الأحد 10 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الاثنين 4 نوفمبر 2024
نص قصصي
بستان الكتب وجحيمها - عبد الواحد بنعضرا
الساعة 18:13 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


جنازتُهُ مكتظة بالمشيعين. كتبه في مقدمتهم. انسل منها مؤلفوها. يذكرونه بخير. كان رفيقا بهم. وطالما استجاب لطلباتهم. لم يكن من اليسير على  كتب الأقدمين تقبّل بعض كتب المحدثين بين ظهرانيها. يعلو الصراخ والضجيج ويملأ مكتبته. تتحرك الرفوف في حركة غضب عارمة. يكاد الكتاب الوافد أن يسقط. كان صاحبنا يخنع لرغبات الكتب، ويمد يده ليغير مكان الكتاب الوافد. لطالما أصاخ السمع للكتب تتحاور فيما بينها وأحيانا كان يعلو صراخها ويلعلع محدثا توترا في الأعصاب. هذا يرد على ذاك... والآخر غير متفق لا مع الأول ولا مع الثاني. أحيانا كان يلتذ بسماع هذه المناقشات، بل إنه كان يشارك الكتب في تبادل وجهات النظر.
عالم الأموات هادئ جدا، والقبور باردة جدا. تنامى لبصره منظر الكتب ومؤلفوها، لكنه استغرق وقتا طويلا حتى يفهم. الأموات يختلفون عنا ببطء وصول الإشارات إلى الدماغ وبطء إرسال ردود فعل الأعضاء. الأموات يحسون بشعور متناقض. قلوبهم دافئة وأجسادهم باردة. لا يستطيعون تحريك أعضائهم ولا التفكير. ولكنهم يحسون بمن حولهم... استيقظ فزعا. تسارع وجيب قلبه. أحس باختناق. بالعطش. حلقه جاف. "يا له من حلم مرعب"، قال. واستلقى على ظهره. رمق كتبه. اطمأن قليلا. أخذ نفسا عميقا. علقت بفمه ابتسامة. فجأة نطّ من على السرير. أخذ يقبّل بعض كتبه. شيء ما نبّهه. التفت وراءه. أفلاطون يحمل سبحة ويجلس فوق سجادة الصلاة. أرسطو يصع نظارة طبية، جالسا على كرسي خشبي. " لا أفهم..."، قال هذه العبارة وأخذ يصعّد نظراته في أرسطو وينزلها على أفلاطون. كان أفلاطون قد فرغ من الدعاء ومن الصلاة. وأخذ يسبّح بحمد الآلهة. تسارع من جديد وجيب قلب صاحبنا. بدأ يتصبّب عرقا. وسأل: "أين أنا؟" أجاب على الفور أفلاطون: "جنة الكتب". قال صاحبنا: " أعرف... ولكن؟؟!". ابتسم أفلاطون، ورائحة الصندل والند والعود تتصاعد من مكان غير مرئي: "فاضت روحك، وها أنت معنا". حدق برهة في المكان... تغيّرت معالمه عما كان قبل قليل.. انسل آخرون من كتبهم... ماركس يزدرد الحلوى... ويشرب الشاي... يدخل خنصره وبنصره في فمه ليزيل بقايا الحلوى... كأن ذلك لم يَفِ بالغرض، أزال طاقم الأسنان الاصطناعي ووضعه في كوب ماء بجواره. كأن صاحبنا انتبه من شروده... قارن بين صغر سن ماركس وبين ما رأى قبل قليل!! ألقى بنظرة على هيغل فوجده يغطّ في نوم عميق قد كساه الشيب، وطالت لحيته إلى ركبته. ثيابه ناصعة البياض، لا تكاد تميزها عن لحيته. يتكئ على لا شيء، وراء ظهره فراغ، تحته فراغ... لكنه يضبط جلسته ويغط في نومه... وإذا صاحبنا مستغرق في هيغل وفراغه... صرخ هيغل: " الدولة". ولم يضف شيئا وعاد يغط في نومه. سأل صاحبنا: "من منكم الواقعي؟ ومن منكم المثالي؟". حدجه أفلاطون بنظرة قاسية، أما أرسطو فابتسم.. تثاءب ماركس ثم قال: " أنت هو الواقعي الأوحد بيننا". أحس برغبة في الكتابة. تحامل صاحبنا على نفسه ونقلها بصعوبة إلى المكتب، الموجود بحُداء السرير والمقابل لرفوف الكتب عن يمين أرسطو ويسار ماركس. أحس بثقل خطواته. وفي هذه اللحظة بالذات انتبه للكيلوغرامات الزائدة وأنه أصبح بدينا جدا... تساءل: "ماذا وقع؟ لماذا، وكيف أصبحتُ هكذا؟"... ردّ ماركس: "إنها الراحة، راحة الجنة". وضحك ضحكا مدويا أفزع هيغل، فصرخ: "الدولة". وعاد لنومه. عدّل ماركس من وضعيته قليلا. كان هيغل قد نام على بطنه... فجعله يتكئ على ظهره!! التفت صاحبنا فلم يجد مكتبته. التفت إلى الجهة الأخرى. رفوف الكتب. تساءل أين اختفى : "أفلاطون، أرسطو، هيغل وماركس؟" جفّ حلقه. مدّ يده لكوب الماء. شرب. لحظة. تذكّر طاقم الأسنان الماركسية. تذكر النافذة. فتحها. استغرب. وزاد استغرابه... صُدِم... زادت صدمته... توقف قلبه............ ورود كثيرة حول غرفته. الأطباء يطمئنون أقاربه.

الأربعاء 26 فبراير 2020

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص