- الأكثر قراءة
- الأكثر تعليقاً
- اعتبروه أحد أفضل الأطباء.. يمنيون يشيدون بالدكتور المصري هشام إبراهيم (تفاصيل)
- عقوبات أمريكية على شركة سورية تموّل الحوثيين من إيرادات بيع النفط الإيراني
- دورات طائفية باشراف إيران للوكلاء الحوثيون الجدد!
- محلات عبدالغني علي الحروي تعزز تواجدها في السوق العالمي بالتعاون مع شركة هاير
- الحوثيون في إب يسجلون في مدارسهم طفل الصحفي القادري المخفي لديهم بإسم غير إسم أبوه
- علي سالم الصيفي ودورة في تمويل داخلية الحوثيين و الاستحواذ على 200 مليار ريال سنوياً
- إتحاد الإعلاميين اليمنيين يدين توعد قيادي حوثي بتصفية الصحفي فتحي بن لزرق
- بيان ترحيب من منصة (p.t.o.c) بفرض عقوبات امريكية على قيادات حوثية متورطة في جرائم منظمة وتهريب الاسلحة
- منصة تعقب الجرائم المنظمة وغسل الأموال في اليمن (P.T.O.C) تصدر تقريرها الجديد «الكيانات المالية السرية للحوثيين»
- إسرائيل تدعو السفن التجارية المتجهة لميناء الحديدة بتحويل مسارها نحو ميناء عدن
قادني أبي ذات يوم كئيب إلى قمة جبل "الجميمة" في القفر الأعلى، لأرى بقايا حصن قديم كان يسمى "مِرَيّْخ" كان يتبع سلطة الحواليين، كانت مجموعة من البرك المقضضة منتشرة في المكان، وأما سوره فقد اختفى منذ زمن طويل. أحجار الحصن استفاد منها القرويون في القرى المجاورة وعمروا منها مساكنهم. جلس أبي على حجر أملس وأطلق تنهيدة حارة، وهو يتأمل الأفق الممتد إلى ما لانهاية، كانت الريح تلعب بخصلات شعري المتمردة، وتصدر صوتاً يشبه زئير أسد غاضب متغطرس، وأعطى الجو المهيب أبي حماساً ليخبرني شيئاً عن حكاية سكان هذا الحصن القدامى، كانت بشرته تقشعر وتزيد خشونة وجفافاً، حتى ظهرت حبيبات على سطح معصمه وهو يروي لي أموراً بغيضة من سيرة أشخاص سكنوا المكان منذ ألف سنة خلت.
استقى معلوماته من مخطوط قصيدة شعبية قديمة مجهولة اسمها "الفاجعة"، كتبت في تلك الفترة على جلد جاف، وقد ابتاعها أبي بثمن مرتفع من رجل محلي عثر عليها بالمصادفة بين أوراق عائلته، وحين قرأها شعر بالتأثر وندم على ماله الذي أهدره عليها، وظن أن صاحبها الشاعر ربما يكون أحد أجداد هذا الرجل، من يدري؟ المهم إنها تروي قصة ما جرى في ذلك الزمن الغابر، وأدى إلى دمار الحصن والقرى المجاورة التي تتبعه.. وهي تفاصيل رغم أهميتها لم تدون في كتب التاريخ والسيّر، ربما لأنها كانت حقيقية، وأن ما كُتب هو محض افتراء سجله كتبة صغار في بلاط السلاطين والحكام القدامى، وظل العجب يطاردني أمداً طويلاً عن السبب الذي دعا مؤلفها لا يرفق اسمه جوار قصيدته؟ هل كان يعاني من الخجل أو يخشى من مكروه ما؟ كنت أسأل نفسي.
كانت القصيدة تحكي قصة "الحُمْدِي" أحد الوجهاء القدامى الذين سكنوا حصناً منيعاً على الجبل الذي يفصل بين المناطق الحوالية والنجاحية في القفر الأعلى بمحافظة إب، واسمه الحقيقي هو محمد بن زيد بن هادي.
كان والده رجلاً ذكياً استغل انشغال الصليحيين والنجاحيين بالحرب، وكذلك استفاد من نزاع الأمراء الحمزات مع الحواليين، وعقد تحالفاً متيناً بين وجهاء المناطق المجاورة المحتقنة بالمشاكل المذهبية والنزاعات القديمة على الأرض، واتفقوا على التآزر وحسن الجوار والحياد وتبادل الزيجات، وعالجوا قضايا عديدة وثارات عالقة كانت محل نزاع دائم، وبهذا استطاع أن يحافظ على السلام في القفر الأعلى لاسيما مناطق التماس، وذكرت القصيدة أن بناته العشر ارتبطن في زواج مثمر بأشخاص وجهاء وأثرياء من الجانبين الحوالي والنجاحي، وبذلك صارت علاقته هادئة مع خصومه القدامى في الجانب النجاحي.
كان الحصن يملك جيشاً صغيراً مؤلفاً من ألف محارب من الموالي والأجراء، لكنهم أضحوا يعيشون في فراغ وهدوء تامين بعد سريان اتفاقية التحالف، ثم شغلوا وقتهم في صناعة القضاض والجبس، واستصلاح الأراضي البور، وبناء المدرجات الزراعية، وإنشاء السواقي والسدود الصغيرة، وابتنى لهم صاحب الحصن بيوتاً صغيرة في الطرف الآخر من الجبل، وأعطاهم أجورهم بعد أن ازدهرت تجارته وسمح لهم أن يقيموا عائلات لاسيما الموالي، وتشرح القصيدة إنه كان يأكل معهم ويسامرهم أحياناً، وفي حين آخر يأتي وهم يرقصون مع نسائهم مختلطين كما يفعل الأشخاص المعدمين حين لا يجدون ما يسري عنهم، فينصرف بهدوء حتى لا يفسد عليهم بهجتهم، هكذا تكلمت القصيدة عن حال الأب حاكم الحصن مع مواليه وأجرائه، لكن هذا لم يشفع لهم من المصير الذي ساقه إليهم القدر بسبب سوء تصرف الابن الطائش المدلل الذي بمجرد أن أصيب والده بالفالج وأقعد، انفرد بحكم الحصن، وخالف وصايا والده المسالم الذي عجز عن النهوض من فراشه لردعه عن تصرفاته الطائشة، وبقي متفرجاً على ما يجري بغيظ مكتوم، أما ابنه "الحُمدي" فقد حرم الموالي والأجراء من متعهم الصغيرة، وراح يبتاع الخيول والسلاح من صهره الحداد في موزع، ويقود جيشه الصغير في حملات متكررة إلى مشارف المناطق المجاورة، وهناك يدربهم على القتال في ميادين فسيحة، وحين يروحون ويغدون يصيحون بصوت موحد: "نحن أبطال الجميمة وأسود الحروب... نجرع العدو الهزيمة ونذيقه الخطوب".. وصار على أهالي القرى في الشق الحوالي اليعفري أن يدفعوا مالاً للحُمدي، بحجة أنه يقوم بحمايتهم من كتائب النجاحيين المباغتة التي يبعثها الأتابك شقران من موقعه في القفر الأسفل، والذي يحاول بشكل دائم إخضاع من يسميهم المتمردين "البيض" في القفر الأعلى، ولأجل ذلك كان الحُمدي يراقب مواليه المخلصين، وينظر إلى كل ذي بشرة سوداء بأنه شخص خبيث وغادر، ولكنه كان مجبراً على استخدامهم في حروبه ضد أبناء جلدتهم، ولا يكف عن تدريبهم على القتال حتى صنع منهم وحوشاً، ولم يتمكن شقران من احتلال القفر الأعلى بسبب التحالف القديم، ومساندة الأهالي في الشقين الحوالي اليعفري والنجاحي لحملات المقاومة والتصدي التي يتصدرها حاكم حصن مريخ القاسي.
كان صهير الحُمْدي (زوج أخته) في الشق النجاحي يدعى حسن الحداد وهو مالك ثري، يقيم في قرية موزع، ويملك عدداً كبيراً من الموالي يمتهنون صنع السيوف والرماح والأدوات الزراعية كالمعاول والفؤوس والمحاريث في مشاغل خاصة، ويسوسون مئات من الخيول العربية والبغال، ويقومون بعرضها والسلاح على المنتفعين والمتسوقين الذين يرتادون سوق السبت الذي يُقام مطلع كل أسبوع في موزع، وفي كل سبت يأتي الناس من القرى للتسوق، حتى سكان القرى القاطنين حول حصن مريخ يجتازون بحميرهم وبغالهم الحدود بسلام، ويتسوقون، ثم يعودون آخر النهار محملين بالبضائع، كان يتعذر عليهم فعل ذلك قبل أن يتفق الجيران على تبادل المنافع، واليوم ما فتئوا يأتون للتسوق أو حتى يعرضون بضائعهم، لكنهم باتوا حذرين مترقبين يشعرون بالقلق بسبب الشائعات وحملات الحُمْدي على مشارف الحدود، ومواجهاته مع كتائب شقران، بل هناك إشارات كثيرة واضحة وغامضة تنذر بالمهالك، وقد لاحظوا أن "الحُمْدي" يبتاع خيولاً وأسلحة بواسطة سماسرة بيع يتقاضون مالاً، ويأخذونها باتجاه الحصن، وحين لفتوا انتباه صهره حسن الحداد لم يكترث، لأنه تاجر غبي لا يهتم سوى بكسب المال، ولا يعنيه أن تعود تلك الأسلحة التي يصنعها لتسكن في أجسادهم، بل يظنون أنه يحابي صهره العنيف ويزوده بالسلاح.
كان حسن الحداد رجلاً متغطرساً ضخماً ذا وجه قاتم وعضلات صلبه تشكلت خلال عمله في طرق الحديد وصهره، اقترن بشقيقة "الحُمدي" عقب التحالف الذي دعا إليه صاحب الحصن زيد بن هادي، وما لا يعرفه أهالي موزع هو أن الأتابك النجاحي شقران يمارس ضغطاً شديداً على صاحبهم الحداد، والبارحة وصلت إليه رسالة حامية من الأتابك فيها تحذير شديد، وبات في حيرة من أمره، ومازال يقدم الوعود ويماطل، ويرد عليه في رسائله السرية إنه يمقت الحُمدي ويشعر بخطره، وبوسعه أن ينفصل عن امرأته بيسر، لكن هذا لن يؤثر شيئاً على التحالف، وهي للأسف امرأة هادئة رقيقة لا تفعل شيئاً يدعوه إلى ضربها أو شتمها، ورغم ذلك يتذرع بأي شيء ويوجه لها الشتائم، ويسب أهلها، لكنها ذكية تمتص غضبه بسهولة، ويبدو أنها مثل والدها حريصة على استمرار التحالف، ولا تريد أن يحدث شيء يؤدي إلى تقويضه، ومازال يفكر أن يقوم بشيء ما يدع الحُمْدي يفقد صوابه، لأنه غبي جداً رغم جبروته وغطرسته.
ذات سبت كان حسن الحداد قرب داره يستعد للخروج إلى السوق، حين قابل جماعة طلبوا منه أن يزودهم بشحنة صغيرة من السلاح المصنوع في مشغله، بدا مغموماً وغاضباً للغاية، لأنه البارحة تلقى رسالة قاسية من الأتابك شقران يهدده فيها بإرسال حملة قوية لتأديبه ونهب ممتلكاته وقتله بأحد سيوفه التي يصنعها، وطلب منه أن ينفذ المطلوب منه أو يسام بأشد العذاب..
وهذا السبت خرج مغتماً، وأغلظ الرد للزبائن على غير عادته، وسألهم إن كانوا من طرف أصحاب حصن مريخ، فأقسموا أنهم من بني عمر، ولا يعرفون هذا الشخص الذي يتحدث عنه، ومكث يسألهم بضعة أسئلة، حتى اطمئن إليهم، ثم أشار لهم أن ينتظروا قرب الباب، وصاح على الخادمة أن تجلب له الريشة والمحبرة من مجلسه، ولكن الخادمة كانت منشغلة بشيء ما، واضطرت امرأته الفاتنة "رقية" أن تقوم بالمهمة، وهي تجهل أن يكون هناك غرباء ينتظرون، وظهرت بكامل زينتها وفتنتها، ثم تراجعت للخلف مطلقة آهة أسف وخوف، واختبأت خلف خشب الباب، ومدت ذراعها بجراب يحوي أدوات الكتابة، ولسوء الحظ انحسر كُمّها وانكشف معصمها الأبيض المنقوش بالحناء.. وفغر أولئك الرجال أفواههم بدهشة، وانتفض عرق الغضب في أنف حسن الحداد، وفقد صوابه، وتصرف على نحو غريزي، وسل سيفه الحاد، وفصل معصم امرأته بضربة قوية، فسقطت مغشي عليها على عتبة الدار، وصرخ أولئك الرجال وحاولوا أن يفعلوا شيئاً لإنقاذها، لكن الحداد الغاضب وقف في وجوههم بسيفه المسلول، صارخاً بتحدٍ:
"إن يقترب أحدٌ من امرأتي، سأفصل رأسه عن جسده"
وصاح أولئك الرجال في السوق مستغيثين، وهرع المتسوقون واحتشدوا قرب الدار، وأتت امرأتان من الجوار، وحاولن الوصول إليها، لكن الحداد الغاضب شهر سيفه في الهواء، فلذن بالفرار، وشرع المحتشدون يفقدون صبرهم، ويقتربون منه، فصرخ بصوت عالٍ طالباً الدعم، فأقبل عشرات العمال والموالي من المصانع القريبة، واصطفوا إلى جانبه متحفزين شاهرين سيوفهم، فتراجع المتسوقون والباعة، وأخذوا يجربون أسلوب اللين دون جدوى، وارتفع صوت رجل كبير السن من موزع يحذره من ردة فعل سكان حصن مريخ، لاسيما "الحُمدي"، وأشار باتجاه الشق الحوالي اليعفري وكأنه ينذره بعواقب فعله، فأومأ "حسن الحداد" إلى بين فخذيه باستخفاف، وشمّر ذراعه بتباهٍ مظهراً صلابة ساعده، ثم أدار عينيه ناحية الوديان التي يملكها والقرى التي تحيط بموزع، وكأنه يوحي أن غالبية سكانها أجراء في أرضه، وأن بمقدوره أن يجلبهم بإشارة من يده، لم يقل ذلك، لكن رسالته بدت واضحة في عينيه الواثقتين المتحديتين، فاخرس الرجل المسن وانسحب متجهماً.
كان في السوق فتى مشاكس من إحدى قرى الحصن، انفصل عن والده، واندس بين المتفرجين وبقي كامناً كثعلب ماكر، وبمجرد أن غادر الحداد ومواليه ركض باتجاه الباب، وخطف الذراع المقطوع، وانطلق بسرعة ظبي جبلي هارباً باتجاه الجبل، وطارده رجال موزع وكلابهم، لكنهم لم يدركوه، وظل يجري كشيطان حتى وصل إلى الحصن، وفي جسده ثلاثة أذرع، إحداها قصيرة مبتورة منقوشة بالحناء كما تشرح القصيدة، ما لبث أن رماها أمام "الحُمدي" قائلاً بصوت متقطع باللهاث:
"ذراع.. أختك، قطعها.. الحداد صاحب موزع"
فاستقام شاربا الحُمدي، واحمرت عيناه، ونهض ممسكاً سيفه، فلاذ الفتى بالفرار، وأفلت منه كما أفلت من أهالي موزع، وإثر ذلك عوت نساء الحصن ناعية رقية، وسقطت أمها في غيبوبة، وأقسم الحُمدي ألا يأكل أو يشرب حتى يقطع أطراف أهالي موزع، وطلب أن يدقوا الطبول أعلى الحصن، وأنذر هذا أهالي موزع وما حولها أن ينزحوا بعيداً لاسيما النساء والأطفال، وتحدث الشاعر في قصيدته أن قطاراً طويلاً من الأهالي والحيوانات امتد على الأرض بعد ساعة من قرع الطبول، وأن صدى نحيب نساء موزع تردد في الجبال قبل الزحف، وأن سكان تلك القرى كانوا مرعوبين خائفين على عكس الحداد ومواليه المتغطرسين الذين ركنوا على سيوفهم ومساندة الأتابك شقران.
وطلب زيد بن هادي من ولده أن يتريث حتى يفكر في حيلة للإمساك بالحداد دون أن تسيل قطرة دم، ومن ثم يستمر التحالف ساري المفعول بين الجيران، وأفصح له أن ما جرى يراد منه القضاء على تحالفهم، لكن ابنه لا يفهم لغة أخرى غير العنف، ولم يطق صبراً، فهجم ورجاله على موزع وقراها في منتصف النهار وأحرقها، ولم ينج أحد ممن وجدهم أمامه من الأهالي، وتحكي القصيدة أنه أخذهم إلى وسط السوق عرايا مكبلين بالحبال، وشهر ذراع رقيه المنقوش أمام عيني زوجها الحداد وأخذ يخاطبه بغطرسة: "انظر أيها الخبيث، ها هو الدم لم يجف من ذراع أختي بعد! أتظن نفسك أكثر قوة وقسوة مني؟" وأمر بقطع أطراف نساء وأبناء وموالي الحداد أمام عينيه، ثم أذاقه المصير ذاته وتركهم يموتون في باحة السوق، ومنع الناس من دفنهم، لكنه أخلى سبيل الأجراء والباعة والمتسوقين الذين أفصحوا أنهم فعلوا ما بوسعهم للحيلولة دون وقوع الحادث، وما لبث أن نهب ممتلكات الحداد وأمواله، واحتل ورجاله القفر الأعلى كله، ولم يجرؤ أحد على مواجهته، بيد أن اتفاق التحالف وحسن الجوار تقوض واندثر.
وعلى إثر ذلك، تقدم الأتابك شقران بخمسة آلاف مقاتل، ولكن رجال الحصن كمنوا لهم في شعاب سطاح، وهزموهم، فاستنجدوا بالأمير جيّاش في زبيد، فأقبل بعشرين ألف عبدٍ عراة الأجساد من موالي المشرق، جاءوا راكبين على خيول صهباء، بأيديهم حِرَاب حادة، ودرق وتروس نحاسية، وسيوفهم مغمدة على أحزمة جلدية تحيط بخصورهم الضامرة، ويعلقون أقواسهم وكنانات سهامهم على ظهورهم بواسطة سيور جلدية، وظهروا بذلك المستوى الخطير من التسلح والتأهب للنزال مثل أي جيش نظامي في هذا العصر يظهر بعتاد ثقيل متطور، وقد أثاروا الرعب والغبار في طريق مرورهم، ودوت أصوات طبولهم في كل الأرجاء، وشرع الناس ينزحون من طريقهم، وبلغ خبر هذا الزحف الكبير إلى مسامع الأمير محمد بن حسان الحوالي في ذمار، وهو مسئول عن حماية الحدود الشرقية، لأنه أقرب الأمراء إلى الحصن، وكان في وضعٍ مضطرب بسبب نقص قواته، لأن غالبية جيشهم مشغول بحروب شرسة قرب صنعاء، فتقدم وعشر ألف مقاتل لملاقاة النجاحيين، واستقبله "الحُمدي" قرب الحصن واستضافه، وعسكروا على حدودهم، ونزح أهالي المنطقة وابتعدوا إلى الجبال الداخلية، وبقي الرجل المقعد زيد بن هادي وحيداً في حصنه رافضاً الخروج، ووقعت حرب شرسة دامية بين البيض والسود، واتخذت المواجهات طابعاً عنصرياً بغيضاً، وفي البداية استطاع جيّاش ومواليه المتمرسون أن يسحقوا الحواليين والأهالي، واحرقوا الحصن والقرى المحيطة به، ولم يرحموا شيخاً أو طفلاً أو امرأة، وسحلوا الأسرى واغتصبوا نساء نازحات اصطادوهن في جبل السور، فأثار ذلك غيرة وحمية الأهالي، وأخذوا يقفزون على أعدائهم من فوق خيولهم، ويسقطون موتى تحت الحوافر، واضطر الأمير الحوالي أن يستنجد بأعدائه وأصدقائه في مناطق الشمال مستثيراً نخوتهم وغيرتهم على أعراض النساء البيض المنتهكة، وأخبرهم أن انتصار جيّاش والموالي سوف يغريهم على ارتقاء الجبال باتجاههم، ومن ثم يقتلوا شيوخهم وأطفالهم ويبذروا نطفهم القذرة في بطون نسائهم كما فعلوا على مشارف بلاده، وهذي فرصة لا تعوض لإيقافهم عن التطاول على أسيادهم البيض، واستلاب أسلحتهم وخيولهم المطهمة، وانسحب الأمير الحوالي باتجاه الجبال الداخلية، ساحباً جيّاش ومواليه عبر طرق وعرة خبيثة، كانت هذي خطة "الحُمدي" منذ ظهور طلائع جيش النجاحيين اللجب، لكن الأمير محمد بن حسان رفض التخلي عن أي شبر من أراضيه ليدوسها الأحباش حسب قوله، وما لبث أن غضب بشدة عندما احتدمت المواجهات، ورأى جنوده يتساقطون قتلى، وظن أن صاحب الحصن ـ الذي اعتدى على أرض النجاحيين وتسبب بقدومهم ـ يريد إنقاذ حصنه وقراه، وإهلاك جيشه بهذه الخطة الخبيثة، وأمر باعتقال الحُمدي، ثم أطلقه حين رأى أن الانسحاب إلى الجبال والهضاب صار ينهك الموالي ويستنزفهم، ومن ثم صارت خيولهم تتعثر وتتحطم قوائمها، واضطروا أن يسيروا في بيئة قاسية شديدة البرودة لم يعتادوها، كانوا يعيشون في سهل تهامة الحار، لا يرتدون شيئاً سوى أسمال تستر فروجهم ومؤخراتهم، وظل البرد يشل أبدانهم رغم ارتدائهم جلود الخرفان، وتدثرهم باللحف والجروم المدبوغة المملوكة للسكان المحليين، لكنهم عوضوا عن خسائرهم بمهارتهم في رمي النبال وقذف السهام بواسطة أقواسهم القوية، وكانوا يمطروا الحواليين بها من الخلف، وفجأة، وصلت قبائل خولان الطيال، وأقبلت قبائل مراد، وهؤلاء من أصدقاء وحلفاء اليعفريين، وحاصروا جيّاش ومواليه المرهقين في الجبال والشعاب، فهزموا وتشتتوا، ولم تساعدهم الطبيعة الغريبة القاسية بجبالها المتعرجة أن يجمعوا فلولهم، وتروي الأبيات الأخيرة من القصيدة أن جثث ألوف منهم انتشرت في الشعاب والوديان، ووصلت روائحها إلى مناطق بعيدة، وأن الناس بعدها أصابهم وباء خبيث أهلك خلق كثير وعم البلاد كلها، وطغت على الأبيات مسحة طاغية من الحزن، وتجلّت على بعض الكلمات بقع وآثار مما تتركها قطرات الماء أو المطر على الأوراق، ولكن أبي يجزم أن الشاعر كان يبكي متأثراً وهو يكتب القصيدة وأن دموعه وقعت على الأبيات الأخيرة التي يشوبها الأسى والأسف على ما فات، ويذكر في أحد الأبيات أن حصن مريخ كان صنعة بديعة المعمار شيدت خلال بضعة أعوام، ولكنه دُمِّر وأحرق في بضعة أيام بواسطة أحجار منجنيق تغلفها خرق سميكة مشتعلة قذفت على الحصن، وكل هذا حدث بسبب عمل طائش، وفي آخر بيت من القصيدة يطلب الشاعر الغفران والصفح من الله، ومثل هذا البيت نراه اليوم في نهاية القصائد الشعبية، وأصبح أمراً شائعاً. وحين كبرت دخلت قسم الآداب، ودرست طرق ومناهج تحليل المفردات الشعرية، وأخذت شهادة الماجستير عن بحث واسع في القصائد الشعبية القديمة المجهولة، واتخذت من قصيدة "الفاجعة" مادة للدراسة، وما اكتشفته أثناء التحليل كان مذهلاً، وظللت أجمع القرائن والاستدلالات اللفظية حتى استطعت القول في النهاية أنني اكتشفت شخص الشاعر الذي طلب الصفح والغفران، وأثبت أنه مؤسس هذا النمط السائد اليوم في القصائد الشعبية إذا لم يكن أول من كتبها.
لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا
لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا
- نصوص
- اخبار أدبية
- آراء وأفكار
- اليوم
- الأسبوع
- الشهر