الجمعة 29 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 28 نوفمبر 2024
ظل مشوة - وجدان الشاذلي
الساعة 16:08 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

فتحت عينيّ هذا الصّباح على عنكبوت بسقف الحجرة، تعمل بهمّة ونشاط على نصب شراكها لحشرة صغيرة تعيسة الحظّ. لوهلة . خيّل لي أنّها تنظر صوبي، ومن ثمّ تشرع تخاطبني :أيّ امرأة أنتِ..! أوَلم تدركي طيلة عشرين عاماً أنّ الحياة ظلّت تنصب لك شراكها. وأنت كحشرة كبيرة تقفزين من شرك إلى آخر.. أيّ متعة تلك الّتي تجدينها في القيام بدور الضّحية؟
- أنا لست على ما يرام .. تمتمت بيني وبين نفسي.
وكأيّ زوجة ريفيّة تبدأ يومها عند الغبش بمكنسة تجوب بها أروقة ودهاليز المنزل، التقطت ُمكنستي وذهبت اُربت بها على كتف التّراب في محاولة لإيقاظه، ودفعته برفق إلى الخارج، ليمارس هوايته المعتادة في الالتصاق بأحذية وملابس وأجساد المارة ، لكنّه يعود دائماً ليتمدّد بكسل في  هذه الأروقة و الدّهاليز ..

 

كلّما تأمّلت حركة وسكون هذا التّراب الّذي يحتلّ منزلي وينكّد معيشتي،أستدرك كيف أنّه من الصّعب إلقاء القبض على مشاعر البشر والتّحكّم في ومضاتها وسكناتها،أو حتّى مجرد إصدار الأحكام بشأنها .. أو لسنا من تراب !؟
بالسّرعة المعتادة تمرّ المكنسة ذهاباً وإياباً في أرجاء المنزل. تعود بعدها لتستلقي خلف الباب كحارس كسول في مكانها المعتاد..وأذهب أنا صوب الفناء الخلفيّ للدّار فألقي تحيّتي الصّباحية المعتادة على الدّجاج والأغنام، وفي طريقي أربت على جذع شجرة الليمون .. لماذا أفعل ذلك؟
هل أحاول إيقاظها أو كسرها؟(ألواح الخشب لا تكسر، وحدها الأرواح قابلة للكسر..) 
يبدو كلّ شي من حولي في حركة دؤوبة ما عداي . اخترت الرّتابة أم هي من اختارتـني؟بالواقع لا أعلم. فكل ّشيء بداخلي ثابت،ثبات أهرامات الفراعنة. والزمن وحده يزحف على جسدي من الخارج،عابثاً بأنوثتي الرّابضة خلف حطام السّنين،صانعاً نتوءات شحميّة في عدّة مواضع حسّاسة؛وأخرى ليست ذات أهميّة قياساً بنظرة الرّجل.

 

كلّ شيء أقوم به هنا، أفعله على وجه الاعتياد، وبطريقة آلية ، مثلما يحدث كلّ شيء في هذه القرية على وجه الاعتياد وبرتابة مملّة .
الأحداث الخارقة للعادة التي تنتشر في سماء قريتنا بقدر السرعة نفسها التي تنتشر بها رائحة (اللّحمة ) الّتي تشوى أوّل جمعة من كلّ شهر في بيت الشّيخ .
حدثان إضافيّان لجمعة الشّيخ .. ميلاد أحدهم أو وفاة آخر .
بعض العادات حين يصادف تكرارها لامرأة مثلي،يمكن عدّها نوعا ًمن أنواع التّرف. ولكنّها لا تحدث إلّا في خيالي.
كلّما أمالت الشّمس رأسها خلف ذاك التّل أرسلت بصري في مداه إلى سفح الواديّ حيث تلوح من هناك خيالات رجال آيبين متوشّحين معاولهم. وذاك خياله. خيال الرّجل الّذي لا أفتأ أسأل نفسي كم عام مضى وأنا برفقته أحاول جاهدة أن أعلّم ذاكرتي التقاط بعض ملامحه، وأدرّب مسامات جلدي على إلقاء القبض على بعض أنفاسه الشّاردة حين يجود بها،وأحنّط ملابسي كلما حظيت بشيء من عطره أو عرقه ..

 

كم عاما مضى وأنا أرتّب صباحاتي وأعيد صياغة أبجديّاتها بما تمليه عليّ اللّحظة؟وأدير ظهري لمساءاتي كلّما ألّحت علي ّبسؤال الحاجة .
كم عاما مضى منذ أن أطفأت قناديل مسائي،وعلّقت رغباتي على مشجب الأمل حتّى بليت ؟فبتّ أعرض عنها كلّما صادف أن أشيح بصري صوبها .
لمَ أحاولُ جاهدةً حصر تلك الأعوام؟ هو عمر وكفى. عمر منذ أن اقتناني ذاك الرّجل كأي تزينة في منزله . الفرق الوحيد أنّي كنت كائنا حيّا يتحرّك ولا ينكف يذكّره بعجزه الحقيقيّ، الّذي لا يستطيع أيّ رجل احتماله. ذاك الكائن الّذي أتى به ذات مساء تحت كومة ملابس ومساحيق بات اليوم أسوأ كوابيسه، وأيّ كابوس أسوأ من اقتران عجز رجل بأنوثة امرأة تفتّحت للتّو..
- ظلّت أمّي توسوس لي قائلة:
"ظلّ رجل ولا ظلّ حائط" . فوجدت نفسي ذاك المساء أومئ برأسي لأبي بالقبول، رأيته حينها مثل قشة في بحيرة مبهمة الحدود،فمنّيت نفسي بالنّجاة قبل الأفول . هاربة كنت من شبحين ظلّا يطاردانني ردحاً من العمر؛ شبح العنوسة الذي رأيته يلقي القبض على أختي، وشبح آخر كان ينقضّ علينا جميعاً بين الفينة والأخرى، هو شبح العوز والفاقة .
كانت أمنيتي أن أغادر دارنا إلى أيّ مكان لا يهمّ أين، فأيّ مكان على وجه البسيطة لن يكون أكثر سوءا من تلك الهوة السّحيقة.
لم أكن أدرك أنّني كنت تماما مثلما أخبرتني تلك العنكبوت هذا الصّباح؛ أقفز من شرك إلى آخر،بوعي أو بدونه، أي ّلذّة تلك الّتي أجدها في القيام بدور الضّحية ، مازلت أتساءل..
حين كفّ عن محاولاته وخرج من هذا الباب تاركاً إياه مفتوحاً لشيطان الشّكّ، الّذي دلف يغرس خنجره في خاصرة منزلي . ويستدعى ذويه وأبناء عمومته فظلّوا يعزفون ألحانهم ويمارسون الرّقص فوق ذاك الرّأس الأقرع في غفلة منّي .
كنت معرّجة مابين السّقف والعنكبوت، المكنسة والتّراب، جذع شجرة الليمون ولحمة الشّيخ،صوت أمّي والحرائق الّتي يشعلها أبي كلّما نفذ عتاده من لفافات التّبغ، الحائط والظّلّ،عجز زوجي ونظرات الشّكّ والارتياب، مشجب الأمل الّذي ينوء بثقل رغباتي وشبح مستجد تلوح بعض ملامحه في الأفق .
معرجة ما بيني وبيني حيث لا سماء، ولا بحر، ولا بر، ولا أفق في مداي . وفي رحلة البحث عن بعضي فقدت نصفي الآخر ، وعدت من رحلتي خاوية؛ جسدا بلا روح بات من  السّهل أن تطوله أنامل العابثين 

 

الشّكّ وحده قسم ظهر صبري الّذي لم يتمخض سوى عن صقيع يجوب أعماقي،ولم يفرّخ غير أحزان جرّها ذيل ثوبي ذات مساء وأنا عائدة إلى مسقط رأس وجعي وخيباتي .
- لماذا..؟سألت أمّي.
- فأجابت دموعي بفصاحتها المعتادة . وبقيت أنا ألوك عاميّتي بتمتمة يتردّد صداها في أعماقي حتّى اللّحظة 
عدت لأنّي لم أجد الحائط والظّلّ الموعود . كلّ ما وجدته هناك :ظلّاً مشوّهاً.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص