الجمعة 20 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
" الذاكرة " - عبد الرحمن الخضر
الساعة 10:28 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


على الشاطئ . عيناي هاتان الفقاعتان اللتان تسكنان على جانبي أنفي , الجزء المفتوح من الخد في الخدين مفتوحتان على قطرتين زرقاوتين تناظران عيني كالبعد بين زجاجتي نظارتي هي المسافة بين عيني .
عيناي ؟ ... لاأرى لي عينين . تلكما في المرآة .هذا الذي أراه بحرين يترجرجان في هذا الإناء العظيم.
بحران ؟ هذا الذي أراه بحرا . ليسا بحرين على جانبي أنفي 
السماء تغسل ألوان البرتقال القادمة من المدينة .
الساحل لاينتهي . يستريح هنيهة ويمضي . يتمطى بعيد بعيدا .
الموج يأتي ابدا إلى الشاطئ . لاأرى موجايذهب .
 لا أرى شواطئ -غيرشاطئي - أخرى تنتظرموجا يأتي إليها . 
الكلب الصغيرالذي للتو اعتمد على نفسه تركته أمه على الشاطئ .
الكلب الصغيرتركته أمه على الشاطئ ودخلت المدينة دونه . تخلت عنه .
نسيت منذاللحظة دونه منذ الخطوة دونه أنه كان ابنها .
ستأتي غدا إلى الشاطئ تأكل مما يقذفه البحروجيران البحر. لن تذكرأنها تركت هنا ذلك الكلب الصغيرالذي إلى لحظة مضت كانت تكشر- حنانا عليه – أنيابها للريح وتعتدي – شغفا به – على الآخرين .
لن تذكرشيئاعن ذلك الصغير .
كيف تموت الأمومة في الحيوان ؟ كيف تتألف الأمومة في الحيوان ؟
ستراه على الشاطئ لايعني لها شيئا , كلبا كأي كلب . كلبا ككل الكلاب .
سيركبها يوما وستحبل له وتلد . هكذاتتكون قبيلة الكلاب 
يسألني طفلي : مامعنى إبن الحرام ؟
" حينما نتعلم الكلام فإننا نتعلم أن نترجم . فالطفل حين يسأل أمه عن معنى كلمة فهوفي الواقع يطلب منها ان تترجم له المصطلح الذي لم يألفه إلى كلمات بسيطة يعرفها  " ** .
الكلب الصغيرينبح ويأكل شيئا على الشاطئ .
هل وعت أمه هذا الأمرودربته حتى استوى عوده ؟ كيف تعي هذا ؟ وتتركه على الشاطئ وترحل عنه ؟ أهي التي تتخلى عن أمومتها ؟ متى وكيف تأتي تلك اللحظة التي تموت عندها الأمومة ؟
السيارة بعيدة تأتي من المدينة وتقف على شاطئ البحر
خيط أبيض أم أسود ينسل منها, يقترب من الماء , ينحني . طرح شيئا أوالتقط شيئا . إنتصب . إنتظرقليلا قبل أن يعود وينزرق في السيارة .
عادت السيارة إلى الخلف . إستدارت . تحولت نحوي . ضبطني ضوؤها . إنطلقت . جاءتني . كادت تدهسني
رايت في نافذة من السيارة مفتوحة : عينين تبحلقان في وجهي . تتوتران في وجهي . تندمجان في وجهي . تلتقط وجهي وتطبعه في الذاكرة وتنحرف وتنطلق عائدة إلى المدينة .
الكلاب لاتسوق المركبات إلى الشاطئ لتتخلى عن أمومتها وتترك صغارها وتدخل المدينة .
القمرالمغربل يتناثربعيدا حتى مطلع البحر. والمدينة تزدرد السيارة ِ
السماء تغسل ألوان البرتقال . تنثر رذاذها على الشاطئ
سمعت بكاءا .
أسمينا صوت الكلب نباحا لكنه يبكي .
لم يستوعوده .
أي نسيان عظيم جعل تلك الكلبة تنفرد عن بقية الكلبات وتتخلى عن صغيرها قبل أن يستوي عوده .
أي أمومة تلك التي دون غيرها تموت قبل الأجل؟
كل الكلبات يتركنهم عندما يرشدون .
الصغيربين أحجارالشاطئ يبكي .
الساحل لاينتهي . يستريح هنيهة ويسير لا ينتهي . وأنا أسير ولا أنتهي . وبكاؤه هذا الصغير يتبعني ولاينتهي 
الساحل يتمطى بعيدا بعيدا وبكاؤه يتمطى معي لايفارق قلبي .
لماذا هذا الصغيربكاؤه لا يبرح قلبي ؟
سأعود .
أيتبنون الكلاب ؟
سنتبناه حتى يكبر . سأقول لزوجتي أننا لن نكون أبوين لهذا الكلب. .
سنعطف عليه حتى يكبرويستوي عوده يعتمد على نفسه 
الكلاب لاذاكرة لهم – سأقول لها – لقد نسيت أمه أنه ابنها وإلى الأبد .
حين يبلغ رشده – سأطمئنها – نأتي به إلى الشاطئ نتخلى عنه ونقفل راجعين 
أننوب عن تلك الكلاب التي تترك صغارها على الشاطئ وتعود تدخل المدينة ؟
الكلب الصغيريبكي . أعود . أوتارقلبي تعزف رأفة الرب .
رذاذ ألوان البرتقال تتناثرعلى الشاطئ .
أمد يدي إليه : رائحة الفل . البحرالليلة يتنفس فلا .
أتحسسه : جسد رغو ناعم وفم شفاف وأصابع خمس ممتدة . لاذيل في مؤخرته . وهذا البكاء ليس ذلك نباحا
إنه إنسان طري بدأ حياته للتوهذا الذي بين يدي 
تلك السيارة ؟
شيئ خامرني وأنا ألمس رذاذ الموج على جسده الرضيع . لاأدري لماذا رفعته وتذوقت رذاذه .
حملت طفلي . الكلاب لايحملون أبناءهم . الكلاب لايعرفون أباءهم .
بعد ثمانية عشرعاما أعني قبل ثمانية عشرعاما تمكن هذا الانسان بين يدي من أن يكتب وينادى باسم ثلاثي محوره أنا . 
في مرة من مرات البكاء التي تتحفنا بها زوجتي طعمت الدمع في خدها كطعم تلك الدمعا ت التي تخلفت مع إبني على الشاطئ حين تركته تلك السيارة وعادت إلى المدينة . 
الكلاب لاتذكرأبناءها . تتركهم على الشاطئ وتنساهم إلى الأبد 
ليست كلبة تلك التي لازالت تذكرأنها منذ ثمانية عشرعاما لفت رضيعها في خرقة بيضاء وأتت به إلى الشاطئ . وحين رأت رجلا يمشي على الشاطئ نحوها قبلت رضيعها . بللته بدموعها . وتركته على الشاطئ .
جاءتني . كادت تدهسني . رأيت في نافذة من السيارة مفتوحة : عينين تبحلقان في وجهي . تتوتران في وجهي . تندمجان في وجهي . تلتقط وجهي وتطبعه في الذاكرة .
راحت السيارة تغيب عن هذا الذي بين يديَ وتتماهى في السراب البرتقالي

----------------------

* * "أكتافوبياث" في موضوع عن الترجمة .


 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً