الأحد 24 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
قف على جنب! - زيد مطيع دماج
الساعة 19:27 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


أحكمتُ إغلاق ما تبقى من زجاج نافذة السيارة على يساري... كان الجو بارداً في ذلك الوقت من الليل، والسحب كثيفة، وقطرات مطرٍ متفرقة تهطل... هذا الوقت من الليل ليس متأخراً بالقياس إلى ما هو معتاد في بلدان العالم، فالساعة الآن لم تتجاوز العاشرة، ومع ذلك تكاد الحركة أن تتوقف إلا من سيارات الجيش والأمن المتنوعة، وبعض سيارات العسس بأرقامها المزورة...
كنتُ قد أوصلت زميلاً إلى مسكنه إثر جلسة جماعية في منزل زميل آخر بعد أن تناولنا "القات" في فترة القيلولة، وتسلينا بحكايات شيقة ثم بلعب الورق. كنتُ دائماً حريصاً على أن لا أتأخر عن منزلي إلى مثل هذه الساعة، لكنها حصلت...
استوقفني جندي مدجج بالسلاح عند منعطف الشارع الدائري... أغلقت المسجل الذي كان يشدو بأغنية محببة "لفيروز"... 
فتحتُ النافذة ونظرت إلى الجندي المدجج بالسلاح... لم ينظر إليَّ بل فتح الباب ومد يده إلى جوانب سترتي كمن يبحث عن شيء... 
حاولت أن أكتم غضبي ولا أترك له فرصة أن يندفع... استسلمت... ربما يبحث عن سلاح..! قلت لنفسي: دعه يبحث فقد كثرت حوادث الثأر في هذه المدينة... 
لكنه أمرني أن أفتح صندوق السيارة الخلفي... دست على زره فانفتح دون أن أخرج من السيارة... غاب الجندي برهة ثم أقبل نحوي فأدرت محرك السيارة، وقد اعتبرت أن الوضع قد انتهى... مجرد تفتيش عادي... 
قال آمراً ومشيراً بيده:
- قف على جنب! 
- لماذا...؟!
- على جنب! 
نظرتُ إليه مرة أخرى فوجدته جاداً مستنفراً... ركنت سيارتي على الجانب الأيمن للطريق... 
الوقت يمر... نظرتُ إلى ساعتي... وجدتها قد تجاوزت العاشرة... لابد أن يقلق أولادي وأمهم لتأخري... 
خرجتُ من السيارة... كان الطقس بارداً مع رذاذ المطر المتساقط... وقفتُ بجانب السيارة انتظر وأنظر في الوقت نفسه نحو الجندي... لم أكن قد هيأت ثيابي لتقيني البرودة القارسة وقطرات المطر المؤلمة... 
صاحبي الجندي لديه أردية غليظة تقيه كل شيء... من زخات رذاذ المطر إلى زخات الرصاص... 
* * *
اتجهتُ إليه وأنا على يقين تام بأنه لا توجد أية أسباب أو مبررات لإيقافي "على جنب"... لا شيء محظور... لا منشور... لا سلاح... لا مشروبات روحية... لا رقم سيارة مزور... لا ضريبة لم تُدفع... لا أثر للشك بأن سيارتي قد ارتكبت حادثة مرورية... 
حتى شكل سيارتي... بسيط وصغير... ولونها غير مزعج... 
- يا أفندم...!
- نعم... 
- هل أذهب؟
- لا... 
- لماذا؟
لم يجبني بل أوقف سيارات أخرى وفتشها وانشغل بالحوار مع سائقيها. وقفتُ منتظراً... قلتُ له وأنا أتبعه:
- أهنالك مخالفة مني تستوجب توقيفي على جنب...؟!
نظر إليَّ شزراً وقال: 
- أنا قادم إليك تواً... 
حمدتُ الله بأنني تشرفت بهذه الإجابة التي توحي بأن مظهري محترم لديه كما كنتُ قد تخيلت... 
توجه نحو صندوق سيارتي الذي كان ما يزال مفتوحاً وجذبني من كتفي قائلاً:
- ما هذا...؟
- كأس...!
- ما هو...؟
- كأس فارغة...!
وأزاح بطانية كانت مرتبة في ركن من أركان صندوق السيارة وقال:
- وهذه...؟
- بطانية وكأسان فارغتان أيضاً... 
- فارغتان مِن ماذا أيها المحترم...؟!
تعجبتُ من هذا الاستفزاز وابتسمت:
- فارغتان إلا من الهواء...؟!
لم تعجبه شبه النكتة التي قلتها... 
- ماذا كان بداخلهما؟
- لا شيء كما ترى!
شمهما بأنفه ثم أرجعهما إلى مكانهما بعنف... نظر إليَّ وقال مرة أخرى:
- ماذا كان بداخلهما؟
- لا شيء... كما ترى...!
توقف برهة... كان زملاؤه يفتشون السيارات الأخرى التي يصطادونها في مثل هذه الساعة من الليل... 
نظرَ إليَّ قائلاً:
- أين كنت...؟
- عند زميل... 
- ماذا تفعلان؟
- نتحدث... حديث "مقيل قات"...
- عن ماذا تتحدثان؟
هممتُ أن أقسو في إجابتي... لكني تمهلت وأجبته:
- أضروري أن تعرف؟!
- نعم... 
- بأي حق؟
- هكذا... 
- هكذا...؟!
- نعم... هكذا... 
- عن القات... هل هو مشكلة أم قضية وطنية... عن الزملاء والأصدقاء... 
- ومن هم؟
- أنت لا تعرفهم يا أخي!
- نحن نعرف كل شخص في المدينة!
- سبوح قدوس...!
- أتسخر مني؟
- معاذ الله.. ‍‍!!
- هذه الكؤوس الفارغة... ماذا شربتم فيها هذه الليلة؟
- لم نشرب فيها شيئاً...!!
- أريدُ تفسيراً معقولاً...!
- هي خاصة بالأطفال أيام العطلات... يشربون فيها العصير والماء... 
- ها...! عصير وماء...؟ 
قالها وهو يدحرج الكؤوس بأرضية صندوق السيارة... أثارني فقلتُ:
- لقد تجاوزت حدودك... بأي حق تستوقفني... وأي قانون يخولك أن تتصرف معي هكذا...؟!
توتر الموقف موحياً بأنه سيؤول إلى وضع سيئ... لكني كنت قد وصلت إلى ذروة الغضب والشعور بالمهانة، وكان ذلك يدفعني عادة إلى الاندفاع ببسالة، وإلى المقاومة العنيفة مهما كلفني ذلك من ثمن... 
نزل الـجُـنْد من فوق سيارتهم المكشوفة "الطقم" مدججين بكل أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة، وبملابسهم العسكرية المموهة، وخوذهم أيضاً الخاصة بالاقتحام "الكمندوزي"...!
 كان وقع رذاذ المطر على رأسي شبه الأصلع وعلى جسمي يؤذيني... دخلتُ السيارة رغم تجمعهم حولي، وأغلقت بابها وفتحت المسجل. كانت "فيروز" ما تزال تشدو بأغنيتها المحببة لي... 
وأدرت محرك السيارة... تشنج الـجُنْد واحتاروا فيما يفعلونه إذا انطلقت بالسيارة... 
توقعي كان أنني إذا أقدمت على ذلك فإنهم على الأقل سيقومون بإطلاق زخات من أسلحتهم على السيارة وعلى إطاراتها بالتحديد... وكنتُ على يقين بأنهم سيبررون ذلك، حتى لو نتج عن تصرفهم مقتلي، بأنني مُـخّرِب خارج على القانون... وقد عُثر بداخل سيارتي على أسلحة ومنشورات وخمور أيضاً... وبأن أربعة رفاق كانوا معي في السيارة استطاعوا الفرار وما يزال رجال الأمن يبحثون عنهم وربما قد عثروا على بعضهم وسيُقدمون إلى محكمة أمن الدولة العليا... 
دار في ذهني كل ذلك فأوقفت محرك السيارة... وأوقفت حتى المسجل الذي كان يشدو بأغنية "فيروز" المحببة لي... 
انتبهت لصمت الـجُنْد ووقوفهم بحركة آلية كأنهم تماثيل جامدة... 
كانت سيارة لا تحمل رقماً، رمادية اللون، قد وقفتْ بجانبي... وكان بداخلها شخص تحدث إلى قائد الـجُنْد... شعرتُ بأن الحديث يخصني... 
جاء الجندي إليَّ قائلاً:
- الأفندم يريدك... 
- أفندم من...؟
- الأفندم... ضابطٌ عظيم... 
- ما عظيم إلا الله... يأتي هو... 
- ماذا تقول؟
- لقد سمعتَ ما قلته... 
استشاط غضباً... وعاد إلى الأفندم... ودار حوارٌ طويل بينهما... 
ترجَّل الأفندم فنزل جند حراسته الخاصة من أمامه وخلفه وعن يمينه ويساره... أقبل نحوي كطاووس متباهٍ... 
مدَّ يده قابضاً على طرف النافذة بعد أن تأملني جيداً ثم قال:
- ما قضيتك؟
- ليس لي قضية... 
- أيعقل هذا... ونحن الآن في منتصف الليل؟
- أنا هنا منذ الساعة العاشرة... أُوقفت دون مبرر... 
- دون مبرر...؟
- نعم... 
- لا يعقل ذلك!
- ...
- وكل هؤلاء الـجُنْد المحيطين بك... دون قضية...؟
ثم ابتسم قائلاً:
- ليس تعنتاً كما تعتقد... لابد من أنهم عثروا على ما يُبرر إيقافك على جنب... 
- اسألهم الـمبرر والسبب الذي دعاهم لإيقافي حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل وفي هذا الطقس الرديء... 
تقدم الجندي الشرس الأول فنظر إليه "الضابط العظيم" مستفسراً... فقال الجندي:
- عثرنا على كؤوس فارغة وبطانية... 
- وماذا في ذلك...؟
أجابه "الضابط العظيم"...
- الكؤوسُ من النوع الخاص بالخمور... والبطانية من النوع الخاص بممارسة الزنى والجنس... 
- ما هو الدليل؟
- يا أفندم... الدليل واضح جداً... كؤوسٌ خاصة بالخمرة وبطانية ناعمة خاصة بممارسة الفاحشة.
* * *
كان الاثنان يتحاوران تحت قطرات المطر وأنا قابعٌ على كرسي القيادة... وفجأة أدخل الضابط العظيم رأسه من نافذة السيارة وقال: 
- أعرف أنك قد سمعت حواري مع الجندي المناوب...!
- ربما...؟!
- ما ردك...؟
- الكؤوس الفارغة هي لأطفالي يشربون بها الماء... وأما البطانية فأمهم تفرشها في الحديقة العامة ليستريح عليها الأطفال في يوم الإجازة...!
- حديثٌ مستوحى من التراث...!!
- نعم... 
* * *
- اتبعني إلى القسم... 
- أي قسم؟
فتحَ باب السيارة وجذبني نحوه... تحملتُ ذلك بالرغم من رذاذ المطر المؤذي... جذبته أنا أيضاً نحو الصندوق الخلفي للسيارة الذي ما زال مفتوحاً وقلت متسائلاً:
- هل هذه الأشياء دليلٌ على الجرم المزعوم؟
- نعم... 
تناولتُ الكؤوس ورميتها واحداً إثر الأخر لتنكسر فوق الرصيف، وأخذت "البطانية" ورميتها أيضاً على الرصيف... 
كنتُ على استعداد أن أرميه أيضاً وأنهي هذه الحالة السيئة من الامتهان... كان التحفز من جانبه وجانبي قد بلغ ذروته... كنتُ مستعداً أن أمسك بتلابيبه وأجهد نفسي على الانتصار عليه، وكان هو الآخر متحفزاً أيضاً بسلاحه وبزته العسكرية وجنده المحيطين به... 
فجأة أوقف الـجُنْد سيارة "صالون" فارهة، وأقبل أحد الجنود صائحاً: 
- يا فندم...!! 
وهمس في أذنه... فهرعا معاً نحو السيارة الصالون الفارهة... نظرتُ نحوهما وقد تجمع الـجُنْد حول تلك السيارة وحوار صاخب يدور... أقفلت صندوق السيارة الخلفي واتجهت إلى مقعدي وأدرت محرك السيارة وانطلقتُ بها... 
كنتُ أنظر في المرايا العاكسة لأرى إن كان أحد يتبعني. لم أرى أي أنوار خلفي... قلتُ لنفسي: لقد عثروا على صيد ثمين حقيقي فعلاً... 
تجنبتُ الشوارع الرئيسة وسلكت الأزقة الفرعية الموحلة خوفاً من لقاء جنود آخرين أو "ضابط عظيم" آخر!
كان الوقت بعد منتصف الليل عندما وصلتُ أمام باب منزلي... 
أوقفتُ السيارة ونزلتُ لأقرع الجرس لكن الباب كان قد فُتح قبل أن أضع إصبعي على الزر... 
كانت الزوجة في انتظاري بلهفة... احتضنتني بشدة والأطفال وراءها فرحون وكان السهر قد أعياهم... 
دخلتُ صامتاً... وارتميت على الأريكة وقد تجمع الكل حولي... كانت أمامي الخزانة الزجاجية المليئة بالتحف والكؤوس والصحون والأشياء الخاصة بسفرة الطعام... 
نهضتُ فجأة وأخذتُ جميع الكؤوس المشابهة لتلك التي كانت في السيارة، وفتحتُ الباب وقذفتُ بها الواحدة إثر الأخرى والزوجة والأولاد يتفرجون في دهشة... 
استدرتُ إليهم باسماً وارتميت على الأريكة... وقبل أن يعلو شخيري كانوا يعودون إلى غرفة نومهم وعلامات الدهشة ما تزال عالقة بأجفانهم المثقلة بالنوم!
                           

صنعاء، 8 أغسطس 1988م

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص