السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
عودة الوادي - علوان مهدي الجيلاني
الساعة 17:28 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

 

عند منتصف الليل ثمل أنفه برائحة رائعة مسكرة...!!
كان يستلقي على قعادته في قَبَل البيت الكبير .. القبل الذي يواجه مربعة أمه..، أغسطس يطوي بساطه، بعدما أثلج صدورهم بغيوثٍ لم تسكت غبار سهيل وحسب.. ولكنها أحيت فيهم ذكريات عهودٍ مضت.
نظر إلى السماء مستخبراً..!
ثمة رداء حريري شفاف.. يغطي جسد السماء الفاتن، أما القمر فيظهر تارة ويكاد أخرى.. تحيط به هالة تثير الخيال...
يا إلهي ما أطيب هذه الرائحة.. كأنها تنسرب في ذات الوقت من عروقي..!
جلس ملتذاً بحذر .. اجتاحت صدره العاري موجات متتابعات من هواء بارد مثقل بالرطوبة.. رفع رأسه مرة أخرى.. فلفت انتباهه أن غلالة السحاب البيضاء تحث مسرعة في اتجاه الغرب..
تبدو النجوم من ورائها عيوناً تغمز.. باستهتار ودلال..!
قبل أن يستفحل عجبه.. جاءه صوت أمه القادم من داخل السقيفة.. متلفعاً بحشرجة النوم:
- هذا المنهل.. ورائحته سبب استيقاظك..!؟
-ما ألذّه يا أمي .. وما أغرب أن يجيء دون سحاب ومطر..،
-إنها ارهاصات السيل يا ولدي .. إنه الوادي..
قبل ساعتين كان شاري البرق يلهب رؤوس الجبال... وسوف يقبل السيل بعد قليل...!
ظفر بالسر الكامن وراء تلك الأصداء التي رنت في أحاسيسه ... لتلك الرائحة..!
بين الشك واليقين ذهبت به المشاعر وجاءت.. قال كمن يطمع في اطمئنان أوسع:
الوادي...؟ ... وما أدراك...؟
كل هذه السنين ..؟ ثم يعود ...؟
والفنايا ((السدود الترابية)) التي تحول بيننا وبينه...!
ردت عليه وهي تعتصم بذرى تجربتها ويقينها:
-إنك يا ولدي تشم وتشعر... إنه الوادي وهذه رائحته تخدر مفاصلنا.. وريحه الباردة .. هل سمعت بريح باردة في سهيل...!؟
قطع مسافات مذهلة إلى طفولته .. ولكن صوتها قاطعه..
أرهف سمعك.. أو انتظر .. فعما قليل يزعزع سكون الليل..
تذكر أنهم يقولون إن (دفعة السيفاني) جاء سيل الوادي (تباب) كأنه الجبال تتحدر من جبال ملحان والظاهر ومنابر في غرب المحويت .. طم السيل قُرانا وأدديرتنا بعد مطرٍ دام ساعتين أطبق فيها ظلام عجيب حتى أن الناس أشعلت الفوانيس ولم تنجل الظلمة ويكف المطر إلاّ وقد فاض الوادي فدهم قريتنا الجيلانية... كما دهم غيرها من القرى الواقعة على حوافّه وكيوده.. فقد الناس بعض أقاربهم وكثيراً من ممتلكاتهم، وذهب السيل بــ(سود سيفاني) أحد رجال قريتنا.. حتى صار الناس يؤرخون بدفعة الوادي ذلك العام فيقولون.. حدث سنة دفعة (امسيفاني) أو قبل دفعة (امسيفاني) أو بعد دفعة (امسيفاني).
***
ملأ صدره في انشراح من ذلك الهواء البارد .. صعَّد نظرة شاكرة إلى السماء.. جوقة الضفادع أبواق بين يدي موكب مهيب.. أسدل جفنيه متأملاً.. وسرعان ما قفز إلى الأرض.. قلب المخدة .. أخذ .. (فانلته) وراح يلبس..!
كان صغيراً جداً أيام (دفعة السيفاني) ذاكرته لا تكاد تحتفظ بمشهد متكامل من أيام الخير الغابرة..!
أراك تلبس...؟
سأخرج يا أمي إلى الوادي...
هل جننت..؟
طال الجدب ونسيت أمي أن نزول السيل كان مهرجان فرح وبهجة يشهده كل أهل القرية...!
فورة المراح الصاخبة تقطع عليه التماهي في تنهيدته..!
هاهي ذكريات الطفولة تستيقظ في نفسه نافضة عنها غبار رياح الجدب الممقوت.
تسنَّمَ الكدمة (تلٌ صغير) ودَّ لو يرقص .. لو يطير.. احتضن بعينه بيوت القرية المستكينة تحت خيوط القمر الواهنة..!
لكم اشتهى رؤية السيل.. تخيل منظر العِوَد والفُتل والشابيط وقد أترعها الماء وتردّحت بالطمي مخارجها ومحولاتها.
وبعد أمتار من القرية كانت الأرض البراح بساطاً مونقاً.. يعبق بزهر العشرق والسنا والمونس.
قوس قزح من الألوان تأرجحه الريح الباردة.. تذكر الشاعر محمود حسن إسماعيل في أغنية النيل..
"واغصن تلك أم صبايا

شربن من خمرة الأصيل"

هُيئَ له أن جسد الأرض يتشقق مرتعشاً كعروس ليلة عرسها...
كان يقف على حافة الوادي يحاول أن يدرك لماذا كفت الريح الباردة عن هبوبها.. ولكن .. قطع استطراده صوتٌ ملأ عليه الآفاق.. وحين صوَّب نظره جهة الشرق.. خيل إليه أن سحابة كبيرة بيضاء تزحف على الأرض.. تراجع مندهشاً.. فكر أن يفر فأبت نفسه.. وأمام عينيه الذاهلتين.. كان السيل يقتحم المجرى ويتقافز على كيوده (حوافه) قبل أن يطبق عاتباً مطوحاً بأشجار السلم والسدر.. مسيجاً مجراه بزبدٍ يمجه هنا وهناك...!
لا يدري كم من الزمن انقضى على إمعانه في عجب المشهد المتهادر.. وحين استيقظ من ذهوله.. تقدم حذراً.. مد يديه في ابتهاج طفولي.. غمسها في الماء ثم رفعهما.. ممتلئتين ردحاً (طمياً) وزبداً .. ملأ أنفه من تلك الرائحة...! غاب في عبيرها.. وعبقها لم ينتزعه هذه المرة من غيابه إلا ذلك اللغط الكثير يأتيه من الخلف مصحوباً بنباح كلاب .. التفتَ إلى الوراء ..
اللـ..ااااااااااااااااااااااااااه
انفلتت من بين شفتيه
لقد خرجت القرية بفوانيسها ورجالها ونسائها وأطفالها
بينما كان جذلاً يحدق في موجتهم السادرة باتجاهه لعلعت (غُطريفة) لخصت فرحة الجميع.

 

كتبتها عام 1988م

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً