينشأ من نوايا شخصيات، تحاول الفرار من النبؤة من ناحية، وتتجنب حدوثها الفعلي من ناحية أخرى، أو من خلال أن تطرح القصة لغزاً أو موقفاً يبدو وكأنه لا مخرج منه، لكن يأتي المخرج في النهاية في شكل حل ساخر، مثل قصة (ماكبيث)، الذي أخبرته العرافة أنه لن يقتله ابن أم، ما لم تتقدم الغابة إليه، لكن الحل كان أن قتله طفل انتزع من رحم أمه انتزاعا جاء مع جنود يحتمون بسيقان الشجر .

 

وهذا الأسلوب الإلغازي هو الأسلوب المهيمن في مجموعة القصص القصيرة لخالد حليم،فالقصص تحقق انزياحات تكسر أفق التوقعات، وتعيد بناء القصة القصيرة من خواتيمها ، ويتشكل هذا الأسلوب ضمن جدلية الخفاء والظهور، حيث يتم توجيه الخطاب من شخص أو شخوص لا يتم الإفصاح عن سماتها وهوياتها، ويمضي السرد على هذا الغموض حتى الأجزاء الأخيرة من القصة، و التي تأتي كاشفة لما تم إضماره والتغطية عليه، ففي قصة "رغبة المطر" يتوجه الخطاب من شخص مجهول، وبطريقة شاعرية بصيغة مناجاة للريح :
"أيتها الريح تمهلي أرجوك 
لا تمازحي المحيط بحماس زائد"
وهنا انطلقت ضحكات مكتومة وقهقهات جهيرة وابتسامات بلهاء لم تكن سوى تقليد لما يدور حولها"
فنسق الإغماض والخفاء يضمر صفات الشخصيات التي صدرت عنها أفعال القهقات الجهيرة، والنشاطات البلهاء، كما يخفي وسوم الشخصية التي ناجت الريح وخلفت أفعال الهزء من الآخرين، وهذا الإرجاء من قبل القاص يمثل الجزء الأول من البناء، و يكتمل بالكشف الغير متوقع والمفاجئ في الختام، لكن بعد أن يستثمر القاص هذا الغموض معمقا قلق المتلقي الذي يزيد طردياً كلما تقدم بالقراءة.

 

وفي قصة " ظل ميت " يسير القاص على نفس الأسلوب السابق حيث يجري الحوار بين ذاتين أو كيانين يخيل للمتلقي أنه حوار بين امرأتين:
" الأولى : تبدو عليك الوحشة والحزن منذ مدة 
الثانية : لو كان الأمر بيدي لذهبت أبحث عمن يحقق وحدتي 
ولكنك تعلمين أن الانتظار قدرنا " 
فما يبدو للوهلة الأولى في الحوار أنه يدور بين امرأتين، لكن النص يكشف خيبة التوقع في خاتمة القصة، حيث يُحال الحوار إلى مالا يخطر على بال، "حفرتان متجاورتان" وهذا يعمل على قلب التصور السابق وحل اللغز الذي يحقق لذة النص القصصي.
لقد كان الأستاذ خالد حليم موفقا بمنجزه القصصي الأول،على صعيد الفكرة والأسلوب، ومن يقرأها يجد أنها فاتحة لموهبة تكتب من واقعها وتحربتها ومعاناتها،لا من مكابدات الآخرين وعوالمهم .وهذا هو ما يميز الذات المبدعة التي يمكنها أن تضيف وتختلف، في واقع صار الكتاب نسخا متشابهة كما لو خرجوا من فقاسة واحدة ورأوا محيطا واحدا وتخيلوا عالما وحيد.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً