الخميس 26 سبتمبر 2024 آخر تحديث: الاربعاء 25 سبتمبر 2024
الهاربة - فكرية شحرة
الساعة 23:20 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

ألقت النظرة الأخيرة على أطفالها الثلاثة، كان النوم قد سلبهم  رؤية أمهم تغادر, لم تكن نظرة فحسب بل كانت زفرة روح أطلقتها مع سيل الدموع من عينيها. أغلقت باب الحجرة جيدا على الصغار النائمين.. - لم تكن تفكر – أبداً – في وداعهم، أو مغادرة البيت و هم مستيقظون
حملت الحقيبة الصغيرة وأغلقت باب الشقة التي حوت كل ذكريات عذابها، واحتفظت بثمار قلبها كرهينة. كانت خطواتها تتعثر في البالطو الطويل وفي خيبات العمر الكثيرة، تستفزها درجات السلالم أن تتزن خطواتها المتسارعة نحو الحرية، حدثت نفسها: (ما أبعدها عن تمثال الحرية الذي تقصد.. ما أبعدها عن كرامتها التي خسرتها منذ جاءت إلى هذا الوطن )

 

كان الوقت مبكراً جداً على خروج امرأة من بيتها وحيدة تتعثر في خطواتها، و تحمل حقيبة هروب صغيرة وثقيلة، النظرات التي رمقها بها العمال النشطون تدل على أن الشارع في هذا الوقت المبكر خاص بشقائهم وحدهم، وسعيهم خلف لقمة العيش، ويجب ألا يفسده منظر امرأة تجر بالطو مفرط الزينة، تتمايل في مشيتها، كأنها تدوس على معاناتهم بشوكة كعبها المرتفع,، كان تحديقهم يخيفها ويزيد في إرباكها , لكنها أصبحت تفهم عقلية هذا الرجل القبلي الذي لا يعي أن المرأة – أيضاً – بشر،  يمكن أن تضطره الظروف أن يخرج مبكراً وحيدا هروبا من المحرم .
كان لديها من الأوراق الخضراء ما تشتري به نظرات الرضا في عيونهم الفقيرة؛ لذا أوقفت أول تاكسي لاح لها في الشارع الخالي، وبعد تفاوض قصير انطلق بها التاكسي إلى حيث تستقل سيارة أخرى تحملها إلى الحرية

 

وضع فيصل المفتاح في ثقب الباب، يعرف أن زوجة شقيقه لن تجرؤ على وضع مفتاحها في الجانب الآخر للباب؛ فقد ألزمها أن ترفع المفتاح – كل ليلة – قبل أن تنام هي  و صغارها، ولم تخالف له أمراً من يومها،, كان يحب مباغتتها في تلك الملابس الفاضحة حين يأتي صباحا كي يشتري لها حاجيات البيت، يشعره ذلك بالمتعة وهو يطالع جسداً معروضا أمام عينيه بلا تحفظ، فقد كانت لا تبالي كثيراً بنظراته التي تلتهمها في كل مرة يدخل المنزل خلسة كاللص، و رغم تمتعه بالنظر إلا أنه كان – أيضاً – يشعر بالقرف، ليس  من نفسه الحقيرة، بل من زوجة أخيه، تلك التي تربت في أمريكا، والتي لا تعرف من وجهة نظره الحياء أو الخجل داخل بيتها وحجرة نومها، فتتحشم من غزوات عينيه كلما أتى بغتة كرجل شريف يقصد بيت أخيه المغترب ليتفقد أحوال أبنائه . 
فتح الباب بهدوء كعادته، تروقه الدهشة في عينيها العسلية، ونظرة الامتعاض التي تبتلعها خوفاً من سلاطة لسانه، لكنه فوجئ بالثلاثة الصغار ، وقد تكومت أجسادهم الغضة في ركن الصالة، ونظراتهم تمتلئ دموعاً، فقد بكوا كثيرا حين استيقظوا ولم يجدوا أمهم في كل حجرات البيت، والتي ما اعتادت أن تغادرها أبدا، منذ عرفوها لم يتعودوا على الاستيقاظ دون أن يحظوا بقبلات الصباح، وهي تقول لهم بالإنجليزية:
good morning
و حين طالعهم وجه عمهم البغيض إلى قلوبهم هرعوا إليه وهم يتباكون في جزع كبير:
-    أين أمي يا عم فيصل؟ ما فعلت بأمي يا عم؟ 
كان فيصل مصدوما أكثر منهم، أين ستذهب؟ إنها لم تخرج البتة، سوى تلك المرة التي حصلت فيها على ما تستحق بعد شجار عنيف بينهما، تخللته هي بسباب متشنج بلغتها اللعينة والتي لم يكن يفهمها، لكنه يعرف أنها شتمته كثيراً، لقد كان شجارهما يصل إلى الطوابق السفلى للبناية، لكنه لم يهتم بنظرات الاستياء التي تقابله على سلالم البناية من جيران زوجة أخيه، كان يجب عليه أن يربيها من جديد فهي لم تتلق أي تربية في أمريكا حيث عاشت جل ّعمرها.
صرخ في وجوه الأولاد أن يسكتوا ويخبروه أين أمهم الساقطة؟ أين يمكن أن تكون قد ذهبت؟ و متى؟ لكن الأطفال ازدادوا بكاءً ومناداة لأمهم. لم يكن أمامه إلا أن يأخذهم إلى بيت جدتهم حتى يعرف كيف يتصرف إزاء هذه الفضيحة.

 

حتى الظهر، كان يأمل أن تظهر؛ لذا بقي في الشقة ينتظر بعد أن تخلص من الصغار بتوصيلهم إلى منزل والدته. كان يُغرق في تخيل كيف سيعاقبها هذه المرة؟ و كان ينتفخ كديك يستعد للصياح في وجه المرأة التي لم تعد حتى حل المساء. حينها فقط اتصل لكل أخوته؛ كي يبحثوا عنها سراً عند الأقارب حتى لا يفضحوا ويصبحوا مضغة الأفواه.
                                  *****
في الطريق إلى العاصمة صنعاء كانت حياتها تمر كمناظر متسارعة من نافذة السيارة، تتذكر وصولها إلى اليمن لأول مرة قبل تسع سنوات، لقد جاءت بعد اتفاق بين والدها وابن عم له في الأسرة؛ بأن تتزوج ابنه ومن ثم تسافر معه إلى أمريكا، وتمنحه الجنسية الأمريكية التي تحملها، وهناك يعمل بجد كي يسدد ثمنها إلى والدها بالدولار الأمريكي. و حين حصل الزوج المتفاني على الجنسية الأمريكية أصبح – فجأة – شخصاً غير راض عن سلوك زوجته المنفتح، والتي أبدا لم يرقه سفورها، وقلة حيائها؛ لذا أصر على أن تعود إلى اليمن كي تربي أبناءه المقبلين تربية يمنية محافظة و محترمة. 
ما أن إن وصلا أرض اليمن حتى أصبح شخصا مختلفا، ينهرها بقسوة، ويمعن في اسماعها كلاما فظا عن سلوكياتها السيئة، بل إنه كثيرا ما ضربها بعد كل نقاش يخوضانه، فتصر هي على العودة إلى وطنها أمريكا , كان يضربها بقسوة تدهشها، ولم تكن تعي مدى جرمه في حقها إلا حين تطالعها وجوه جاراتها في استياء من معاملة زوجها، كانت تظن أن كل اليمنيين يقدمون على ضرب نسائهم حال العصيان؛ لذا لم تكن تعصي له أمراً، كانت تخاف من مجرد الرفض، وتخاف من مجرد الشكوى لأبيها أو أمها، ومع إنجابها المتسارع في كل زيارة يعود زوجها فيها إلى اليمن كان خوفها يتضاعف و يزداد، و مع عجزها عن فعل أي شيء خصوصاً وقد أخفي كل أوراقها الثبوتية وجواز سفرها، أصبحت حبيسة الدار تلتقط أنفاسها في حال سفره كي تحاول أن تتفهم وضعها أو تخلق لها عالما جديدا فيه أطفالها الذي تحب  .

 

حين وصل بها التفكير إلى أطفالها فاضت دموعها وهي تتخيلهم يستيقظون دون (الماما) وقبلاتها، لكنها لن تتركهم لذلك الكائن الذي يدعى فيصل كي يمارس عليهم عقده وشذوذه ، ستنتزعهم رغم أنف الجميع، فقط حين تعود إلى وطنها الذي يحترم إنسانيتها، لقد تحملت كثيرا قسوة زوجها و ظلمه وجبروته، لكنها لن تتحمل صفعات فيصل البغيض الذي يمتهن كرامتها بعينيه ونظراته الفاضحة، و أخيرا يصفعها أمام صغارها ناعتا إياها بقليلة الحياء التي لم تتربَّ جيداً، كان يتوعدها بتربية جديدة على يديه.
كان يجب عليها أن تهرب من ذلك السجن البغيض، وأن تصل إلى السفارة الأمريكية، و هناك ستثبت هويتها، وتتصل بأهلها بعيداً عن الخوف من العقاب، ستصل أمريكا؛ حيث تجد من يحترم إنسانيتها، ويحرص على سلامتها، و هناك ستطالب بانتزاع أولادها الثلاثة، وستحرص على أن تربيهم هناك على احترام آدميتهم أولاً ..
وقفت السيارة فجأة، و التفت السائق نحوها باسماً وهو يقول : 
-    وصلنا السفارة الأمريكية يا أختي، هاتِ الأجرة..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص