الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
محمد السقاف وجمال التصوير في مجموعته "عندما تحكي المرايا" - عبدالله أحمد حسين
الساعة 15:13 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

محمد عبدالرحمن السقاف قاص واعد, دخل إلى الساحة القصصية عن طريق مجموعته القصصية "عندما تحكي المرايا" الفائزة بجائزة رئيس الجمهورية في دورتها الخامسة عشر عام 2013م, وهي مجموعة متميزة بما طرحته من موضوعات متنوعة؛ فقد أبدى الكاتب وعياً واهتماماً بالقضايا والمشاكل الحياتية التي نواجهها في حياتنا اليومية وتعرَّض لها, فصوَّر معاناة الموظف الحكومي, وخيبة أمل المبدع واصطدامه بالواقع المعاش, كما تعرُّضت قصص المجموعة لتعنت الإداريين في تعاملهم مع الموظفين, وناقش مسألة الحريات الزائفة, التناقضات الحادة بين الأقوال والأفعال عند الكثيرين, ... إلخ.
 

 

وبهذا كانت كل قصة عبارة عن مرآة نقدية تعكس صورة أو صوراً مجتمعية وتعرضها بأسلوبها الخاص, وتنتقدها انتقاداً واعياً, يختلط بالألم والسخرية, ومن هنا جاء عنوان المجموعة "عندما تحكي المرايا", الذي يشير إلى محتوى المجموعة, بما يحمله من شحنات دلالية وإيحائية تحفز مخيلة القارئ وتثير توقعاته.   
 

ويستطيع القارئ الوقوف على عدد من السمات الفنية المميزة للمجموعة والتي أهَّلتها لتبوء هذه المكانة دون سواها, ولعل أول ما يلفت نظر القارئ للمجموعة هو أسلوب القص ولغته وطرافة التشبيهات والتصوير الساخر في قصص المجموعة, حيث تتوالى أحداث القصص بأسلوب سردي سلس, ولغة سهلة واضحة, مطرزة ببعض التشبيهات الطريفة. 
وتكاد السخرية أن تكون سمة بارزة في المجموعة, وتتجلى هذه السخرية في كثير من القصص, ففي قصة "ديك على بياض" التي تعرضت لاختلال مقاييس الحياة اليومية وتداخلها, وتناقضاتها الكثيرة, تتجلى سخرية السارد من خلال تعرضه لموقف من المواقف اليومية حيث نقرأ: "صحف الصباح الرسمية تصل من وسط العاصمة إلى قريتك البعيدة رغم المسافة الشاسعة, ورغم البرد والخوف والخطر, وقبل أن يصل حتى الصباح نفسه .. وعلى النقيض فإن الكهرباء لم تعد تصل في معظم الأوقات ..."( ) 

 

 

وتكتمل حدة السخرية في التقاطه الساخر, أو بالأحرى تعليقه الذكي على ذلك بقوله: "يقولون أن قطَّاع الطرق يقفون في وجهها بالمرصاد بينما تسلك طريقها إلى القرية .."( ) 
وتبلغ السخرية ذروتها في رصده لرد فعل الناس على هذه الظاهرة في نهاية المقطع السردي, حيث نقرأ: "يتهامس البعض حين يغادرون المقهى – (ترى لماذا لا يوجد في الطريق أحد يقف في وجه الجرائد؟!)"( )

 

وللكاتب أسلوب خاص في تصوير الأحداث والتقاطها؛ حيث أن لديه اهتمام واضح بالتصوير الدقيق والتقصي في الوصف, وخاصة حينما يتعلق الوصف بالجانب الداخلي للشخصية, وهذا ما يجده القارئ في هذه المجموعة منذ مطلع القصة الأولى فيها, والتي جاءت بعنوان: "ما أثقل الحلم !"( )
تبدأ القصة بمشهد تصويري, وكأنه يُعرض من خلال عدسة مصور سينمائي, حيث نقرأ: "بدأ لتوه مغادراً من حلم, أفاق على خطى الشمس الزاحفة على أطراف أصابعها بلا حياء, منتهزة سهو نافذته الشاردة في مراقبة العابرين تحتها, ضبطها متلبسة بجريمة أطلق عليها "إجهاض حلم", ولم يعد يهمه من أهل الجنان زائرته هبطت, أم من جهنم صعدت؟
وبَّخها ... بخطبة بليغة من التثاؤب لاح للعيان خلالها قطيع أسنان صفراء, تنظر للخارج بحنقٍ وتمرد وتتراص بفوضوية وعصيان, على شاكلة أي شيء قبيح."( )

 

لقد استطاع السارد أن يجذبنا بهذا التصوير للدخول إلى عالمه المليء بالصور والمشاهد المتنوعة, ولا نكاد نخرج من مشهد حتى يزج بنا في مشهد أروع وأطرف لا نملك حياله سوى إبداء الإعجاب بروعة المشهد وجمال تصويره بغض النظر عن موضوعه الذي يدور حوله: "بدأ يذوب في زحام الطريق بين الأرجل التي تشبه – بعدسته- أقدام الديناصورات؛ بينما هو يدهس بقدمية بقسوة على ظلال الأخرين, بلذة وسعادة عجيبتين ..."( )
 

إن المتأمل في هذا المشهد الطريف يشعر بمدى استصغار الشخصية لذاتها, عندما تبدو لنا – وبعدستها-  صغيرة جدا بالنسبة للآخرين ولا تملك سوى دهس ظلالهم كرد فعل منها على ذلك.
يطرح القاص في هذه القصة "ما أثقل الحلم !" قضية معاناة الموظف ويصورها تصويراً فنياً بارعاً؛ فقد عرضها من جميع جوانبها, كاشفاً لأبعادها بطريقة ساخرة تستحق التأمل. 

 

ولو قمنا بإعادة ترتيب الأحداث في القصة ترتيباً تصاعدياً لاتضحت لنا رحلة الشقاء التي تصورها القصة؛ فبطل القصة كان تلميذاً نابغة ذا عبقرية فذة, حيث كان يحصد المراتب الأولى كل عام بامتياز, حتى تنبأ مدرسوه بأنه سيكتشف يوما ما نظرية يغير بها آفاق العلم الحديث, وستقفز به إلى مصاف عظماء المجد والتاريخ( )؛ فــ" كان يناجي نفسه سراً بأن لله في خلقه شئوناً, وأنه قد آثره على كثير من الناس ...", وأن "المستقبل يفتح ذراعيه على اتساعهما ليعانق أمثاله من العباقرة, وبأنه يدخر له موضعاً يليق به تحت هذه السماء التي لا ترسو على لون ولا تدخر للزمان صاحباً أو حبيباً".( )
هذه الطموحات والأحلام الوردية لا تلبث أن تتكسر على صخرة الواقع, فما يلبث صاحبنا أن يدرك قسوة الواقع الذي "أصابه بصاعقة أليمة في صميم طموحه"( ), يتضح ذلك عندما نراه وهو "يكابد الأمرين بين الدوائر الحكومية يتدحرج من قاع إلى قاع, ومن هاوية إلى أخرى أعمق وأظلم, حتى أعوام الخدمة المديدة التي سلبته ملذات شتّى لم تزد راتبه إلا ما يعادل علبة سجائر وأعواد سجائر تنقص ولا تزيد..."( ) 

 

 

وتتجلى قمة المأساة في مشهد أو بالأصح مشاهد استلام وتسليم الراتب, التي أبدع الكاتب في تصويرها, حيث أولاها الكثير من الاهتمام, وهو بذلك يؤكد على ما رآه سارد القصة الذي يقول: "وهنا تبدأ مأساة صاحبي, بل وإني على يقين أن خلاصة حياته كلها ليست إلا قصة هذا الفشل الذريع..!"( )
 

ولنقف معاً أمام هذا المقطع الكاريكاتوري الذي يصور وصول الموظف إلى مقر عمله في يوم استلام المرتب الشهري: 
"وصل موزعاً التحية يمنةً ويسرةً في كرم حاتمي وفي حركة تجذب الأنظار بشكل لافت, وبالتكرار فقد أضحى زملاؤه معتادين على هذه النوعية الساخنة من التحايا؛ تحديدً عندما تحل هذه المناسبة بالذات, وربما قد يتبادلونه.

 

وقبل أن يلج مكتبه لم ينسَ أن يتجه ليسلَّم تحيةً خاصة جداً جداً بيد أمين الصندوق, باعثاً ابتسامةً رومانسيةً على الحامل والمحمول."( )
وتتوالى المشاهد الساخرة المصورة لهذا الحدث المميز في بداية كل شهر, ولعل من أطرفها ذلك المشهد الذي يصور حالة الترقب التي كان يعيشها بطل القصة في انتظار انتهاء وقت الدوام ليظفر بمرتبه النافذ سلفاً:

 

"ولكثرة مراقبته لعقارب ساعته توهَّم بعض المارة بجواره منذ الصباح أن الرجل معجب بها إلى حدِّ تعدى الجنون, حتى أنه لم يخالط أحد اللصوص العابرين شك بأن الساعة وصاحبها جديران باحتلال قطعة صغيرة من فراغه في قادم الأيام".( )   
 

ولا يقل مشهد استلامه للمرتب عن سابقه طرافة, تجعلنا نعيش الحدث بكل تفاصيله, فـ"بعد انتظار رصين وتجاهل مميت لنعيق الناعقين أمسك القلم ليوقع على وثيقة الاستلام, متناولاً المرتب بعينين يتنزه عليهما الرضا والانشراح التام, وبدا لعين المتأمل كمن يمد ذراعه ليطبق على مفاتيح الدنيا بأكملها.
 

 

عدَّ المال جيداً وتفحصه كذا مرة, ثم طفق خارجاً من البوابة مثلج الصدر يدفعه جنون يشبه – إلى حدٍّ كبير – الجنون الذي يزامل طلاب المدارس لحظة انقشاع اليوم الدراسي...."( ) 
نحن أمام مشهد فريد يتسم بالحياة والحركة والتدفق, فالقارئ يشعر بسعادة الموظف وفرحته, وقد ساعد التشبيه الطريف لجنون تلك اللحظة بجنون طلاب المدارس عند انقشاع اليوم الدراسي, فجاء المشهد بصورة حسية متلاحمة تشهد على براعة الكاتب في هذا المجال, وقد أسهمت الجمل الفعلية المتوالية في تصوير المشهد, والدفع به قدماً.

 

 

وفي المشهد الأخير من مشاهد القصة الذي يصور فيه الراوي موقف الموظف عند اكتشافه ضياع مرتبه, أو بالأحرى سرقته منه – رغم الحذر الذي أبداه – نجد صوراً طريفة لا تقل عن سابقاتها, فـ"حين اقتربت الحافلة كثيراً من المطعم صاح بغطرسة تليق بمقام ما يحمل معه في محفظته, آمراً سائقها من خلال عدسة المرآة بالوقوف, ثم في حركة تدل على الثقة والأبهَّة مد أصابعه ليبرز الهدهد من جيبه, ليتفاجئ بعد تفقد طويل أنه قد طار بعيداً بعيداً كالنسر وربما أبعد قليلاً .. وطار هو أبعد منهما, ولم يره بعدها أحد."( )
بهذه الصورة الصادمة والمفارقة يختتم القاص قصته, وقد وشت الألفاظ المكونة لهذه الصورة بدلالات الصدمة العنيفة التي تلقاها الموظف إثر طيران أو ضياع مرتبه, وقد توافر للصورة كل مقومات الجمال الفني من صدق ودقة, برز ذلك واضحا من خلال سياق الأحداث.
من خلال ما سبق نستطيع القول أن القاص قد استطاع أن يحقق قدراً كبير من الفنية هذه القصة وقد تحقق له ذلك من خلال اعتماده على حدث يومي واقعي مكَّنه من التقاط جزئيات الحياة اليومية, ومناقشة العديد من قضايا ومشاكل المجتمع وعلى رأسها قضية مرتبات الموظفين ومعاناتهم, وقسوة الحياة اليومية والواقع المعاش, هذا من الناحية الموضوعية.

 

 

أما من الناحية الفنية؛ فقد تحقق للقصة ولبقية قصص المجموعة الكثير من مقومات القصة القصيرة, ولعل أبرزها في هذه القصة توفر أغلب مقومات القصة القصيرة فيها, وعلى رأسها عنصر التكثيف, فبالرغم من اتساع الإطار الزمني للقصة إلا أن القصة قد اعتمدت على تكثيف الأحداث بحيث يتناسب مع حجم القصة, ومع ذلك فقد كان السارد يميل للتفصيل في بعض المواضع التي تسهم في تصوير الحدث الرئيس في القصة, مما منح القصة نفسا روائياً واضحاً, وذا ما لا ننصح الكاتب بالانجرار ورائه كثيراً عند كتابته للقصة القصيرة.
 

وخلاصة القول أن هذه المجموعة تبشر بالمزيد, وتنبئ عن قادم أفضل, يضاف إلى رصيد الفن السردي في اليمن, ويضفي عليه مزيداً من الألق.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً