الجمعة 29 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 28 نوفمبر 2024
عشرة ريالات - علي جعبور
الساعة 17:57 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


كان ذلك اليوم هو الخميس؛ موعد انعقاد السوق.
أدارت جدتي المفتاح في القفل الصدئ وفتحت خِزانتها الحديدية المثبتة فوق الرف، ففاح منها نشرُ البخور والند والجاوي والزعفران والمسك؛ روائح ذكية عطرة تملأ الروح بهجة وسكينة.
أخرجت حزمة نقود، ذات لون سماوي، وشرعت تعُدها بروية وتتفحصها ورقة ورقه، وفي كل مرة تبلل إبهامها بطرف لسانها كي تلتصق بالنقود بشكل أفضل. 

 

كانت كلها من فئة العشرة ريالات، مصفوفة بإحكام، جديدة وتحدث خشخشة لذيذة أثناء عدها: تشيت تشيت تشيت.. كهذا الصوت تمامًا.
وبعد أن انتهت من عدها، طمرتها في جراب صدريتها ومضت نحو الباب بخطى ثابتة تهُمُ بالخروج، وكان ثمة صبيٌ يجلس بالعتبة مخددًا ويتطلع إليها كمتسول.
كنتُ أنا هو ذلك الصبي الشقي.
إبتسمت العجوز الطيبة ابتسامة رائعة وانتزعت ورقة من حزمة النقود ودستها في جيب عصفورها الصغير ليطير فرحا..
قلتُ: سأسبقك إلى السوق يا جدتي.
وقالت: روح، يحفظك الله بجاه النبي والأولياء.

 

سرحت في تأمل العشرة ريالات بينما أغذّ السير مسرعا نحو سوق الخميس. كنت مأخوذا بالزخارف البديعة التي تؤطرها، بالقباب البيضاء الكثيرة تتقدمها صومعة طويلة تزين الوجه الأول ويبدو بالوجه الآخر سد مأرب ممتدا ببحيرته الزرقاء الواسعة تنمو على ضفتها شجرة البن العتيقه، وكل مرة أتعثر بحفرة أو حجر ناتئ في الطريق، أطويها وأعيدها إلى جيبي.
كنت قد اقتربت من أحراش الأراك والتي كلما مررت بجوارها، إلا وأرعبني توقع أن يبزغ من وسطها وحش كاسر ويبتلعني دفعة واحدة وبدون مضغ. ثم حانت مني إلتفاتة لأرى جدتي تنحدر، متربعة فوق حمارتها الشهباء، تجاه الطريق فشعرت بالأمان وحدثت نفسي، أو هي التي حدثتني إن شئتم الحقيقة، قالت لي تلك النفس الأمارة باللعب: ماذا ستشتري بهذه الفلوس يا رجل؟ سندوتشات وبالونات أو منبال؟ هاه؟
السندوتش لذيذ جدا خاصة مع البيض المسلوق والفلفل الأحمر، أما البالونات فما تلبث الشمس أن تفرقعها..

 

إذن المنبال أفضل.. المنبال لا يفرقعه شيء وفوق ذلك سأصطاد به الحمام وأفقأ عيون الكلاب التي لا تنبح فقط بل تعُضّ.
وفجأة.. نعم فجأة باغتني صوت مخيف: هوهو هوهو هوهو.. إنه كلبٌ كما ترون.. 
ولكن ليس أي كلب، إنه هائل الحجم حتى ليخيل إليك من ضخامتة أنه ثور. 
إلتقطت حصاة وقذفتها في اتجاهه فوثب إليّ كالطلقة وأنيابه مشهرة كالسكاكين، ولكن جدتي كانت على مقربة مني فحالت بيني وبينه، رفعتني عن الأرض، نفضت التراب عن ثوبي وبصقت حيث وقعتُ مغمغمة بالقول: تف يا شيطان. ثم أردفتني خلفها وانطلقنا. ولو أنني، لحظتها، ألقيت نظرة خاطفة للخلف لأبصرتُ ورقة سماوية اللون يقلبها الريح ظهرًا لبطن، تحاول اللحاق بي دون جدوى.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص