الجمعة 20 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين - أ.د. مسعود عمشوش
الساعة 10:12 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

منذ أقدم العصور ظلت عدن قطبًا مغناطيسيًا يجذب الناس من شتى الأصقاع ومن مختلف الأجناس، وذلك بسبب موقعها المهم في طريق التجارة بين الشرق والغرب. ولا شك أنّ انتعاش حركة الملاحة في البحر الأحمر من جديد بعد اكتشاف السفن البخارية في مطلع القرن التاسع عشر، وإعلان عدن ميناءً حرًا سنة 1850، وافتتاح قناة السويس سنة 1869، قد زاد من أهمية ميناء عدن وجعل المدينة تستقطب أعدادًا أكبر من الناس القادمين من مختلف بقاع العالم.
ومنذ بداية عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، شرع الفرنسيون، مثل غيرهم من الأوروبيين، في السفر داخل القارة الأوروبية وخارجها، وقد اتجه جزءٌ منهم غرباً صوب الأمريكتين، وفضّل بعضهم الإبحار في اتجاه الشرق، لاسيما إلى البلدان التي تطل على السواحل الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط، ومنهم من واصل السفر في اتجاه الشرق الأقصى، ومن بين هؤلاء من توقـّـف في عــدن.
فعــدن، التي جاء ذكرها في الإنجيل، تحظى بمكانة خاصة في مخيلة الفرنسيين. ولا شك أنّ احتدام الصراع الاستعماري بين فرنسا وبريطانيا في مطلع القرن التاسع عشر قد أكسب عدن أهمية أكبر؛ حتى أن الرحالة الفرنسي لويس سيمونان أطلق عليها: "جبل طارق البحر الأحمر". كما أنّ عدن، بعد أن احتلها البريطانيون سنة 1839، صارت بالنسبة للرحالة والمستكشفين والمبشرين الفرنسيين نقطة انطلاق نحو الجزء الشرقي من القارة الأفريقية.
ونحن نميل إلى الاعتقاد أن الرحالة الفرنسيين، سواء كانوا مستكشفين أو كتاباً أو دبلوماسيين أو تجاراً أو باحثين أو مغامرين أو صحفيين أو سيّاحاً، هم أكثر من كتبوا عن عدن. فمنهم من وصفها في رسائله أو مذكراته، ومنهم من كرّس لها دراسة أو كتاباً كاملاً. فبدءاً بكلود موريسو وسامسون في القرن السابع عشر، ومروراً بآرثر دي غوبينو، والشاعر آرثر رامبو وبول نيزان، مؤلف "عدن العربية"، وحتى إريك مرسيه مؤلف "عدن: مسار مقطوع" 1997، وجوزيه ماري- بل صاحب "عدن الميناء الأسطوري لليمن" 1998، ما زالت عدن تحظى باهتمام كبير من الرحالة الفرنسيين.
في هذه الدراسة، بالإضافة إلى تقديم موجز لصورة عــدن في كتابات عدد من الرحالة الفرنسيين سنحاول أن نبرز مختلف الأبعاد التوثيقية العلمية، والجمالية الخيالية، والاستعمارية والأيديولوجية التي يستند إليها خطاب الرحالة الفرنسيين عن عدن وسيتم التركيز على كتابات كل من عالم الأجناس آرثر دي غوبينو والشاعر آرثر رامبو وبول نيزان.

أولا- جوزيف آرثر دي غوبينو والطابع الكوسموبوليتي لعدن:
من أشهر الرحالة الفرنسيين الذين زاروا عدن خلال القرن التاسع عشر الأديب الدبلوماسي الكونت جوزيف آرثر دي غوبينو (1816-1882)، الذي كرسنا دراسة كاملة لكتابه (ثلاث سنوات في آسيا Trois ans en Asie). وبعد أن قمنا بإزاحة النقاب قليلا عن شخصيته، لاسيما عن أفكاره العنصرية والاستعمارية والعوامل التي دفعته لزيارة جدة وعدن ومسقط والحديث عنها، وأهم ملامح كتابه (ثلاث سنوات في آسيا)، لاحظنا أن عالم الأجناس دي جوبينو، بعكس كثير من الرحالة الغربيين، لم يتناول مختلف جوانب الحياة في عدن، بل ركز على تقديم الأجناس البشرية التي تعيش فيها، ورصد طبيعة نشاطها التجاري والاقتصادي، ورأى أن السكان المحليين هم المستفيدون منه. كما تناول ظاهرة علاقات التمايز وعلاقات التعاون وعلاقات التصارع بين مختلف الأجناس البشرية الممثلة في عدن. وتتضمن كتابات دي غوبينو رصدا لبعض المكونات الرومانتيكية الجمالية، والأبعاد المعرفية.
وقد بدا أنّ الطابع الكوسموبوليتي لعدن، الذي يتجسّد في تعدد الأجناس البشرية التي تعيش فيها هو أول عامل جذب انتباه الرحالة دي غوبينو في عدن. وفي الحقيقة، منذ أربعينات القرن التاسع عشر؛ فسبب سياسة الضابط البريطاني هينس اكتسبت عدن بعض سمات المدينة الهندية التي تميّزها عن بقية المدن في الجزيرة العربية. وقد أسهب عالم الاجتماع آرثر دي غوبينو في تقديم مختلف فئات الهنود في عدن من منطلقات أثنولوجية، فهو يقول: "لقد كنّا نعتقد أننا في الجزيرة العربية، لكن كم كانت دهشتنا كبيرة! فعند دخولنا أحد الشوارع وجدنا أنفسنا وسط الهند". وفي 5 مايو 1855، بعث آرثر دي غوبينو برسالة لأخته كتب فيها: "في عدن شــاهدنا مدينة هندية فوق أراضٍ عـربية، وســط الصخور".
ومن الواضح أيضا أن الصورة التي رسمها دي غوبينو لعدن قد تأثرت كثيرا برغبته في توظيف نصه للبرهنة على صحة ما ذهب إليه من أطروحات (نظرية وفكرية) حول تفاوت الأجناس البشرية. وهي أطروحات عنصرية في المقام الأول، وبعيدة عن الدقة والموضوعية العلمية، ولا تستند في الغالب إلا إلى المنطلقات الاستعمارية والعنصرية للمؤلف.

ومن المؤكد أن كثيرا من سكان عدن كانوا، في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، لا يستخدمون اللغة العربية، وكان تعدّد اللغات فيها من أهم الأمور التي تشد انتباه الرحالة الفرنسيين؛ فآرثر دي غوبينو وبول نيزان يشبّهان عدن ببرج بابل لكثرة اللغات والعملات المستخدمة فيها. وكذلك ألفرد بارديه الذي يكتب: "في هذا السوق اختلطت حشود من مختلف الأجناس القادمة من جنوب آسيا وشرق أفريقيا. آلاف من الناس تأتي إلى عدن بحثًا عن المأكل والملبس. وفي وسط تلك الحشود من الهنود والعرب والصوماليين والزنوج يبيع السماسرة بالات القطن بالمزاد العلني، ويبذلون قصارى جهدهم ليعلنوا عن الأسعار بمختلف لغات الحاضرين. إنّه برج بابل. بالنسبة للروبية الهندية يصيح السماسرة: ثالاري، ثالاري، دولار أو ريال. والثالر هو العملة الوحيدة التي تستخدم في شرق أفريقيا".
وفي الحقيقة، أصبحت طبيعة عدن الكوسموبوليتية في كتابات الرحالة الفرنسيين أحد أهم المعالم السياحية في المدينة؛ فالخليط البشري الملوّن يشكل منظرًا فريدًا يميّز عدن من بقية المدن العربية التي سبق أن زارها هؤلاء الرحالة. فلويس سيمونان، مثلاً، يعبّر عن إعجابه بالمزيج البشري في عدن قائلاً: "المنظر الذي كنت أتمتع بمشاهدته في طريقي إلى كريتر، لم يكن الشيء الوحيد اللافت للانتباه. فعلى يميني تكوّمت مجموعة من الأكواخ المصنوعة من القش. إنها قرية صغيرة بشوارعها وميادينها. توقفت لحظة لأشاهد العرب والزنوج وهم يحضّرون معدات الصيد، بينما وقفت النساء عند مداخل الأكواخ البائسة وهنّ يصنعن سجادًا وسلالاً من خوص النخل. كما يجذب انتباه المسافر عدد من الصوماليين، الذين يسيرون مع مجموعة من الهنود المسلمين، ثمّ وهم يتوضؤون غير آبهين بالمارة. وعلى النقيض منهم تضع النساء العربيات اللاتي يمشين في الشارع الخمار فوق وجوههن. من العجيب حقًا أن يستطيع المرء استعراض هذه الأجناس كلها في بقعة ضيقة للغاية، وأن تحتفظ كل مجموعة بشرية بسماتها وعاداتها المميزة".
ويبرز الطابع الكوسموبوليتي لمدينة عدن، الذي يتجسّد في تعدد الأجناس البشرية التي تعيش فيها في نص قصير كتبه الصحفي الرحالة فيليب سوبو عن "عدن القطب المغناطيسي"، وعبر فيه عن دهشته إزاء المزيج البشري الذي شاهده عند وصوله إلى عدن سنة 1950، وذلك من خلال تقديم منظر "بانورامي" تبرز فيه الملابس كعنصرٍ مميّز للأجناس، إذ يكتب: "في الشارع حشود ملونة من البشر تمشي الهوينى: عرب بعمائمهم، هنود بكوافيهم الصوفية السوداء، يهود بطرابيشهم الحمراء، صوماليون بلون الأبنوس وقد بدوا في مآزرهم المخططة الفاقعة الألوان وعصيهم الطويلة في غاية الأناقة، ويمنيون وقد غطى وجوههم غبار الفحم، وبعض الإنجليز الذين يشبهون، في سراويلهم (الكاكية) القصيرة، صبية عمالقة".
وفي اعتقادنا لا تخلو الطريقة التي صور بها الرحالة الفرنسيون عدن مدينةً كونية متعددة الأعراق من بعض السلبيات التي لم يحجبها تماماً المستوى الجمالي الرفيع للنصوص والقيمة العلمية التي يزعم الخطاب الاستشراقي امتلاكها. فاهتمام الرحالة الفرنسيين بالمزيج البشري في عدن لم يقترن باهتمام مماثل بالسكان المحليين من العرب. لذلك التقت محاولات الإنجليز لتهميش العرب أو إبعادهم من عدن مع إهمال نسبي لهم في كتابات الرحالة الفرنسيين. وتؤكد هذه الظاهرة قول بيير برونِل، أستاذ الأدب المقارن، الذي يرى أنّ الأجانب المقيمين في بلدٍ ما هم دائما الوسطاء المثاليون للرحّالة.

ثانيا- صورتان لعدن في كتابات بول نيزان
من العلوم أن الأديب الروائي الفرنسي بول نيزان، مؤلف كتاب (عدن العربية)، قد جاء إلى عدن سنة 1926 ليعمل لدى التاجر الفرنسي أنتونين بس. وقد كان حينها طالب فلسفة. وتتسم كتاباته بصبغة هجائية وسياسية، ويقع كتابه (عدن العربية) في إطار أدب الرحلات.
وخلال إقامته في عدن بين عامي 1926 و1927، انبهر نيزان ببحر عدن وجبالها وبلحج الخضراء، فرسم لعدن صورة جميلة في الرسائل التي بعثها إلى صديقته هنريت ألفن. في هذه الرسائل تبرز عدن كالفردوس المفقود وقد تمّ العثور عليه مرة أخرى. لكن، عندما نقرأ كتاب (عدن العربية، 1929)، نفاجأ بالصورة القاتمة التي رسمها نيزان لمدينة عدن، التي رأى فيها لنا تجسيدا حياً للاستغلال الرأسمالي، ومثالا للبؤس الإنساني الذي يفرزه الاستعمار والرأسمالية في مختلف أرجاء المعمورة؛ وفي نظره عدن العربية ليست إلا صورة مكثفة لأوروبا.
ومن خلال مقارنة رسائل نيزان، المنشورة وغير المنشورة، ونص "عدن العربية"، يمكننا تفسير التناقضات الموجودة بين الصورتين اللتين رسمهما نيزان لعدن في رسائله التي يحاول فيها إقناع صديقته هنريت ألف باللحاق به في عدن، وفي الكتاب السياسي الهجائي الموجه لنقد الاستعمار.

ثالثا- رامبو وفصل في جحيم عدن:
أما الشاعر ارثر رامبو، الذي وصل إلى عدن سنة 1880 للعمل في شركة باردي، فهو لم يتحدث عن موقع عدن إلاّ في رسائله التي يعبّر فيها عن نيته مغادرة عدن والبحث عن عمل في مكان آخر. لهذا نعتقد أنّه من الطبيعي أن يأتي معظم أحكام رامبو على موقع عدن مبالغة في السلبية، إذ أنّ الدافع الحقيقي لإصدارها هو تبرير المغادرة. ففي الرسالة الأولى التي يبعثها رامبو لأهله من عدن ليخبرهم عن حصوله على عمل، لم يتحدث أبدًا عن المكان الذي وصل إليه. وفي رسالته الثانية التي حررها في 25 أغسطس 1880، يتحدث أولاً عن ضآلة الأجر وغلاء المعيشة، وعن عزمه على السفر. وبعد ذلك يقدم عدن، قائلاً: "عدن صخرة قبيحة، لا يوجد فيا عود أخضر واحد، ولا قطرة ماء صالحة للشرب، إننا نشرب ماء البحر المقطر". ويستخدم رامبو المفردات نفسها في الرسالة التي بعثها إلى أهله في 16 نوفمبر 1882، حيث يقول: "عندما أرحل مرة أخرى إلى أفريقيا بمعدات التصوير، سأبعث لكم بأشياء مهمة، هنا في عدن، لا يمكن أن نجد حتى ورقة خضراء (إلا إذا جلبت). في هذا المكان، لا ينبغي أن نقيم إلا إذا دعت الضرورة".
أما أطول وصف لموقع عدن، فنجده في الرسالة التي يبعثها إلى أهله في 28سبتمبر 1885 أي بعد أن يفكر في تجارة الأسلحة. وقد كتب فيها: "لا يمكنكم أبدًا أن تتصوروا هذا المكان. لا توجد أية شجرة هنا، حتى يابسة، ولا عود قش، ولا قطرة ماء عذبة، ولا ذرّة تراب: فعدن قعر بركان ساكن ومطمور بالرمال البحرية. ولا يمكن أن نرى فيها إلا الصخور البركانية والرمال حيثُ لا يمكن أن ينمو أي نبات. حول عدن، تمتد صحراء رملية قاحلة تمامًا. لكن هنا في عدن، تمنع جدران البركان وصول الهواء إلينا. لهذا، فنحن نشتوي في قعر هذا الجحر، كما لو أننا في فرن جير. إنّ المرء ينبغي أن يكون مجبرًا على البحث عن لقمة العيش كي يقبل العمل في مثل هذا الجحيم".
وبعد مرور أربع سنوات من وصوله إلى عدن، تأثر "عبده رامبو" أيضًا بالطريقة التي يفكر بها سكان هذه المدينة، وهم في الغالب مسلمون. ويبدو أنّ ذلك قد ساعده على تحمل الحياة القاسية على سواحل البحر الأحمر. فهو، في الرسالة التي يبعثها لأهله من عدن في 10 سبتمبر 1884، يكتب: "على كل حال، كما ستعتقدون مثلي، على ما أظن، بما أنني أكسب عيشي هنا، وبما أنّ كل إنسان عبد لهذا القضاء والقدر [ FATALITE] البائس، فالأمر سيان أن أعيش في عدن أو في أي مكان آخر، بل من الأفضل في عدن من أي مكان آخر لا يعرفني فيه أحد أو حيث نسوني تمامًا. فطالما أنني سأجد خبزي هنا، ألا ينبغي عليّ أن أبقى هنا؟ ألا ينبغي أن أبقى هنا حتى أكسب ما يجعلني أعيش بهدوء؟ لكن من المؤكد أنّه لن يكون أبدًا عندي المال اللازم لتلك الحياة الهادئة. أشعر إنني لن أعيش في هدوء، ولن أموت في هدوء. هذا مكتوب ‍‍‍‍‍‍‍‍! كما يقول المسلمون. إنّها الحياة، وهي ليست سهلة".

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً