الأحد 24 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
انتصار مشاعر - لخليف ابراهيم
الساعة 09:29 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

قرر التوجه نحو إحدى المصالح الإدارية لقضاء بعض المآرب.. الساعة تشير نحو الثانية عشر والنصف. أثناء توجهه هناك كان يقصد في مشيه. ولج المصلحة. توجه الى مكتب الاستقبال للمصادقة على استمارة كان قد عبأها بعدما استخرجها من الانترنيت. لم يكن الموظف المكلف متواجدا في مكانه. سأل عنه موظفة تشغل مكتبا بمحاداة مكتب الاستقبال. صدمته كانت كبيرة حين أخبرته انه ذهب لتناول وجبة الغداء. لم يتقبل الأمر. ظهرت عليه سيماء الانفعال. تملكه هيجان داخلي. تخضبت وجنتاه بحمرة زادها بياض البشرة نصاعة، تشي بانفعاله. شدت أعصابه. جن جنونه. كاد أن يصرخ. لكنه لم يفعل. كأن منبها داخليا وزعه، تفطن للموقف. توقف وأعلن حالة استنفار قصوى. تحفزت كل حواسه. ارتقى بفكره وذاته إلى الذات الأخرى. إلى حيث نقاء السجية. أخذ مسافة عن الأحاسيس التي انتابته والفوضى التي أخذت بتلابيب وجدانه. كان ذا دربة ومراس لا يلين. أخذ بناصية الأمور. عاد إلى جادة صوابه. تراجع. لجم لسانه قبل أن يتفوه بكلام غير محسوب العواقب، طمر أحاسيسه السليطة التي اندلقت بدون استئذان. خمن كذلك أن سلوكه ذاك سيكون غير ذي جدوى لأن الموظف المعني بالأمر ليس موجودا بالمكتب، ثم تساءل لماذا هذا التصرف الأرعن. تمالك أعصابه. ضبط أنفاسه. قال في نفسه "لم العجلة؟ فقد يكون ما يبدو ضارا ذا منفعة". لملم كل الطاقة التي كان سيصب من خلالها جام غضبه على الموظف وارتأى أنه من الأجدر الاخذ بأسباب الامور. التمس له أعذارا وكذا لنفسه التي كانت على حافة الانفجار. وظف تقنية ضبط النفس التي يعزف أبجدياتها ليسقطها على حاله. توجه نحو إحدى الأرائك المتواجدة في قاعة الانتظار. لم يول كثير اهتمام لردة فعل بعض الاشخاص الذين شاهدوا الحدث. عمد الى تعبئة  الهواء بنفس طويل وألقى زفرة كان يتغيا منها طمر لواعجه وإفراغ  الضغوط من دواخله. توجه نحو الموظفة وخاطبها بتودد وكأنه يعتذر لها عما كان سيصدر عنه. سألها متى سيعود الموظف فأخبرته ان ذلك سيكون بعد ساعة. شيع المكان بنظرة فيها غير قليل من الإبهام ممزوجة ببعض الشرود. تردد بعض الشيء في أخذ القرار، هل يجلس في قاعة الانتظار أم يذهب الى المقهى لاحتساء مشروب ما وتجزية الوقت. وبعد هنية سلك الاختيار الثاني لكن قبل ذلك توجه رأسا نحو سيارته المركونة في أحد الازقة لحمل جهاز الكمبيوتر لإنجاز بعض الأعمال.

كان مكتب الخدمات يتواجد في زنقة تطل على شارع كبير به مقاه عدة. كان الشارع مكتظا بحركة المرور تمرقه السيارات في كلا الاتجاهين. كانت حركتها الدائبة تحدث ضوضاء وتخلف وراها مقذوفات غازية تنثر روائح كريهة وملوثة تخنق الانفاس.  بحكم معرفته بموضوع البيئة يحرص على تفادي سلك الشوارع الكبرى.  يعرف جيدا أن استنشاق تلك المواد قد يؤجج الأعراض التي تعتريه بحكم مرض الحساسية الذي ألم به منذ سنوات.

لم يفتأ أن غير وجهته. دلف بين الزقاق بعيدا عن الشارع تفاديا للضجيج وبحثا عن مكان آمن يجد فيه ضالته وراحته. حملته خطواته نحو مقهى صغير يتكون من غرفة كبيرة أثثت بكراسي ومنضدات تحلق حولها بعض الرواد وباحة صغيرة انتصبت فيها بعض مظليات تلقي بظلالها على الكراسي والمنضدات لتقي الزبائن من لفح الشمس الحارقة. لم يكن بالمقهى ضجيج عدا صوت التلفزيون الذي لم يكن مستواه بالقدر الذي يزعج. لكن بالقاعة  بعض الزبائن يتناولون لفافات سجائر تنفث أدخنة تمخر عباب الجو، محملة بغازات ومواد ذات سمومية قوية. سريعا ما تملأ المكان. بعضها يُسحب مع الهواء خارجا والبعض الأخر يعبق بها المكان.  تلتصق بالملابس والجدران والكراسي و السقف وكذا المشروبات، أي كل ما يتواجد بالقاعة وينفذ كذلك إلى خياشيم الزبناء مما قد يسبب لهم بعض الانزعاج. هذا الوضع أصبح مألوفا وعاديا في كثير من المقاهي، الا في بعض الاستثناءات، رغم إصدار قانون91-15الذي يمنع التدخين في الأماكن العمومية.

لئلا يتعرض لحرج أو لضيق تنفسي، اقتعد في زاوية بالباحة مبتعدا بعض الشيء عن باب القاعة. فتح جهاز الكمبيوتر وراح يتفحص ويمحص بعض الملفات. حانت منه التفافة نحو صوت خفيف صادر من احدى المضليات. فرأى هرة منبطحة  تستظل، تتلوى بتكاسل، تترنح. تمدد قوائمها. كانت بين فينة وأخرى تصدر مواء "دلعا".كانت في حالة استرخاء. شده كثيرا هذا المشهد. استشف منه بعض الايماءات أسقطها على حاله. الهرة تقوم بما تراه مناسبا لها ولا تعير أدنى اعتبار لما حولها على الأقل في تلك اللحظة. صادف هذا الموقف موقفه هو، وتوافق حال الهرة مع حاله. تماهى مع ذالك ورجع الى ملفاته.

طلب من النادل أن يأتيه بكأس قهوة يمنحه بعض الانتعاش. فقدم له ما طلب مع قطع من السكر. راح يتأمل في الكأس الشفافة وفي القهوة التي ملئت جوفها. يتأمل في قهوة سوداء ذات مداق مر، لكنها تنعش النفس بنكهتها عندما تنضاف لها مادة السكر البيضاء. شبه ذلك الموقف بطاقتي اليين "الأسود" واليانغ "الأبيض"المنبثقتين من الفلسفة الصينية. طاقتان مكملتان لبعضهما البعض. لا يمكن تواجد أي منهما دون الآخرى. شبهه كذلك بالموقف الذي عاشه قبل قليل. سواد لحظة ساد سويداء قلبه حين اصطدم بغياب الموظف لكنه عانق هذا الموقف بسعة قلب أبيض ورحب بالامر حين خمن أن رُبَّ في هذا التأخير خيرا. تناول هاته المقاربة بنوع من الحكمة. قارب بين وضع القهوة و السكر واليين واليانغ وبين صفاء ذهنه الذي انبلج من غبش الأحاسيس الخسيسة التي جثمت هنيهة على كيانه.

كان من عادته أن يرتشف القهوة بدون سكر. لكن هذه المرة أصر على إضافة قطعة صغيرة منها على أمل أن يزيل سعراتها الحرارية بالمشي الذي اعتاد ممارسته ليلا. حرك الخليط بشكل دائري وبإيقاع هادئ وكأنه يحاكي رقصة الدراويش في بدايتها للارتقاء لأعلى درجات التأمل ومحاكاة العقل الباطني لمقارعة ما فضل من تلك الهواجس البغيضة والقبض عليها.

يبدو ان المخاض النفسي الذي اخترقه كان كالقهوة المحلاة التي أخد يرتشفها، أفضى ذلك إلى هدوء نفسي وطمأنينة نتيجة رزانته وتغليب العقل على الانفعال. هذا الوضع هدَّأ من روعه وأنسلت من أساريره بشاشة. تحرر من كل الأحاسيس التي كادت تجرفه لما هو أسوأ. بدا وكأن ضميره صعد إلى مرتبة أعلى، الى مستوى مرتفع عن المنغصات وعن تفاصيل الحياة التي لاطائل من ورائها. ارتفع الى مستوى الحكمة. انهمك من جديد في دراسة الملفات. تناسلت الأفكار وانسابت كانسياب الماء في جدول هادئ. ساعدته على إتمام بعض منها ووجد حلولا لأخرى كانت مستعصية. كما تمكن من بلورة أفكار جديدة ساعدته على معالجة بعض القضايا بأسلوب جديد. لم يكن بمقدوره أن ينجز كل هذا لولا تلك السكينة التي احتضنته وذاك الهدوء الكاسح الذي سكن دواخله.

افتر ثغره عن ابتسامة امتنان للحظة التي يعيشها. تملكه اعتزاز بل شعور بالثقة في النفس لتغلبه على المشاعر التي كادت أن تقذف به في غياهب التوتر والانفعال وانتصر لتلك التي ساعدته على تقبل الأمر بعقلانية وتبصر جعلته يكيف الوضع لصالحه. 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص