الجمعة 29 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 28 نوفمبر 2024
شيء من الحب..كثير من ضده - عبدالله الإرياني
الساعة 11:02 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


  بنت الجيران، للبعض الحب الأول، وأنا واحد منهم. والحب الأول لا يموت،  المنقوش على مصحف الذكريات. وإذا خانك حبيبك الأول، الحياة أقوى من الموت،  تلتمس له الأعذار، تخلقها من العدم، المحب أضعف من أن يمحو ما هو منقوش على  صفحة الذكريات. أحببت جارتي صفية، المراهق المنتظر عند النافذة لوجه  حبيبته، ترمقه من خلف زجاج النافذة المقابلة، من لم يعش تلك اللحظات من  الانتظار، لم يعرف طعم القبلات من خلف الزجاج، طعم الأمل للقاء الحبيب.  ونظرات الحب الصامتة، يخفق لها قلبين يكادان من لوعة الشوق أن يقفزا، لا  شيء يبقى في الذاكرة مثل تلك اللحظات. والذكريات إذا لم تمت، تتراجع، تصغر،  إلا ألحب الأول، يكبر مع مرور السنين. السعيد من لم يتزوج من حبيبه الأول.  وأنا لم أتزوج صفية، الجرح النازف إذا اعتراني شيء من نكد الدنيا، ينزف  شيئا من تلك اللحظات الجميلة، الأمل المطبوع على لوح الزجاج.
 

 طالت  النظرات الطويلة، وعيني على عينها، كيمياء الحب أمرهما، لأيام طويلة، لم  تمل، إلا أن لساني أراد أن ينطق، يهمس بأذنها: أحبك. أحببتها وأحبتني قبل  الهاتف. الهاتف حرم الحبيبين، في المجتمع المحافظ حيث الاختلاط ممنوع بين  الجنسين، من أحلى وأتعب ما في الحب، والأحلى والأتعب أخلد في الذاكرة.  والنظرات لا تطول إلى الأبد، أبحث عن وسيلة ما تأخذني للهمس، وسماع صوتها.  وصفية لا تبحث، ردها طبعها، الأنثى المراهقة، لكنها الواعية، الخائفة من أن  تسقط من عين حبيبها. ما كان أجملها من وراء الزجاج، وشغلي الشاغل وأنا  بعيد عنها، أراها حتى على قلم الطباشير وأستاذ اللغة العربية يكتب على  السبورة:
 ( أرأيت سوسة والأصيل يلفها       في حلة نسجت من الأضواء.)
  لن تكون سوسة، ولا مليون سوسة أجمل من صفية. سوسة مدينة بلا روح، وصفية  روح، روحي وروح الروح. والنظرات الطويلة في حكم دقائق الزمن قصيرة، أقصر من  دقات قلبي للدقيقة الواحدة..والبعد عنها ساعاته طويلة، أطول من دقات القلب  للعمر كله. المشتاق لسماع صوتها وجد الوسيلة، أبادلها الحوار عبر الرسائل  الورقية، من لم يمارس رسائل الحب، لم يستنشق عبيرها المسكوب على حبر  الكلمات، لن تلقى مثل صفائه على الأرض الفانية..كتبت:
 ( أحبك..وأريد أن أسمع صوتك.)
 ( وأنا أحبك، فكيف أسمع صوتك؟)
 ( في مكان ما في المدينة.)
 ( أنا وأنت!..أين هو المكان الآمن؟)
 ( في بيتكم.)
 ( لا..وألف لا.)
 ( في بيتنا.)
 ( وبعد صوتي شفتي.)
 رددت بعفوية المراهق المحب:
 ( ولمَ لا؟..القبلة الأولى الأثر الخالد على شفتينا.)
 خلعت عن نفسها ثوب المراهقة..ردت:
 ( لن تكون لك إلا بعد الزواج، ومنذ اللحظة لن تشاهدني من على النافذة..أحبك، حبي أكبر من أن يسقط بعد القبلة الأولى.)
 هل كنت أناني؟ رددت:
 ( مصممة.)
 ( مصممة..وأضيف، لن أرد على رسائلك.)

 

 ركبها العناد. والأناني، هل كنت محقا؟ صفية اللحظات الصافية في حياتي.
  غادرت المدينة لإكمال دراستي بالخارج، بعد شهر من رسالتها الأخيرة. وعدت  بعد عامين لقضاء إجازتي الصيفية. هل كان العناد؟ كنت أشاهد في اليوم التالي  موكب زفافها، تزوجت من ظافر الرجل الغني. ولو كنت أنانيا، إلا أني لم أبح  بسرها، وسر رسائلها.
 وبعد أربعين عاما، كنت أمشي على رصيف الشارع،  بدون وعي، كاد أن يدركني اليأس من حوار الفنادق..وبدون بصيرة، الأشواك لا  تجد من يردعها، أوشكت أن تلتهم الرصيف. الماشي هكذا لا يسمع، كانت تناديني  باسمي، والمتبلد، المرأة المنقبة تمسكني من يدي..بادرت بالقول:
 - أنا صفية.
  عقود من الدهشة، راودني فيها الشك، إلا أن عينها قطعت الشك باليقين.  استعدت عين صفية بعد أربعين عاما، ما زالت تلمع جمالا..وذكاء. وشموخ صفية،  جذبتني من يدي، وهي تقول:
 - سنجد مكانا آمانا..أصبحت سيدة نفسي بعد موت زوجي.
 وفي المكان الآمن سمعت حكايتها:
  ( وفر لي زوجي كل سبل الراحة، إلا أنه كان يخونني في بيتي، وفي الخارج إذا  أخذني لقضاء إجازة هناك. والراحة لا قيمة لها، إذا هانت الخيانة لغيري،  فلن تهون على صفية ولو كنت أعيش في مملكة سليمان..صبرت وتحملت حتى لا يتشفى  حبيبي الأول. وقبل أن يموت، كان قد كتب باسمي نصف ثروته، والنصف الآخر  لأولاده الخمسة. وفي حياته مكن ثلاثة من أولاده، لا أدري هل أعماه حبه، أم  طبع الخائن؟, من مقاليد البيت، يعبثوا بنظامه، وينهبون من خزائنه. والخائن  متجاهل، تجاهل الاثنين الآخرين.)..أخذت نفسا عميقا، ثم استطردت:
 ( وبعد  موته يريد الاثنين أن يستعيدا ما سلب منهما، والثلاثة كل واحد منهما يريد  أن تكون السيادة له. جمعتهم على طاولة واحدة، لعلي أوفق بينهم على ما ينفع  البيت وينفعني، لكني فشلت، هم لا يحبون بيتهم ولا أمهم. وزوجي أحبني بعد  موته، أو أنه أراد أن يكفر عن ذنبه. أنا في محنة كبيرة وأخشى على بيتي من  الخراب، 
 وعلى أولادي من القتال فيما بينهم.) رمقتني بنظرة حادة، أدركت مغزاها، ثم قالت:
 - واللي شبكني في هذه المحنة يخلصني.
 رددت مطرقا:
 - لست أنا.
 - بل أنت..أنت من أرغمتني على الزواج من ذلك الرجل..وقفت، قالت ( منفعلة ):
 - وأنت لم تحبني يا أناني.
  يا أناني، آخر ما نبست، غادرت بعدها المكان الآمن. كنت السبب، ربما، إلا  أن العناد أعماها عن اختيار الرجل المناسب. وأعمتها محنتها، لن تعي أبدا أن  الأناني أحبها، ويحبها إلى الأبد. لست أنا يا صفية. الأنانيون هم: من أحبك  بعد فوات الأوان، ومن لن يحبك أبدا يا صفية.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص