الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
في رواية "قدري فراشة" شعرية النص الموازي - عبدالله أحمد حسين
الساعة 16:38 (الرأي برس - أدب وثقافة)



يسعى الروائيون للتعبير عن مواقفهم من العالم, وينطلقون من رؤى محددة لمحاورة ذلك العالم؛ أملاً منهم في إنشاء عالم مغاير, يتجسد قبل كل شيء في كلماتهم, ويتجلى في بناء أعمالهم, وما يحيطون به ذلك العالم من مصاحبات نصية.
 

وعليه فإن دخولي إلى عالم الكاتبة صفاء الهبل في روايتها الأولى "قدري فراشة" سيكون عن طريق الوقوف على بعض المصاحبات النصية, لبيان مدى قدرة تلك المصاحبات على عكس محتوى الرواية وموازاته, وستكون محطتنا الأولى عند صفحة الغلاف, وما اشتملت عليه من نصوص موازية.
وأول ما يلفت نظر المتلقي في صفحة الغلاف هو سيطرة اللون الأسود سيطرة تامة, كادت تأتي على مكونات الغلاف كالعنوان واسم الكاتبة, والتعيين الأجناسي ولوحة الغلاف.

 

ولا شك أن هذه السيطرة للون الأسود لها دلالتها التي نستشفها من مخزوننا الثقافي, الذي يربطها بعالم الحزن والستر والحجب والتغطية, رغم ما للون الأسود من جماليات تجعله يتصدر الألوان ويسمى بملك الألوان أو سيدها؛ فهو لون الحزن والقتل والوحدة والإحساس بالوحشة, يوحي بسوداوية حياة الساردة, كما يوحي بضياع آمالها وتحطم أحلامها, بعد موت والدتها.
وقد امتدت ظلال اللون الأسود إلى النص, حيث نجد أن الساردة تركز على هذا اللون وتذكره في سردها أكثر من ذكرها لغيره من الألوان, وهذا يوحي ويشير إلى الجو النفسي المسيطر على الرواية, فحين تتحدث عن جارهم الطبيب تركز على لون حقيبته السوداء(), وعندما تري شقيقتها الصغيرة القطط, فإنها تتحدث على تلك القطة السوداء(), وحين تصف والدها تركز على رموشه السوداء التي أورثها لشقيقتها(), ذات الشعر الأسود الذي يتبعثر فوق وجنتيها().

 

ولا تكتفي الساردة بتتبع اللون الأسود فيما حولها بل إنها تأخذ بتلوين كل ما حواليها به؛ فتترنَّم "بنشيد مفاتيحه خطوات ترسم بلون السواد.."(), وحين تلعب فإنها تلعب مع ظلها الأسود(), لأن والدها : "لا يسمح لنا بشيء سوى اللعب بظلي .. صديقي الأسود".()
ويمتد اللون الأسود إلى صورة الأب الذي "صنعوا منه سيمفونية متجانسة من الألم لا تضج بغير السواد.."(), ولذا فإن الساردة تتساءل عن مستقبل هذا الوالد, الذي سيطارده السواد كثيراً فتقول: "يبدوا أن أبي لا زال في الغرفة لم يتحرك منها منذ الأمس, أرثي لحاله كم سيجد من سواد في حياته.."() 
وإذا ما انتقلنا إلى العنوان فسيبدو لنا في البداية مفارقا للون الأسود ودلالاته, لأسباب عدة لعل أبرزها أن الفراشة رمز للجمال والخفة والمرح, ويؤيد هذا أن الفراشة التي تحلق في أعلى الغلاف كان لونها أبيضاً وهو اللون الذي كتبت به عبارة العنوان واسم المؤلفة والتعيين الأجناسي.
وبشيء من التدقيق في بنية العنوان المكونة من مبتدأ وخبر "قدري فراشة" تهتز قناعتنا بمفارقة العنوان للون الأسود ودلالاته المعروفة لدينا – رغم المبررات السابقة- ؛ فالعنوان حين يربط القدر بالفراشة يدعونا للتساؤل عن مغزى الكاتبة من وراء هذا العنوان, وعن العلاقة بين الفراشة والقدر, فهناك العديد من المضامين التي تمثلها الفراشة؛ فهي كما قلنا سابقا رمز للجمال والخفة والبهجة, إلا أنها ترمز من جانب آخر للضعف والضآلة وقلة الحيلة فضلاً عن قصر العمر, واحتمال احتراقها في لهب أول شمعة تجتذبها حين ينشر الظلام أجنحته.

 

وإذا أضيف إلى ذلك كله جنس الكاتبة وتم ربطه بياء المتكلم في "قدري" فإن الصورة تصبح أكثر وضوحا, وتزداد القناعة بانسجام العنوان مع لون الغلاف, رغم قناعتي بأن هناك مسافة فاصلة بين الكاتب ونصه وأن شخصيات عمله لا تطابق شخصيته الواقعية, بحيث يعد العمل بمثابة السيرة الذاتية للكاتب, فهناك فرق بين الراوي والروائي, وما سبق ليس إلا من باب محاولة التقريب بين عناصر الغلاف.
ومع ذلك فإن قارئ الرواية سيؤيد ما ذهبنا إليه حين يجد أن الراوي كان شخصية نسوية وهي الشخصية الرئيسة في الرواية التي تمحورت أحداث الرواية حولها, وبهذا يمكننا أن ننسب ياء المتكلم في عنوان الرواية إلى هذه الشخصية التي تولت سرد أحداث الرواية.
ولعل المتأمل في صفحة العنوان مرة أخرى لن تفوته ملاحظة حجم الخط المستخدم في كتابة العنوان واسم المؤلفة والتعيين الأجناسي, حيث جاء العنوان بحجم كبير وبارز ساعد على أن يكون العنوان أكثر بروزاً وتبئيراً؛ ليضمن بذلك لفت نظر المتلقي إليه قبل سواه, في حين جاء اسم المؤلفة بخط ضئيل لا يكاد يرى لضآلته, والزاوية التي تم حشره فيها, ولا يختلف الأمر في التعيين الأجناسي للعمل حيث في الزاوية اليمنى من منتصف الغلاف بالحجم نفسه.

 

هذا يدعو للقول بأن الكاتبة قد أرادت أن تعبر من خلال ذلك عن مكانة المرأة في مجتمعنا الذكوري الذي يسعى لحصرها – إن لم نقل حبسها, وهو ما عانت منه بطلة الرواية - في زوايا ضيقة, وأن تعكس تلك النظرة من خلال صفحة الغلاف بلونها الأسود المثير ومكوناته الأخرى, وهذا ما يؤيده نص الرواية وعتباتها الأخرى كما سنرى.
وإذا ما انتقلنا إلى عتبة الإهداء فسنجدها قد جاءت بالصيغة الآتية:
"أبي , أمي..
بريحانة دعائكم [هكذا] أحلق, ولأجلكم [هكذا] أضيء..
زوجي الحبيب حين وقفت بجانبي وجدني الحرف ووجدت للكلم ألف معنى..
شكراً"

 

تتجلى في هذا الإهداء عدد من الإشارات التي تسهم في إضاءة جانب من شخصية المؤلفة, وتسهم في جلاء موقف الكاتبة من محيطها الأسري, مما يؤكد وبقوة ما ذهبنا إليه آنفاً من القول بالفصل بين الروائي والراوي, وهي قضية شائكة طالما تقاطعت عندها الآراء واختلفت, وخاصة عندما يأتي السرد بضمير المتكلم, فهناك من يرى أن المتكلم في الرواية هو الروائي, وأنه يسرد أحداثا حقيقية وقعت له, وهذا غير صحيح؛ فالشخصيات في الرواية شخصيات خيالية أو كما يقول تودوروف هي شخصيات من ورق, فبمجرد أن يكتب الراوئي على غلاف عمله "رواية" فإنها تندرج ضمن الخيال, وإن اتكأت على أحداث واقعية تدور في أماكن معروفة, فما ذلك إلا من باب الإيهام بالواقع.
ولو عدنا للإهداء فسنجد أنه وثيق الصلة بالعنوان لفظاً ومعنى, فقد أرادت الكاتبة أن تنبه القارئ إلى أن ما في الرواية لا يعبِّر عنها شخصيا بدليل اهدائها لوالديها, الذين حلقت بريحانة دعائهما كالفراشة, وإن كانت روايتها تعبر عن وجهة نظرها إلى مجتمعها وما يدور فيه.
ويأتي الشطر الثاني من الإهداء ليؤكد وقوف زوجها بجانبها ومساندته لها.

 

هذا كله يؤكد لنا أن الكاتبة واعية تمام الوعي بما تكتبه, وأنها قد أحسنت الربط بين عتبات روايتها, مما جعل تلك العتبات تتآزر وتنسجم لتؤدي ما وضعت من أجله من أهداف.
ويأتي تقديم الرواية بقلم الروائي اليمني مروان الغفوري – وهو تقديم غيري - ليسلط الضوء على النص بطريقة إغرائية مشوِّقة تدعو القارئ للإقبال على القراءة والغوص في أغوار النص لما حمله هذا التقديم من إغراء وتشويق عند حديثه عن مواجهة الساردة لمجتمعها, وثورتها عليه.
أما تقديم المؤلفة لروايتها – وهو تقديم ذاتي – فقد جاء على شكل رسالة, تدعو فيها حواء للفخر بأنوثتها, وعدم تصديق من لا يؤمن بها, لتؤكد على أن عملها ثورة ... ثورة على النفس والخوف وكل ما قد يحرم امرأة من حقها, أو يمس بأحلامها أو كرامتها, وبالتالي نجدها في هذا التقديم/ الرسالة تهاجم المجتمع الذي تراه مثقلاً بعادات وتقاليد لم تكن يوما ما دينا أو شرعاً, بل مقبرة لنعمة الحياة.

 

وفي الأخير تعترف بخوفها الشديد وكيف تغلبت عليه وكتبت, لتشارك في إيصال رسالتها.
وهنا نجد وعيها بنوعية ما تكتبه وأنه عبارة عن رواية قصيرة, وهو ما أكده مروان الغفوري في مقدمته, إلا أن في اعتراف الكاتبة بأنها قد كتبت دون أي تقنيات, قد يكون مأخذاً سلبياً على الرواية, كما يمكن أن يفسر بأنه شطحة من شطحات الإعجاب لدى كاتبة مبتدئة, ولذا يجب على الكاتبة التنبه لما لحق بالرواية من هفوات التجربة الأولى لتتلافاها في تجربتها القادمة وتجاربها اللاحقة.
ما يهمنا هنا هو أن الخطاب المقدماتي – الغيري والذاتي – قد أديا دورهما في هذه الرواية - كغيرهما من النصوص الموازية في الرواية - للتعريف بالكاتبة وتسليط الضوء على النص وجذب القارئ إليه, من خلال إضاءته لبعض القضايا الشائكة التي تمحور حولها النص.

 

وحين ننتقل إلى التصديرات التي صدَّرت بها الكاتبة أقسام الرواية الأربعة نجدها تأتي على النحو الآتي:
• "تسللت عبر النور حتى شقت قشرة البيضة". ص5.
• "تأكل كل شيء ..
يرقة وجدت لها ملاذاً بين حفيف أوراقي". ص19.
• "عذراء تغزل النور رحيقاً للحياة". ص57.
• "التحليق قدر الفراشة". ص81.
وهنا يبرز السؤال عن علاقة هذه التصديرات بما تتصدر من جهة, وعن علاقتها بعنوان الرواية, باعتبار هذه التصديرات مصاحبات نصية تسهم في تماسك النص/ الرواية وانسجامه.
يستطيع قارئ الرواية أن يلاحظ أن مضمون التصديرات يتمحور حول مراحل نمو الفراشة, منذ وجودها في البيضة حتى تحليقها في الفضاء, وبهذا يمكن التأكيد على العلاقة بين هذه التصديرات وبين العنوان.

 

أما عن علاقتها بالنص فإن القارئ يجد أن كل تصدير قد جاء مناسباً لمحتوى القسم الذي يتصدره, حيث أن الرواية تتحدث عن مراحل حياة ساردة الرواية "فرح" ومعاناتها, منذ صغرها حتى تحررها من كبت والدها وقسوته حين تم إيداعه السجن, فضلاً عن أن الرواية تتعرض لمراحل حياة فراشة وجدت على نافذة فرح, مما يوحي بأن الفراشة قد أصبحت معادلاً موضوعياً للشخصية/ فرح, وأنها بذلك ترمز للمرأة, أو أنها تمثل الجانب الغائب في حياة فرح, ذلك الجانب الذي طالما تمنت أن تكونه, وعندما لم تستطع حققته عن طريق اعتنائها بتلك الفراشة التي ما لبثت أن تطير محلقة في سماوات الحرية.
 

ولم يتبق لنا من النصوص الموازية إلا صفحة الغلاف الأخير أو ما يسمى عند النقاد بالصفحة الرابعة, وهي صفحة تخصص في العادة للتعريف بالكاتب ومؤلفاته, وقد يوضع فيها مقطع بارز من النص, أو شهادات لنقاد فرءوا الكتاب, وأحيانا يكون فارغاً.
صفحة الغلاف الأخير هنا جاءت مشتملة على ومضة تقول:
"هُنا ارتشُف 
من رحيق الكلم
نور يكتبني
فراشة
في حنايا القدر ..."
ولعل علاقة هذه الومضة بالعنوان والمضمون واضحة لفظا ومضمونا ولا تحتاج إلى بيان بعد كل ما سلف.
هكذا يجد القارئ أن النصوص الموازية في رواية "قدري فراشة" قد وظفت توظيفاً موفقاً, وأنها قد جاءت منسجمة مع بعضها, ومع النص, مما جعل بعضها يسهم في إضاءة البعض الآخر, مما منح الرواية كثيرا من مميزات النص المتناسق.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً