الجمعة 20 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
حكاية البنت العجماء - عبدالكريم الرازحي
الساعة 12:31 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


منتهى
ولدت وكبرت وتبرعمت وتفتحت مثلما تتفتح زهرة في الربيع وراح اريجها يعبق وصدرها يتكوّر
وصوتها يزداد جمالا وحلاوة وعذوبة
كانت منتهى التي اشتهرت في القرية على أنها عجماء تغني بصوت شجي عذب وحلو يخطف القلوب حتى ان من يسمع صوتها وهي تغني يخالجه شعور بانه هو الاعجم لكنها لم تكن تغني في اي وقت وانما تغني في الصباح قبل شروق الشمس وهي في طريقها إلى النبع
ولشدة جمال صوتها لم يكن اهالي القرية يشكون ويتبرمون وينزعجون منها وهي تغني في الصباح الباكر وهم نيام
على العكس كانوا يستيقظون من نومهم ليسمعوها ويستمتعوا بجمال صوتها الذي ماانفك ينعشهم ويدخل الفرح الى قلوبهم ويجعل مزاجهم رائقا طوال اليوم
وحده الفقيه سعيد كان يغير من صوتها ويضيق بها وبغناءها ويشكوها الى ابيها عبد الله الصانع ويطلب منه ان يمنعها من الغناء
كان وهو المعجب بصوته حين يؤذن او يعظ او يقرا القرآن يشعر حين يترامى الى سمعه صوت منتهى وهي تغني بحقد تجاه هذه البنت العجماء التي تخطف القلوب بصوتها وتخطف منه جمهوره وكان يصرخ من سقف بيته بكل صوته :
-هذا الفحش والمنكر تفعله البنت منتهى وهي عجماء كيف كانت باتفعل لوهي تتكلم!

كانت تستيقظ قبل ان تستيقظ القرية وتحمل جرتها وتمضي الى النبع لجلب الماء وهي تغني بصوت شجي ندي وتستمر في الغناء الى ان تشرق الشمس

كان ابوها بتحريض من الفقيه سعيد يمنعها من الغناء ويقول لها محذرا :
-لاتغني يامنتهى لو سمعتك تغني مرة ثاني سوف اضربك وكانت تعده وتقول له بلغة العجمان بانها لن تغني
لكنها في الصباح وهي في طريقها الى النبع لتملا جرتها بالماء كانت تنسى تحذيرات ابيها وتنسى ان لها ابا وتنسى الفقيه سعيد رجل الله في القرية وتنسى القرية وتنسى نفسها وتجهش بالغناء وتظل تغني الى ان تشرق الشمس
وكانت منتهى من بعد شروق الشمس تتوقف عن الغناء وتلوذ بالصمت وتبقى صامتة عجماء طوال اليوم
ابدا لم يحدث ان غنت في وقت غير الوقت لذلك كان اهالي القرية ينتظرون قدوم الصباح بشوق ولهفة كيما يسمعوا منتهى تغني بصوتها الندي العذب
كانوا يستيقظون من نومهم على صوت غناءها ويرهفون آذانهم لسماعها ويقولون فيما بينهم وبين انفسهم سبحان الله من اين لها هذا الصوت الملائكي!
وكيف تغني بهذا الاحساس وبهذا الجمال وهي عجماء!

وذات يوم ضربها ابوها ضربا مبرحا وقال لها وهو يواصل ضربها :
- والله لا اقتلك يامنتهى لو غنيت مرة ثاني .. كم مرة قلت لك الغناء حرام ..اسمعي الكلام يابنتي و توقفي عن الغناء
الفقيه سعيد رجل الله في القرية ويعرف مايضرنا وماينفعنا ..ماهو الحلال وماهو الحرام وكل يوم ينصحنا ويطلب مني امنعك من الغناء وانت مش راضي تسمعي كلامي ..ديننا يامنتهى يحرم الغناء حتى على الرجال وانت بنت مايجوز اسكت عليك ولوسكت وسيبتك تغني ايش اقول للفقيه سعيد !هل اقول له بنتي عاصية لاتسمع كلامي !
كان يضربها وبعد ان ينتهي من ضربها يساوره شعور بالندم والالم وشعور بالكراهية تجاه الفقيه سعيد الذي ماانفك يحرضه ضدها وكان يقول بينه وبين نفسه بعد ان ينتهي من ضربها :
-البنت عجماء ايش بايضره الله لوغنت !
لكنه رغم شعوره بالالم وبالندم كان يعود الى ضربها ليرضي الله الذي يقول الفقيه سعيد بانه حرم الغناء

وفي صباح اليوم التالي استيقظ اهالي القرية على صوت منتهى وهي تغني بصوت شجي خطف النوم من عيونهم ونقلهم من الواقع الى الحلم
ومن سقيفة بيته صاح الفقيه سعيد يومها وقال لابيهاوهو في منتهى الغضب:
- يمين لو منتهى بنتي وتعصي كلامي اقتلها
بعدئذحبسها ابوها في البيت عقابا لها ولم يسمح لها بالخروج الى اي مكان ولمدة ثلاث ايام بقيت منتهى محبوسة حتى انه لم يسمح لها بزيارة امها المطلقة
وفي تلك الايام الثلاث التي حبسها ابوها في البيت احتبست الاغنية داخلها وحين كان يحين وقت الغناء كانت دموعها تسيل بدلا عن الاغنية
وفي اليوم الرابع سمح لها ابوها بالخروج بعدا ن حذرها وهددها بماهو اشد من الحبس ان هي غنت
لكنها وهي في طريقها الى النبع غنت اغنية فرحة جعلت القلوب ترقص فرحا والشمس تشرق قبل موعدها
ويومها كان حديث نساء القرية عن اغنية منتهى التي احتبست ثلاث ايام وخرجت من حبسها وهي اكثر زهو ا واكثر فرحا واكثر حرية
لكن الفقيه كان يومها اكثر رعبا واكثر تحريضا واكثر كراهية لهذه البنت العجماء التي تتحداه بصوتها وتتحدى
تعاليم دينها وقال لابيها عبد الله الصانع بعد صلاة الظهر وهو في منتهى الغضب :
- حاشا لله ياعبد الله انك عبد الله ولو انك حقا عبد الله لكنت نهيت منتهى بنتك عن الفحش والمنكر
وبعد عودته للبيت ضربها ابوها عبد الله الصانع ضربا هو الاعنف والاكثرة قسوة حتى ان الدم انبجس من فمها وانفها واقسم يومها بانه سيقتلها ان هي عصته وغنت ثانية
وفي صباح اليوم التالي اوالذي بعده خرجت منتهى لجلب الماء لكنها هذه المرة لم تذهب الى النبع حاملة جرتها لتجلب ماءً للشرب وانما حملت تنكتها وذهبت الى بركة القرية لتجلب مياها للغسيل
وفي طريقها الى البركة اجهشت منتهى بالغناء وبدت وهي تغني كأنها تبكي او لكأنها تودع القرية والناس والحياة وتودع نفسها
ويومها استيقظ اهل القرية على صوت منتهى وهي تغني اغنيتها الباكية الحزينة فكان ان توجسوا حزنا وداخلهم شعور بالحزن ومن شدة تاثرهم انبجست الدموع من عيونهم و اغتسلت بها وجوههم واستولى عليهم شعور بالكآبة ومماضاعف من كآبتهم هو ان الشمس لم تشرق يومها وطلعت بدلا عنها سحابة من قاع الوادي زحفت الى القرية من جهة الغرب ومن جهة المقبرة

وفي عصر نفس اليوم اكتشف بعض الفتيان وهم يسبحون في البركة جثتها وعرفت القرية يومها بأن البنت منتهى
لم تذهب الى النبع كعادتها وانما ذهبت الى البركةوهي تغني اغنية موتها
لكن منتهى التي غرقت في بركة القرية لم تغرق وحدها وانماغرقت معها اغنية الشمس واغنية الحياة

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً