السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قصة قصيرة:
يريم.. مدينة الطمي والعفاريت - بسام شمس الدين
الساعة 16:14 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

نعيش من بيئة ملوثة، وسط مدينة يريم القذرة التي تنتشر الزبالة في شوارعها، واكتسب أهلها مناعة شديدة من الأمراض والأوبئة بعد أن أصيبوا بالطاعون في عام 1920م، ولم ينج من الوباء سوى القليل من السكان، وعلى إثر ذلك بقوا وتناسلوا مورثين جيناتهم القوية ومقاومتهم لهذا الجيل الذين ترونه الآن يسير في الشوارع القذرة دون اكتراث، وبوسعك أن ترى مستشفيات المدينة تشبه إسطبلات الخيول وزرائب الحيوانات، يؤمها قرويون مرضى بملابس متهرئة وأطفال عرايا حفاة الأقدام، ونساء متلفعات بشراشف سوداء يفوح منها صنن البول وروائح المواشي، وأمام المبنى تتوزع برك من مياه الصرف الصحي، وعلى جوانبه تستلقي أكوام نفايات وكلاب نافقة دهستها السيارات أو قتلها الأهالي، لأنها خالفت قانون التعايش وأمست تشكل خطراً على أطفالهم.
في الأعوام الأخيرة اتسعت المدينة، والتهمت المباني الأرض الزراعية الخصبة، واقتربت من أطراف قاع الحقل الشهير الذي تأسست على مشارفه دولة حمير القديمة في القرن السابع قبل الميلاد، ويشاع أن أهالي يريم وظفار القدامى كانوا يرصفون شوارعهم بأحجار الرخام، ويغسلونها بماء الورد، وكانت تماثيل ملوكهم تنتصب على مفترقات الطرق تحف حولها شتلات الورد, وأشجار الكاذي، يومذاك كانت النظافة هي ركن الإيمان في الديانة اليهودية التي فرضها ملوك حمير على مواطنيهم وكهنة المعابد، ولم يكن إلههم سوى دمية يعبثون بها متى شاؤوا، وأحيانا يعبدون أكثر من آلهة، لأنهم كانوا يظنون أن الآلهة الواحدة تقود إلى التسلط واستعباد البشر، ويذكر أحد النقوش أن أحد الباعة تجاهل قواعد النظام مستغلاً انهماك الأهالي بالاحتفال بيوم النصر، وألقى قشرة موز في الشارع، وعلى إثر ذلك، ارتفعت صرخة طفلة من نافذة منزل بالجوار وانفضح أمره، وأتى الجنود، وأخذوه مغلول اليدين كمجرم خطير، وعقدت من أجله محاكمة عاجلة، وحضر كهنة معبد رعيم، الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن المذنبين من الرعايا، وطالما يطالبون بتخفيف الأحكام عنهم مرددين نصوص الرأفة بعاطفة دينية وأبوية خالصة، ورغم ذلك حُكِم على المذنب صاحب قشرة الموز أن يقضي عاماً كاملاً في إزالة المخلفات من أسواق المدينة.
حدث هذا قبل أن تشرق الصحراء بدين جديد لتذوي حضاراتنا القديمة ودياناتنا الأم، وها هي يريم أو يحصب كما يحلو للبعض تسميتها، في الوقت الحالي، مستنقع قذارة لا نظير له في المعمورة، حتى دورات المياه في مساجدها باتت تؤذي المصلين بروائحها العطنة، ولا أحد يلقي بالاً، وحين تهطل الأمطار الغزيرة، يختلط الوحل بالقذارة في شوارع الأحياء، ويسقط المارة حتى ركبهم بالطمي، ويعودون إلى منازلهم بلا مبالاة، وقد اعتاد المتسوقون القادمون من الأرياف على هذا الحال، وتسلحوا بالأحذية المطاطية العازلة التي ترتفع إلى تحت ركبهم، وارتدوا ملابس واقية من المطر، ولكن بعضهم يسيرون شبه عراة وسط الطمي مستمتعين كالأطفال. وإضافة إلى القذارة والمستنقعات أيام الأمطار تشتهر المدينة بأنها من أكثر المدن التي تأوي المشعوذين والأطباء الشعبيين ومستحضري الأرواح وعيادات الاستشفاء بالقرآن والرقى، ويوجد فيها كثير من الأدعياء والأنبياء و طاردي العفاريت من أجساد الممسوسين، لذا فهي المدينة الوحيدة في العالم التي تخلو من الأطباء النفسيين، وفي يوم من الأيام أقام أحد أطباء المدينة عيادة طب نفسي في الشارع الرئيس، لكنه أمضى بضعة أيام دون أن يزوره مريض واحد، حتى اضطر أن يفتح مشروعه في مدينة ذمار المجاورة، تاركا يريم لخبيزان وأمثاله من طاردي العفاريت في المدينة، وهذا الرجل يأتي إليه القرويون من جميع الأصقاع في المحافظات، حتى بعض المدنيين ألجأهم عدم الاهتمام الحكومي بالطب النفسي، إلى زيارته من قبيل التجربة والفضول أحياناً..
وهناك وجدوا مبنى متهالكا قذرا يقف على فنائه عدد كبير من المرضى والمرافقين لهم، واضطروا أن يحجزوا موعداً بعد أسبوع أو أكثر، وحين اتوا إلى موعدهم مكثوا بالفناء منتظرين دورهم بضع ساعات، وبدوا مرتابين خائفين وسط خليط من المجانين والأصحاء غالبيتهم من الريف، يسمعون صراخ العفاريت يأتي من داخل المبنى، ويقضون وقتهم بالاستغراق في التفكير والضجر، وحين يدخلون صالة خبيزان طارد العفاريت يحجب دخان المباخر أنظارهم، ويرون على الجدران أطيافاً بيضاء متحركة لهياكل وقرون ثيران وظباء، ورقائق مخطوطات عليها طلاسم ونقوش كتبت بلغة مجهولة، وينبعث من مكان ما صريراً وأصداء أصوات شبحية غريبة مترددة كأنما تصدر من أعماق جبل أو بئر عميقة، فيزداد ارتعاشهم، ويشرع مريضهم بإصدار جلبة وأصوات احتجاج غريبة محاولاً الفرار، لكنهم يمسكون جسده بقوة رغم رغبتهم بالهروب بعيداً، ويخال لهم أن طاقة غامضة تجذبهم نحو ذلك الرجل الربعة الجالس بوضعية الصلاة أمام مباخر حجرية، محاطاً بقواقع وجلود وسياط مظفورة، كان عاري الجذع والأطراف حليق الرأس، تهبط من ذقنه لحية تيس جبلي، عضلاته تملأ ذراعيه وصدره حتى يبدو مثل أبطال المصارعة الحرة، وما لبث أن رمى على المبخرة فص بخور أبيض، ثم سحب مريضهم المرعوب بقبضة قوية وهو يصيح بصوت هادر: " شنكوح فنكوح، ملك الجبال والروح، أقسمت عليك بالطور والفلق، وبقداسة الجيل الأزرق، وبالرموز البابلية والأقسام المحمدية، اخرج يا شر البرية..." وشرع المريض يقاوم ويرشح بالعرق، ويصرخ محتجاً مطالباً أن يتركه وشأنه، لكن قبضة خبيزان اليسرى بقيت قابضة على عنقه، ويده الأخرى تخبطه بالسوط المظفور، حتى داخ المريض وخار بفعل الألم والانفعال، وشرع يرجف ويتكلم بصوت غريب هاذياً بجمل غير مترابطة أو مفهومة، ثم خمد وكأنه نام، ونظر إليهم خبيزان وقال بصوت مخيف له صدى غريب :
"عفريت خبيث من بحر رجرج، بالكاد خرج، ضعوا في ذلك الصندوق المفتوح عشرين ألفاً، وعودوا إلي، تجدون مريضكم صحيحاً يمشي على قدميه"
وذهبوا مندهشين وألقوا عشرين ورقة من فئة الألف في الصندوق، وحين عادوا قابلهم شقيقهم البائس صارخاً: "هيا لنخرج من هذا المكان، لا تعيدوني إلى هذا الرجل ليضربني بالسوط، لم يكن في جسدي عفريتاً كما يزعم هذا الرجل، لقد عشقت فتاة قاسية لا تستحق أن ألقى في سبيلها كل هذا الضرب المبرح، هذا كل ما في الأمر"
أجاب أحد إخوته قائلا بخبث:
"مهما كان، عشقا أو عفريتا، فقط استطاع سوط خبيزان أن يخرجه من جسدك"
وخرجوا من المبنى المتهالك، وخاضوا في شوارع الطمي، وعادوا إلى مدينتهم النائية وهم يضحكون بلا مبالاة.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً