الجمعة 20 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
درس في الكناية ..!! - طارق السكري
الساعة 12:02 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


كنت كلما أتعرض للضرب وأنا صغير كان أبي يُولِّي عني منتصراً وهو يردد : جلدك يحكَّكْ عندما كبرت ودرست البلاغة عرفت أن عبارة : جلدك يحكَّكْ ! لايقصد به المعنى الحرفي ، وإنما يقصد به التعبير عن شيء آخر ملابس له وقريب منه .
ولئن كان البلاغيون يدركون ذلك تذوّقاً خيالياً فقد ذقته ألماً مبرحاً .. عشته واقعاً يومياً . ولئن كان البلاغيون في باب الكناية منظِّرين لاغير ، فإن أبي كان من أعظم البلغاء التطبيقيين تليه بدرجة : أمي حفظهما الله ولاحرمنا منهما ثم كبار عائلتنا رحمة الله عليهم .
ولأني شاعر والشعر يجري على لساني فقد خامرتني هذه العبارة الكنائيّة . حمدت الله على نعمة البلاغة! صحيح أننا ضعاف أمام العرب الفصحاء القدامى لكن رغم هذا إلا أن البلاغة تسكن طبائعنا وجوارحنا ، لا فرق بيننا وبينهم ! بل إننا قد نفوقهم بلاغة !! يتجلى ذلك في آثار العض اللامع والخدش النازف في أجسادنا الصغيرة !
لقد كان الحذف بالنعال يبلغ منّا فيصيب !
صرت اليوم مع الحجر الصّحي في البيت وضجة الأبناء أرددها بين الحين والحين : جلدك يحكّك يازبط ! حتى لا أخفيكم أني صرت أشعر بزهو عربيّ عندما أتلفظ بها!
أجل أجل ! إن فيها معنى جميلاً ! فالمعنى الحرفي لها أن الجلد عندما تتراكم عليه الأوساخ يبدأ بالقرص الذي لايهدأ إلا بالحكّ ، والمعنى المجازي لها أنه كلما انحرف سلوكك عن الجادّة واتسخ بفعل الأعمال الشيطانية وجد من يعيد له رونقه وصفاءه وبهاءه عن طريق الضرب أو الرفس أو القفز البهلواني !
هل تعلمون ؟!
حتى كلمة رمضان فيها معنىً كنائيّ !
كيف ؟
رمضان مشتق من كلمة الرّمضاء والرمضاء هي الأرض الشديدة الحرارة بفعل الشمس.
ولكن ما علاقة معناها الحرفي بالمعنى العبادي ؟
شهر رمضان الكريم شهر الصبر والصبر حبس النفس وحبس النفس فيه مشقة وعذاب .
إنك عندما تستيقظ في نهار رمضان وتسمع أصوات معدتك تصرخ :
لا للجوع
الموت للحرمان !
ثم تشرع في أعمالك ويأخذك الجهد والحر شديد والرطوبة قاتلة ، فتشعر بجفاف حلقك ، والثلاجة عند مرمى رأسك وخيالك الأبليسي يصور لك برودة الماء ولمعان الثلج ويدفعك فتسري البرودة من يديك إلى أعصابك ، وأنت تتملّى ، وتبدأ عيناك تأخذ شكل عيني "توم" وهو يخطط للانقضاض على "جيري" غير أنك تستعيذ بالله فتمتنع احتسابا لما أعده الله لك من جوائز عظيمة . الأمر بلا شك يكون فيه مشقة .
هل سمعتم بالحديقة الرَّمضانيّة ؟
أوووه ! ياااااااه ! إيييييييهْ !
كانت الحديقة الرمضانية هذه فاكهة المجالس وعروسة الأسمار وقوافل الورود وأسواق عكاظ واستراحة الشواطئ !
كانت من مميزات رمضان القرية .
كانت الحديقة الرّمضانية آية من آيات الإبداع في الكلمة الجميلة والعبارة المسجوعة من حكم بلغية وأمثال سائرة ومواقف أدبية مضحكة واستعراضاً للأصوات الإنشادية وفقرة من فقرات إلقاء الشعر واستراحة قصيرة مع موعظة كانت حديقة متنوعة .
الحديقة الرمضانية لم تكن واحة في الصحراء أو مشتلاً من مشاتل النخيل أو نزهة إلى جبل صبر لا لا وإنما كانت عبارة عن مهرجان ثقافي منوع خاص بشهر رمضان فقط يحضره الناس بكافة انتماءاتهم الفكرية والحزبية . وتستدعى في أحيان كثيرة مكبرات الصوت . يروّج له في كل قرية . يبدأ الناس بعد صلاة التراويح بالتقاطر من القرى والتجمع والزحف إلى الديوان المحدد مسبقاً . وهناك على عتبات الديوان تتصافح القلوب وتتنضّر الوجوه بالأتاريك الكبيرة والفوانيس البرّاقة ، ويأخذ الناس أماكنهم ثم بعد قيل وقال وهرج ومرج تبدأ الحديقة بنشر أكمامها العطرة . كان يلقي هذه الحديقة الرمضانية اثنان لأنها طويلة ومنوعة تستغرق ساعة وأكثر .
كنت أنا وفواز أشبه بسحرة فرعون ! طبعا كان فواز القائد . كنا نتعب في الإعداد تعباً كبيرا لا سيما ونحن بلا مراجع ولا مكتبة ثقافية نستمد منها . هل تعرفون التقاويم للسنوات الهجرية تلك التي التقاويم التي توضع على جدران المساجد ؟! بالضبط . كانت غنية بالحكم والأمثال والأشعار . كنا نأخذ قصاصات الأوراق الصغيرة تلك فنركب لها منقاراً وأجنحة وننفخ فيها روح الجنون ، نحمل المخزنين بأدائنا الساحر وتنويعنا في الصوت ونطير بهم !
أحلف بالله العظيم أنه كانت تمر الساعة والناس لايصدقون أنها مرت ساعة !
ونحن نرى الفرحة غامرة في وجوه الناس كنا نفرح وننسى كل التعب .
انتشرت حديقة فواز وطارق في آفاق القرى . طبعاً نحن أخذنا الفكرة من برنامج إذاعي كان يلقى من إذاعة صنعاء – أيام كانت موضة الروادي – كان هناك برنامج رائع اسمه : "أوراق ملوّنة" يلقيه مذيع ومذيعة كان المذيع عقيل الصريمي ولا أذكر اسم المذيعة الآن . نسيت أو ربما ذاكرتي تتحسس من أسماء النساء !!!
مرة حاول شابّان أن يقلداننا في إلقاء حديقة !
لكن .. !!
يبدو أنه لم يكن هناك انسجام بينهما .. ليس في الكلمات .. بل لم يكن هناك انسجام روحي ! إن الأرواح المسكونة بالفن إذا ائتلفت أخذت بالعقول والألباب . كذلك كنت أنا وابن خالتي فواز .
علق أخي الكبير عبدالرحمن حفظه الله على حديقة ذينك الشابّين فقال :
في الحقيقة أنني عندما أستمع لحديقة فواز وأخي طارق أشعر بجو الحديقة .. جداول ماء تتراقص .. فراشات زاهية الألوان تطير .. أغصان يتمايل بها النسيم .
لكن عندما أسمع حديقة فلان وفلان أشعر أني بُقري مربوط عرض شجرة !!!
أيها الأحباب كنا وإياكم في درس حول الكناية !

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً