الجمعة 20 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
رصد لأول صورة أطرق بها عالم المعرفة - طارق السكري
الساعة 18:20 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

رصد لأول صورة أطرق بها عالم المعرفة وأتعرف على شكل الحروف الأبجدية . لحظة أول دخولي المدرسة في شارع الحجون . ذلك الجبل الذي قال فيه أحد بني جرهم عندما أجلتهم بنو خزاعة عن مكة :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصَّفا
أنيسٌ ولم يسمر بمكة سامرُ

إنها لحظة مشبعة بالرؤيا .. كتوهج قصيدة في خيالي .. يمر شريط العمر سريعاً بكل متحولاته ومتغيراته الفكرية والشعرية دافعاً بهذا الغلام الشاعر إلى محطته الأخيرة هناك يوما قد يكون قريبا . حيث ارتحال في حياة أخرى جديدة وسعيدة بإذن الله .

أنظر إلى هذا الغلام الصغير من علٍ ! أقول :
ربما لو رآني على ما أنا عليه اليوم لأحبني كثيراً ، فأنا استطعت أن أكون حلمه الذي كان يهجس به في صمت وهو يحاور الأشجار والسيارات في الشوارع تلك التي كانت تمر أمامه مسرعة
لقد كان شغوفا بالقراءة .

في الصف الرابع الإبتدائي أهدى مدير مدرسة الفيصلية جوائز للطلاب بمناسبة انتهاء العام الدراسي .. فكان من نصيبي ديوان شعر للمتنبي !! لم يكن ديوانه الشعري كاملاً وإنما كان منتخباً من أبيات تتحدث عن الحكمة والطموح مزيَّنة بالصور والرسومات. كأنه مصمّم للأطفال . فمثلاً عند قول المتنبي :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تأتي الرياح بما لاتشتهي السفنُ

يرسمون صورة سفينة وسط البحر ورياح ..و .. وهكذا دواليك على امتداد صفحات الكتاب .
طريقة تربوية ممتازة في غرس حب العربية في نفوس الطلاب وهذه الطريقة في اعتقادي تعتبر من أهم المعالجات لمشاكل التعليم لدى الطلاب والنهوض بالذائقة الجمالية في المجتمع .

كانت هناك حصة مكتبة مرة في الأسبوع وكانت لاتقل أهميتها لدى الإدارة عن بقية الحصص كنا ندخل المكتبة الواسعة بانتظام وبصمت تام . كان الأستاذ متشدد في موضوع الصمت داخل المكتبة . قال الأستاذ بهدوء : هنا يا أبنائي رف القصص فالتقيت بكليلة ودمنة وقصة الثعلب والحمامة ومالك الحزين .

في تلك السنوات كان أبي يأخذني إلى الحرم المكي في الساعة الثانية ظهرا ويرجع إليّ بعد صلاة المغرب ونمكث معا إلى صلاة العشاء .
كان جوار الحرم بيت عبدالمطلب جد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام . لازال قائما حتى اليوم في مكانه لم يتغير رغم مشاريع التوسعة . ولكنه رمِّم وزيّن وأصبح مكتبة ثقافية بثلاثة طوابق إن لم تخني الذاكرة .
كان شيخنا قاسي .. وكان يمتاز بقوة حافظة ما رأيت لها مثيلاً . لايسمّع الطلاب واحداً واحداً وإنما نقدم أربعة أو خمسة دفعة واحدة وبيده العصا .. كلنا نقرأ دفعة واحدة من سور مختلفة وهو يترنح برأسه فإذا أخطأ طالب نبهه بضربة .

كان أبي أحيانا يدخلني الحرم من باب فأهرب إلى المكتبة من باب آخر !
لا أدري ! قوة دفعتني لأن أدخل تلك المكتبة أو ربما الوقت الطويل والإحساس بالملل ! ربما .

عند وضع أول خطوة من قدمي على الدرج رفعت رأسي إلى المبنى ياللجلال ! أهنا ولد الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام ؟ المعلم الرحيم الذي ما كان يضرب الصغار ؟
حين أصبح باب المكتبة وراء ظهري استقبلني عبق التاريخ فاستقبلته بكل مخاوفي وأحلامي . الغريب أنه لم يفتح أحد من الذين في المكتبة فمه ! غلام صغير في مكتبة يؤمها علماء العالم الإسلامي ماذا يفعل هنا ؟! لم أرتح في الطابق الأول . كتب كلها أصول دين وحديث صعدت إلى الطابق الثاني فالتقيت بالبحتري فانتشرت شياطين الجنون في الكون .
أحببته من كل قلبي . الوليد بن عبادة . كان عبارة عن ثلاثة مجلدات كبيرة . أوراقها سميكة نوعاً ما ولونها سكّريّ .
كنت أحيانا أضحك وأنا أقرأ لأني كنت أعثر على كلمات فيها قلة أدب عندما كان يهجو شخصاً وأنتم تعلمون نحن أبناء تربية مكة في منتصف السبعينات كنا في غاية من الأدب تجعل الشيطان يستغفر الله منّا !

أذكر أني سرقت ديوان البحتري بمجلداته الثلاثة .. السميكة الأوراق .. السكرية اللون لكن والله لا أدري من أين ؟
لا أعتقد أنها من بيت النبي صلى الله عليه وسلم وإلا كنت هنئت نفسي على هذه الجرأة !
يبدو أنه كانت هناك مكتبة أخرى . الله وأعلم .

عندما سافرنا أزمة الخليج وضعتها أمانة عند أحد الأصدقاء . من حضرموت / عمر أحمد باسيف . كان من أعز أصدقائي . نحن كانت الصداقة لدينا لا يعمّدها إلا معركة كبيرة عض ولطم وشتم . بعدها نصبح أصدقاء الروح بالروح . في أول إعدادي شربت من كأس العشق ، فكتبت أول قصيدة لي . قصيدة شعبية لم يسمعها أحد من أهلي
لا أمي ولا أبي أسمعتها / فواز بن خالتي حفظه الله ففرح بها وشجعني رغم ما فيها من منحدرات تكاد تشبه منحدرات كابو جيراو ، وارتفاعات تكاد تصل إلى قمة الهملايا !

فلما استمعتني فيما بعد نخبة القرية المثقفة ( المعلمين ) أشار عليّ الأستاذ / محمود محمد سيف بنصيحة من ذهب وضعتني على الطريق الصحيح . ابدأ بالشعر الجاهلي !

فتفدق تيار الشعر ولا يزال حتى اليوم .. متحديا .. منافحا .. مستمتعاً .. إلى أن يشاء الله .. فيخمد هذا الضجيج كله ، ويلقي قلمي عصاه ، وترقد جمجتي على يدي اليمنى تجاه القبلة .

هل سينفعني شيء من هذا كله ؟!!
إن الحياة الحقيقية هناك .. تلك التي تنتظرنا بعد الموت . إنني أقف وأنا أنظر إلى هذه الصورة .. في منتصف الأربعين آسفا تحترق عيني من الدموع .

أسأل الله أن يغفر لي وأن يرزقني حسن الختام
قولوا آمين

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً