الأحد 24 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
المنفية - وجـدي الأهـدل
الساعة 17:06 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

 

فقمة هرمة أنا.. ضاعت أيامي الطويلة في التنقل المضجر ما بين شواطئ جزيرة غرينلاند ومياه البحر.

انقضت زهرة العمر وأنا لا أفعل شيئاً سوى أن أفتح فمي وأبتلع ماءً مالحاً مثلجاً.

عيناي سئمتا من مناظر الشعاب المرجانية في الأسفل، وأنفي صار مزكوماً من عفونة الرمال اللبنية في الأعلى. كم يثير اشمئزازي العيش ضمن قطيع أبله، لا يعرف معنى السعادة، ولا يبحث عنها.

اسمي (سبابة) وسني سبعون عاماً، وأنتمي إلى نوع (الفقمة ذات الحلقات) ويبلغ طولي متراً ونصف، ووزني قرابة الثمانين كيلوغراماً. في الماضي السعيد، كنت أنا الفقمة الأجمل على كوكب الأرض. وأتمنى أن لا يتهمني أحد بالغرور أو الادعاء، فأنا لا أتبجح، بل أتكلم عن حقيقة معروفة. إن النقوش الفريدة التي تشبه سجادة كلدانية على فرائي، لا نظير لروعتها إطلاقاً عند أي أنثى من جنسي، والدليل على صدق أقوالي، أن سيد القطيع (إبهام) قد اختارني زوجة أبدية له. كل الإناث مقارنة بي هن قبيحات، وعددهن بالمناسبة ليس هيناً، فتعداد قطيعنا يربو على الخمسين ألف فقمة. الحلقات التي على فرائهن بشعة متنافرة، والنقوش عشوائية تفتقر إلى التناغم واللمسة الساحرة، لذلك أراهن جميعهن مشوهات، ومحرومات من مسحة الجمال الطبيعية. أنا وحدي، من تدخلت يد العناية الإلهية، لتحول ظهري إلى لوحة فنية خارقة الجمال، وكأنما أنامل رسام الملك الفرعوني هي التي قامت بتزييني!
أتذكرون لوحاته في مدينة (طيبة)؟ إن ظهري أعجوبة فنية كلوحاته أو أجمل، لأن جمالي هو الذروة العليا لفن الرسم عموماً. أنا فقمة مثقفة، الأكثر ثقافة على الإطلاق، باستثناء زوجي (إبهام) طبعاً، وعندي أحلامي العريضة التي أتمنى تحقيقها في هذه الحياة، قبل أن يُغيبني الموت. في الظاهر أبدو فقمة عادية كملايين الفقمات الأخريات، ولكنني لست كذلك .. لأنني أحمل في داخلي طموحات عظيمة، لا تخطر ببال أية فقمة غيري. لقد أمضيت معظم فترات حياتي في الأسفل، في المياه الباردة، وأعرف أن البشر يعيشون في الأعلى (اليابسة) وبعضهم يسكن عالياً جداً فوق قمم الجبال. هذه المعلومات التي حصلت عليها بصعوبة من زوجي (إبهام) نمّت في نفسي رغبة ملحة تفوق التصور للحياة في مكان آخر، غذت حلماً جميلاً بالعيش في بحيرة جبلية مياهها عذبة، ودرجة حرارتها معتدلة، يتجمد سطحها شتاءً، ويدفأ قاعها صيفاً. لقد أردت بشدة تغيير موطني، كرهت الحياة هنا في الأسفل، حيث كل شيء هو فوق رأسي. أتمنى لو أصحو من النوم وأجد نفسي أعيش في بحيرة عالية، قريبة من السماء، فأسمع ضجيج العالم يمر من تحتي، وأنا في منأى عنه. لا أطمع أن تتحول زعانفي إلى أجنحة، لأحلق في الفضاء كالطيور، ولكنني أبذر في باطني أملاً شريفاً في الاقتراب من سقف العالم. وبسبب طموحي هذا غير المسبوق، فكرت في الرحيل، وأن أزيد وزني ثلاثة أضعاف، ثم أسافر جنوباً، إلى أن أعثر على بحيرة جبلية أستقر بها. كنت أخطط للرحلة سراً، وبما أني وزوجي (إبهام) لا نكاد نفترق عن بعضنا حتى ساعة واحدة، فقد فكرت أن أفضل وسيلة لإشغاله وصرف اهتمامه عني، هي أن أزوّجه بخادمتي (وسطى) ليتلهى بها، ولكيلا يحزن قلبه جداً عندما أفارقه. فاتحته في الأمر، وتحججت بأنني فقمة عقيم محرومة من الذرية، وأن زواجه من خادمتي، سيعطيه نسلاً يحفظ له ذكراه بعد وفاته. العجوز الماكر، كان يعارض مقترحي بشفتيه، وخطمه يبرق من السرور! وبعد أن ألححت عليه، غرز فكه في الرمل، وخضع مبدياً موافقته وهو يتنهد، وكأنما سأزوجه بالإكراه!
وحين أطل موسم التزاوج في شهر مارس، اجتمعنا على الشاطئ بأعداد هائلة، وقام الذكور الأشداء الذين هم في عنفوان الشباب بالتقاتل والمبارزة، لفتح شهية الإناث للتلقيح. وأما أنا فقد سحبت خادمتي (وسطى) الفتية البكر من ساحة الذكور المتحاربين، وأتيت بها إلى زوجي (إبهام) ليضاجعها. الملعونة كانت تبكي حين جرجرتها رغم أنفها المفلطح، لأنها كانت ترغب في ذكر فقمة قوي، يهوي عليها حتى تغيب عن الوعي. صحيح أن زوجي (إبهام) قد تقدمت به الأيام، وشارف عمره على السادسة والثمانين، إلا أنه ما زال يحتفظ ببضع شرارات تحت بطنه المترهل .. إذ تبين بعد زمن قصير أن الخادمة (وسطى) قد حملت.

عرفت ذلك من تغير لون خطمها المخروطي الشكل واسوداده إلى درجة مقرفة.

أخبرت زوجي (إبهام) بالأمر، فأشرق وجهه بالسعادة، وأسرع إلى الخادمة (وسطى) يتودد إليها ويتشمم زعانفها العفنة. تمرغ هذا الشيخ الذي لا يستحي بين الرمل أمام ناظري (وسطى) كصغار الفقم، وهو يضحك ويعوي كالمسطول، ثم راح يتمسح بفرائها، ويتذلل إليها إلى درجة تثير الشفقة. وحدث الذي كنت أخشاه .. فطلب مني (إبهام) العناية بالخادمة والاهتمام بصحتها، وأمرني أن أجلب لها غذاءها من الطحالب والأعشاب البحرية، خمس مرات في اليوم! لم أندم في حياتي على شيء كما ندمت على فعلتي هذه، فالخادمة الوضيعة التي كانت تنظف مؤخرتي من بقايا البراز، أصبحت تشمخ بأنفها عليّ، وتعيرني بأنني عاقر كأرض سبخة. أُمرت أن أقوم بكنس موضعها على الشاطئ وتسويته، وأن أدفئه بجسدي حتى تعود من نزهة الغوص التي تقوم بها مع زوجي المتصابي الطاعن في السن. بكيت حتى تورم وجهي، وأوجعني قلبي من الحزن.

كنت أتألم صامتة، وأعاني من الإحباط والمهانة، وأتجرع المرارة كأمواج المحيطات، ومشاعر القهر تسرع بي إلى شيخوخة رذيلة، فصرت أتحرك ككتلة شحم ثقيلة لا روح فيها. كل شيء صار في عيني قاتماً موحشاً، وما أحشو به فمي لا طعم له، لدرجة أنني تمنيت الموت. شكوت إلى زوجي (إبهام) تكبر الخادمة وغرورها، وتعمدها إذلالي وإهانتي، والتصغير من مقامي .. فإذا به يُصعر خده ويلوذ بالصمت! لم يتركا لي خياراً آخر: نزلت إلى مياه المحيط، وغصت إلى عمق مائة وخمسين متراً، ودعوت (سيد البحار) أن يقابلني، فاستجاب لي، وأرسل أحد حجابه.
تظلمت إلى الحاجب من زوجي (إبهام) الذي فضلته على نفسي، ورميت بخادمتي إلى حضنه، فأهملني وتجهم في وجهي.

سألني الحاجب إن كنت أريد إبلاغ (سيد البحار) بأمر آخر؟ تفكرت قليلاً، وقررت إغفال ذكر الخادمة بالمرة، وبدلاً من ذلك، صارحت الحاجب بأمنيتي في الحياة، وهي أن يساعدني (سيد البحار) في الانتقال إلى بحيرة جبلية عذبة، أعيش فيها بقية أيامي. استغرب الحاجب من طلبي الثاني، ولم يعلق بحرف، ثم هبط إلى الأسفل في لمح البصر.

عدت أدراجي إلى الشاطئ بعد غوص مرهق، واستلقيت على الرمال منتشية، وأنا أشعر بأن آمالي العظيمة في سبيلها إلى التحقق، وأن صعودي إلى (بحيرة الميعاد) لم يعد مستحيلا.

***    

تلقيتُ من (سيد البحار) رسالة أثارت قلقي، وبعثت في نفسي أشد الاضطراب.

لقد أمرني أن أذهب للقائه في خليج مهجور، يبعد مسافة شهر عن موطني. شككت بأن زوجتي الغيورة (سبابة) لها علاقة باستدعائي، فأخذت ألاطفها وأستدرجها في الكلام، ولكنها لم تفه بجملة مفيدة، وكأنها وضعت على بوقها قفلا. لابد لي من الاعتراف بأن زوجتي (سبابة) تملك عقلاً راجحاً، وهي أذكى فقمة في القطيع كله، ولذلك لا أستبعد أن تكون قد دبرت لي مكيدة في الخفاء. لم يعد بوسعي سوى الرحيل. أكلت ضعف الكمية التي اعتدت تناولها من الأعشاب البحرية، لأختزن في جسدي شحماً إضافياً، وأوصيت (سبابة) أن تراعي (وسطى) في غيابي وتعتني بها، ثم قفزت إلى الماء محركاً زعانفي القدمية بأقصى سرعة.

وخلال شهر من السفر المستمر، تعرضت لمخاطر الافتراس من أسماك القرش، ولمصاعب هائلة من زمهرير العواصف الثلجية، وفقدت نصف وزني، لأنني لم أجد وقتاً لأفتش عن غذاء يناسبني. وفي المكان المحدد، غصت إلى عمق مائتين وخمسين متراً، حيث تنتشر كهوف مظلمة يلفها صمت أبدي.
من أعماق مجهولة ظهر (سيد البحار) مكللاً بالنور، تقدم نحوي دون أن تصدر أية ذبذبات عن المياه التي يخترقها، فارتعشت من الخوف، وتساءلت في نفسي كيف أمكنه أن يفعل هذا؟ حدق فيّ برهة طويلة، وكأنه يزن كل صغيرة وكبيرة تتعلق بي، ثم قال وصدى صوته يُسمع في كل بحار الدنيا: "حكمنا على الفقمة وسطى بالنفي".

اقشعر بدني من هول كلماته وقوة سلطانها، وأحسست بعرق بارد يسيل من زعانفي، بالرغم من أن درجة حرارة المياه منخفضة جداً. طفت ببصري الزائغ في ظلمات المحيط التي لا آخر لها، وقلت بصوت كسير ضعيف: "لكن.. أليس حكمك قاسياً؟".

رد سيد البحار بحزم: "لا تراجعني في أحكامي .. خذها إلى القطب الشمالي واتركها في وادي الدببة البيضاء". شعرت بالألم يعتصر قلبي، وانفرطت دموعي ساخنة، وقلت متوسلاً: "الرحمة يا ملك الأعماق الباردة .. الدببة البيضاء ستفترس زوجتي الحامل". بان عِرق الغضب في جبين سيد البحار، فأرسل موجة عملاقة، حملتني إلى الشاطئ، وألقتني من شاهق على ظهري.

رحت في غيبوبة، لم أفق منها إلا في ساعة متأخرة من اليوم التالي. نهضت وأنا أحس بأوجاع لا تطاق، تنبعث من سائر أجزاء جسدي الذي تعرض لرضوض عنيفة. كنت أتنفس بجهد، وأصدر صفيراً مزعجاً، مدركاً أن رئتي قد تأذتا من أثر السقطة. تقويت بقليل من المحار، أكلته وأنا أعاني من الغثيان. وبرغم ألآمي الفظيعة، تحاملت على نفسي وبدأت رحلة العودة.

طيلة الطريق وأنا أفكر في المصيبة التي وقعت على رأسي، وكيف أخبر زوجتي (وسطى) بالأمر؟ وهل ستوافق على الذهاب إلى القطب الشمالي، ووادي الدببة البيضاء تحديداً؟ أرى أنه من المستحيل أن توافق إلا إذا كانت مغفلة! من هي الفقمة التي تستطيع أن تعيش وحيدة بعيداً عن القطيع؟ وأية فقمة يمكنها أن تبقى حية في قفار القطب الشمالي الجليدية؟ أعرف تمام المعرفة بأنني إذا أخذتها إلى هناك، فإنها ستموت هي وجنينها، لا محالة. لقد حصلتُ على (وسطى) هدية من سيد قطيع فقمات آيسلندا، وأنا بدوري أهديتها لزوجتي، لتقوم بخدمتها. لقد عاشت مع قطيعنا في غربة عن وطنها وقومها، وها أنا اليوم أنتوي أن أرمي بها إلى غربة ثانية أشد وأقسى من الأولى .. ماذا جنت هذه المسكينة لنحكم عليها بغربتين مريرتين؟ أي قدر موجع يلاحقها ولا يكف عن اختبار صبرها؟ يبدو أن هناك قانوناً خفياً يسري على التعساء، يلزم كل من يجرب مشاعر الفرح منهم أن يدفع ثمناً باهظاً، أن يتألم أضعاف ما حصل عليه من شيء غير موجود أصلاً.

أثناء استراحاتي القصيرة على قطع الجليد العائمة، كنت أفكر في حبيبتي الصغيرة (وسطى) وأخفف من ألآمي بتذكر لحظاتنا السعيدة، واستعادة لقاءاتنا الحميمة. كنت أسرّي عن نفسي بإغماض عيني، وتخيل جسد (وسطى) الانسيابي الأملس، وفرائها الناعم اللطيف، وأتلذذ في ذهني بتقبيل بدنها المرن الفتي، حتى أكاد أشهق من النشوة.

رحلة العودة التي كان من المفترض أن تستغرق شهراً، أخذت مني قرابة الشهرين، وعندما وصلتُ إلى شواطئنا، كانت زوجتي (وسطى) في استقبالي، واحتضنتني بشوق ولهف، ودمعت عيناها من السرور. بينما مكثت (سبابة) مستلقية على ظهرها، تستمتع بحمامها من أشعة الشمس، وتجاهلتني تماما. حين نظرت إلى بطن (وسطى) أدركت أنها في شهرها الأخير، وأن موعد ولادتها قد بات قريبا. تمالكت نفسي ولم أبكِ، وهربت بنظراتي بعيداً عن بطنها المنتفخة، وتمنيت لو أني متُّ في سفري، لكان أهون مما أنا مُقدم على فعله بها. أين الحكمة في معاقبة أم، تحمل في رحمها جنيناً، بإقصائها إلى نهاية الأرض؟ أي اختبار مجحف هذا للطاعة؟! ماذا اقترفت (وسطى) من جرم لتنال هذا القرار الرهيب: النفي.
كل ما يأخذونه عليها أنها تزوجتني، وحملت في رحمها نطفتي. أتراهم يؤاخذونها على اقترانها بسيد القطيع؟ أقسم أنني على استعداد للتنازل عن ألقاب السيادة كلها، في مقابل أن تكتب لها حياة معنا، ولا ترسل إلى المنفى. آه .. إن نفسي ممزقة بين الحب والواجب .. وعقلي متصدع مشوش، تدوّم فيه الأفكار السوداء الكئيبة. في النهاية، عقدت العزم على أن أنفذ الأمر، وأتركها هناك لمصيرها المجهول.

طلبت منها أن تستعد للرحيل إلى مكان لم أحدده لها، فهزت رأسها موافقة، دون أن تستفسر بأية كلمة، حول وجهتنا المقصودة. راحت تأكل بشراهة عجيبة، لتضاعف كمية الشحم التي تغلف جسمها، لأنها قد حدستْ على ما يبدو، بأنني سأسافر بها إلى موضع بارد برودة مخيفة.

سرت شائعة في القطيع تذكر أن الغريبة التي في وسطهم ستهاجر .. وقامت الإناث بتأليف أغنية ساخرة، كن يضايقن بها (وسطى) وأصبحن ينادينها بلقب (المهاجرة).

كنت أعلم بأن زوجتي (سبابة) هي التي أشاعت هذه الأخبار، فجعلتني أشعر بالأسف لأنني ائتمنتها على أسراري.

وما هي إلا أيام قليلة حتى غادرنا أرضنا .. كنا نقطع المسافات بالغوص في الماء، ثم نطفو على منصات الجليد للراحة واستنشاق الهواء. وبعد حصولنا على مقدار من أشعة الشمس المنعشة، كنا نعاود الغوص بأقصى سرعة. كانت (وسطى) تبدو واثقة جداً من نفسها، بل ولاحظتُ أنها مبتهجة .. لأنه لم يدر بخلدها البتة، أنني أضمر لها شراً، أو يمكن أن أتركها لوحدها في قلب الصقيع تُصارع الموت. إنها تُحبني إلى حد العمى التام عن أي خطر يأتيها من ناحيتي، فهي تفترض فيّ الطيبة وحسن النية، وأنني لا يمكن أن أفكر مجرد تفكير في أذيتها. لقد رمت كل الكلام الخبيث الذي سمعته من إناث القطيع دُبر أذنها، ولم تشكّ لحظة واحدة في استقامتي ونبل أخلاقي. لقد زادني يقينها الساذج هذا، حزناً على أحزاني، وأنزل بي ألماً مبرحاً يضرب صدري كبروق السماء. يوماً بعد يوم، كانت (وسطى) تزداد ثقلاً، وتتعب أكثر فأكثر من الزحف على بطنها. ورغم كل المتاعب التي كانت تحس بها، فإنها لم تشكُ من شيء، ولم تشعرني بأنها تتعذب من الألم، ولا حتى أصدرت آهة واحدة.. كانت فقط، تكز على أسنانها وتتبعني. كنت أتمنى في قرارة نفسي لو أنها ترفض مواصلة السفر، وتستدير عائدة إلى موطن قطيعنا. ليس من قيد يلزمها بالسير ورائي سوى الوفاء .. آه .. ليت الأوفياء لم يوجدوا .. إنهم الأكثر إثارة للشفقة في دنيانا هذه .. إن وفاءهم يدفعهم إلى الهلاك بعيون مغمضة. الآن بت أفهم لماذا كان الأوفياء نادرين .. لأن معظمهم في عداد الأموات!

بعد عناء شديد، اجتزنا صحراء التندرا، ودخلنا القطب الشمالي، وما هي إلا أيام حتى وصلنا إلى فج وادي الدببة البيضاء. توقفنا هناك للراحة والنوم .. كانت (وسطى) قد ثقلت حركتها جداً، وبدأت تحس بآلام المخاض. كنت قلقاً للغاية من أن تتزايد عليها الأوجاع ويجافيها الرقاد، فلا أتمكن من التسلل خلسة عائداً إلى مسقط رأسي. ظللت أراقبها من تحت جفني المسدلين، وأنا أتصنع السبات العميق، إلى أن كفت عن الأنين وإطلاق الزفرات، فأغفت بالكاد، رغم التشنجات التي كانت تصعق جسدها.
بهدوء تام، زحفت على بطني، مستعيناً بزعانفي القدمية وزعانفي الجانبية، ووليت الأدبار. ولما كنت خجلاً من هروبي وتنكري للفقمة التي وثقت فيّ، فقد تلاشى شعوري بالإرهاق، وقطعت مسافة العودة في وقت قياسي.

لقد وصلت بالسلامة إلى الديار، ولم يسألني أحد عن (وسطى) وكأنما القطيع كله، كان متواطئاً معي في الجريمة. لقد استفز القطيع أن يرى فرداً عادياً ينال مكانة عالية، فسعى بكل قواه لبتره من الجماعة وتدمير وجوده. من كان يصدق أن (وسطى) ستذهب ضحية خلاف عائلي تافه، لا يستحق أن تُراق من أجله قطرة دم؟! كان شعور الخيانة يثقل على ضميري، ويعذبني في الصحو والمنام، وأحس أني نذل.. نذالة لا حدود لها. مرت سنوات، ولم نسمع أي خبر عن (وسطى) .. لا شك عندي أنها قد ماتت. منذ تلك الحادثة، لم أعرف طعماً للسعادة، ولا كفت عيني عن الدمع، وصرت أرتعش لا إرادياً، وأفزع من أقل صوت. لقد أذنبت في حق زوجتي (وسطى) وجنينها الذي هو من صلبي، وسلّمتها وأنا في كامل وعيي لفكوك الدببة البيضاء المفترسة. إن مشاعر المرارة التي ترسبت في روحي لن يمحوها الزمان مهما طال، ولن أصفح عن نفسي إلى الأبد. آه منك أيتها الحياة، كم أنت ثمينة، وكم أنت هشة، وكم من المآسي في انتظارنا جراء سهولة فقدانك.

***

فتحت عيني وأنا أصرخ، لقد بدأ الدم يسيل مني. توقعت أن يهب سيدي (إبهام) لتفقدي والاطمئنان عليّ. كنت أتأوه متلهفة إلى الإحساس بأنفاسه الحارة تدفئ وجهي، وإلى مداعبات فمه على وجنتي. صرخت بكل قوتي، قلت في نفسي لعله غارق في نوم ثقيل، بسبب إرهاق السفر .. أحسست برحمي ينفتح، وأن الجنين يدفع للخروج. تلفّتُ حولي باحثة عن سيدي فلم أره .. ارتعبت في البداية، ولكنني فكرت بأنه ربما ذهب ليجلب لنا طعاماً نقتات به، أو لعله يحاول العثور على طبقة رقيقة من الجليد ليفتح لي حفرة إلى الماء، لألوذ بها إذا ما حام حولنا خطر الحيوانات المفترسة.

كانت الشمس ساطعة، وفي الأفق تلوح جبال مكسوة بالجليد. لا حياة في هذا المكان، إنه مقفر تماما. كم هو الفارق شاسع بين وضعي الآن، حيث أكاد أعجز عن الحركة، وبين حالتي قبل عشرة أشهر .. ليلة عرسي أذهلت القطيع برقصي البديع على قدمي الخلفيتين، وبحركاتي البهلوانية الصعبة. كنت من فرط الحبور أحس بنفسي خفيفة كريشة طائر تسبح في الهواء! لقد تشقلبت، وهززت خصري، وجعلت رأسي يدور كالمروحة. رقصي الوحشي المثير، أيقظ شهوة جميع ذكور القطيع، وجعلهم يحسدون سيدي على امتلاكه لجسدي الفائر. حين خلونا أخيراً داخل حدود أرضه، جعلته يدوخ من اللذة .. هو أسرّ لي بذلك! وشكرني من أعماق قلبه على البهجة الفائقة التي وفرتها له في آخر أيامه. عفواً، هو الذي يردد دائماً أنه في آخر أيامه، وكل إناث قطيعنا الشابات يعتقدن ذلك أيضاً، ولكنني أنا التي جربته، أعرف أية طاقة مهولة يمتلكها!

بعد شهر واحد ظهرت عليّ أمارات الحمل. وحين علم سيدي (إبهام) بالنبأ، هَمَت عيناه بالدمع، وراح يقبلني في كل أجزاء جسدي. تجمعت حولنا الفقمات، وراحت تهنئه، وكلها تمنى لسيد القطيع نسلاً طيبا. في الموقف، سحب سيدي (إبهام) نفساً طويلاً، وضغط بعضلاته القوية على ثقوب أنفه وأغلقها، ثم غاص في الماء إلى أعماق لا يقدر أحد غيره على الوصول إليها، وبعد ساعة، صعد إلى سطح الماء وفي فمه هدية لا تقدر بثمن: ناب سمك القرش! يقال وهذا منقول عن أجداد أجدادنا، أن الفقمة التي تبتلع ناب سمك القرش لا يمسها سوء من الضواري المفترسة في البر والبحر. بالطبع ابتلعت ناب سمك القرش في الحال.

وفي يوم من الأيام، غادر سيدي (إبهام) فجأة إلى مكان مجهول .. سرت شائعات بين القطيع أنه ذهب لملاقاة (سيد البحار) الناقم عليه لأنه تزوجني .. لم أصدق، لأنه لا يمكن ل(سيد البحار) أن يتأفف من خادمة، أو يفكر في زواجها من سيد القطيع من زاوية طبقية مثلنا .. إنه (سيد البحار) العظيم، فليس التفاوت الطبقي مما يعنيه، أو يدخل في حسابه.

وبعد ثلاثة أشهر تقريبا، رجع سيدي (إبهام) من سفرته متكدراً لا يكلم أحداً، ومتعباً جداً وكأن عمره زاد في فترة قصيرة مائة عام. حاولت أن أكلمه، فكان يشيح بوجهه عني، ويهرب بنظراته، ولا ينظر في عينيّ. أحسست بأنه قد حصل تبدل عميق في مشاعره نحوي. مرة أخرى تناقلت الأفواه الثرثارة أخباراً ملفقة، بأنه ينتوي تهجيري إلى أرض قطيع آخر.

أثناء غيابه، تعرضت لمعاملة قاسية من ضرتي (سبابة). وبعد عودته، تمادت (سبابة) أكثر في أذيتي، وهو من جانبه لم يفعل شيئاً لمنعها من ذلك. هذه العجوز المخرفة تغار مني، وتود لو تأكلني بأسنانها. تظن نفسها ملكة جمال القطيع وهي مجرد نفاية. ورغم أنها مريضة ومرشحة للموت في أية لحظة، لكنها ما زالت شبقة، ومتعطشة للجنس بصورة مقززة. لم تعد تفرز هرمونات أنثوية، ومبيضها جف وتلف، ولكنها تغالط نفسها، وتصر أن بمقدورها إنجاب ذرية.

زعمت أن بطريقاً عرافاً، قرأ مستقبلها، وتنبأ لها أنها ستلد الذكر الذي سيرث رئاسة القطيع .. ومن يومها وهي تُكنّي نفسها بكنية (أم بنصر) وتقول إن هذا الاسم هو المحبب إلى قلب سيد البحار!

ولكن بما أن نبوءة البطريق لم تتحقق، وأنا التي سأنال شرف إنجاب ولي العهد، فإن هذا يفرض تغييراً في المراتب، فأصير أنا السيدة الأولى في القطيع، وعلى (سبابة) أن تقوم على خدمتي وتخضع لي .. أليس هذا هو الحق؟! أليس من المنطقي أن ترعاني أنا ووليدي، وبالأخص لأنها عقيم وليس لديها ما يشغلها .. ألا ليتها ماتت هذه البهيمة المنتنة. لا أدري ما الذي حاكته لي في الظلام .. لكن قلبي منقبض جداً من ناحيتها، وأحس أنها تسعى لهلاكي، ويبدو أن هذه السفرة من تدبيرها .. لقد وضعت خطة خسيسة للخلاص مني .. ولا أعرف ما إذا كان سيدي (إبهام) مشاركاً في مؤامرتها ضدي .. هل يعقل أن يتآمر بعلي الحبيب عليّ؟ لقد اختلط كل شيء في رأسي. لكن لا .. من الممكن أن أشك في نفسي ولا أشك في سيدي.

تجمعت الغيوم وتلبدت، وغاب وجه الشمس، فشعرت بخوف شديد. تأخر سيدي .. لم يعد .. رياح باردة جداً هجمت عليّ حتى كدت أتجمد. داهمتني خواطر سوداء، وتخيلت أن دباً جائعاً قد افترس سيدي .. جرت الدموع في عيني، ورجف قلبي من هذه الخيالات المفزعة. قررت أن أغادر مكاني وأبحث عنه. زحفت إلى تل قريب، تسلقته بما تبقى فيّ من قوة، وأرسلت بصري في الجهات الأربع، وليتني لم أفعل، فقد خاب أملي خيبة شديدة .. سيدي ليس له أثر .. اختفى تماما. مكثت زمناً أعلى التل أراقب الأراضي الجليدية الجرداء، لعلي ألمح سيدي، ولكنني لمحت دباً أبيض ضخم الجثة، فلذت بالفرار، وأسرعت بالعودة إلى مكاني الأول.

عاودتني الزفرات أقوى هذه المرة، وندمت لأنني بددت الوقت، ولم أحفر في الجليد حفرة تصلني بماء المحيط، لأقفز إليها في حالة الطوارئ. فكرت أن أبدأ بالحفر عقب الولادة مباشرة. المشكلة أنه إذا هاجمني دب، فقد أستطيع أنا النجاة منه بالقفز إلى الماء، ولكن صغيري لا يمكنه ذلك .. يحتاج إلى أسبوع على الأقل، حتى يتعلم الغوص في الماء ومن ثم إنقاذ حياته. كيف يمكنني المحافظة على الصغير مدة أسبوع، والدببة المهووسة باللحم تجوس هذه البقعة النائية ليل نهار؟ هل سأعيش أحد عشر شهراً لأتمكن من إرضاعه؟ كيف سيعيش إذا افترسني وحش من الوحوش؟ إنه يحتاجني ثلاث سنوات أرضعه وأرعاه حتى ينضج وتكتمل قوته. ربما ينجو من الموت إذا حفرت له كوة في الجليد تخفيه عن الأنظار. سمعت قهقعة دب .. تلفت إلى جهة الصوت فلم أبصر أحدا. سمعت قهقعة دب من جهة أخرى، فنظرت فإذا بي أرى سحاباً أبيض يجري قريباً من الأرض كقطيع من الدببة البيضاء .. انخلع قلبي، وفقدت السيطرة على مخاوفي. سمعت قهقاع الدببة يأتي من كل الجهات، فأخذت أدور حول نفسي كالممسوسة، وأنا أرتجف من الرعب.

تمزق درب الحياة .. وتناثر دمي على الثلج الأبيض حاراً يتصاعد منه البخار، وشعرت برأس الصغير (بنصر) يرتطم بالجليد، ويطلق صرخاته الأولى. كنت عاجزة عن دفع وليدي خارج رحمي، فقواي خائرة، والخوف الشديد يصيب أعضائي بالخذلان، فلا أقدر أن أتحكم فيها. كنت بين الحياة والموت، وانتابتني هلاوس كثيرة لا يربطها رابط، وشعرت أن العالم يدور من حولي. صرت أدرك أن المنطقة مسكونة بالدببة البيضاء، وأنني إذا صرخت، فسوف أنبهها إلى مكاني.. ولكنني رغم هذا الخطر الجسيم، قررت أن أصرخ وأنادي على سيدي لعله يسمع استغاثتي فيأتي: إبهام .. إبهام .. إبهام".

كررت مناداته حتى بح صوتي .. ولكنه لم يظهر .. أبداً لم يظهر. لقد ذهب بعيداً، بعيداً جداً، وتركني وحدي. شعرت بوحشة شديدة لا يطيق تحملها أي كائن حي، وأطبق على روحي كمد هائل، ثقيل كثقل الجبال، سحقني سحقا. غرزت رأسي عميقاً في الثلج، فشعرت ببرودة مميتة تتسرب إلى كياني المشطور، ورأيت بعين خيالي سيدي (إبهام) يقترب مني مبتسماً .. فهمت من نظرته أنه يريد وضع فمه في فمي ليقبلني. فتحت فمي على اتساعه، فازدرت ثلجاً، وأجهشت بالبكاء.

 

منقولة من مجلة الكلمة ....

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص