الجمعة 20 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة في رواية حارس سطح العالم لبثينة العيسى - سيرين حسن
الساعة 08:50 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


(من السطح تمتصنا الإسفنجة نحو المتاهة)
سأبدأ بالحديث عن الغلاف الذي يبدو للوهلة الأولى ككتاب أطفال أرنب أبيض خارج من رواية آليس في بلاد العجائب يحمل الأرض على ظهره وهناك أرانب تحاول الدخول عبرأنفاق كي تخرج من التربة وتصل للأرنب المنحني الحامل لقطعة الأرض والحارس يقف في الأعلي ليحرس هذا السطح.
هناك أرانب قد انسلت هاربة من السطح وغاصت في العمق في التأويل نحو الأرنب الكبير الذي يمثل الحقيقة المدفونة.
تقع الرواية في 317 صفحة ولا يسعني أن أقول لكم عن مقاسها ورقياً لأني قرأتها الكترونياً لكن بالتأكيد كان طولها سبباً في جعل القارئ يغوص حتى الغرق في عالم رمزي متخيل كما أرادت لنا بثينة أن نفعل.

هذه الرواية من النوعيات التي تحمل الكثير من الرمزية و التأويل و تذكرني برواية وجدي الأهدل ( فيلسوف الكرنتينة).
رواية سياسية في قالب خيالي جميل يجعلك تغرق في عالم التأويل لكل مقولة من شخصية ما وكل رسالة خفية بين السطور.
الرواية تحكي عن عالم تخيلي يذكرني برواية جورج أورويل 1984 والتي تحاكي هذه الرواية في أسلوب السيطرة على المواطن من قبل الحكومة أو الرئيس أو كما تدعوه بالأخ الكبير سيطرة كاملة تمتد للعلاقات الخاصة وطبيعة العمل والتفكير والحياة, وتضع المواطن الصالح في قالب مبرمج مسبقاً من قبل الحكومة.
لفظ الأخ الكبير استخدم بداية في رواية جورج أوريل (1984 )وبعد نشر الرواية اصبحت هذه االكلمة مرادفاً للتعسف في استعمال السلطة الحكومية, رغم ما لكلمة الأخ من معاني أخرى كالسند و المحبة والخير ولذا استخدمتها بثينه العيسى هنا في روايتها كدلالة ايضاً على التعسف و الظلم وكبت الحريات.
في جمهورية الأخر الأكبر وحكومته كان العالم كما نعرفه الآن قد تم محوه بواسطة الحكومة التي تحرص على توفير حياة صحيحة وآمنة لمواطنيها فأنهت كل شي متعلق بالعالم القديم من حواسيب وهواتف و انترنت وكتب والحارس هنا هو رقيب للكتب يبحث عن أي مخالفة لا تتناسب مع ارأء الحكومة كي يعطي الأمر بمنع الرواية أو الكتاب من التداول.
شخصيات الرواية لم يكن لها أسماء بل كانت صفات كالطفلة الصغيرة والرقيب وحارس المكتبة و الوراقة , المفتش..الخ من الصفات كأنهم مجرد شخصيات في رواية حتى بين الشخصيات لم يكن هناك مناداة إلا بالألقاب العملية وذُكر أسم شخصية واحدة فقط في آخر الرواية في الصفحات الأخيرة وهو حارس المكتبة العجوز وكان ذكر أسمه مثاراً للعجب عند بطلنا رقيب الكتب لأنهم معتادون على التعاامل بالألقاب الوظيفية.
اسقطت هذه النقطة على الواقع فكثيرمنا غابت أسمائهم تحت مسمى وظيفي كالأستاذ و الدكتور وأم فلان.. أين نحن من المسميات؟؟
إن غابت المسميات يشعر 99% إن لم أقل 100% سيشعرون بالضياع فهذه المسميات ما جعلت لحياتهم معنى .
وفي الرواية كان لا بد أن ينتقل البطل من وظيفة إلى أخرى بألقاب الرقيب, المفتش, حارس مكتبة... ولكن النقلة الكبيرة كانت من كونه رقيباً للكتب متترصداً لأقل خطأ إلى قارئ محب للكتب يبحث عن أي فرصة ليقرأ وكان الكتاب المحرم الأول الذي أختاره ليسقط في التأويل المحرم الذي ينافي رغبات الحكومة هو كتاب زوربا.
لماذا زوربا؟؟
زوربا رواية تحكي عن رجل عاش الحياة باستمتاع كبير حتى وجبة الطعام كانت لها طقوس سعادة كبيرة عند زوربا, الرقص كان لغة من لغة له.. زوربا كانت رواية شخص يبحث عن الفرح و يعيش السعادة وخارج نظام القواعد التي تضعها الحكومة للمواطن الصالح فكيف تضع إذا كتاباً فاسقاً كهذا للقارئ؟؟ لعله سيحدث نفسه بأنه يجب أن يتمرد كزوربا و يكون سعيداً بأي شكل وأي مخالفة ولذا كان زوربا الكتاب الذي لا جدال في منعه ووضعه في المحرقة.
تم منع تدوال الكثير من الكتب التي لا تتماشى مع الحكومة كالكتب الدينية والفلسفية والفن وروايات وأي كتب بها مقاطع تشير للجنس و أي لفظ عن الجحيم وكذلك قصص الأطفال الخيالية.
ومن كتاب آليس في بلاد العجائب جاءت أرانب بيضاء كثيرة كانت تجوب المصلحة التي يعمل فيها رقيب الكتب..
كانت تسرح و تمرح في كل مكان وكأنها خارجة من رواية آليس..
لماذا الأرانب البيضاء؟؟
لأنها رمز البراءة و الطفولة و التحرر والقفز خارج صندوق المألوف المعروف وهذا مما ترفضه الحكومة وتحاربه كي تحافظ على الأمن و الاستقرار.
حياة البطل التي كانت عبارة عن قراءات بالخفية للكتب الممنوعة والغوص في حب الكتب لكن تغيرت حياته هذه بسبب كتاب, كان كتاب بينوكيو الذي تم ضبطه بحوزة ابنته سبباُ في اقتيادها الى مركز إعادة التأهيل لأنها مصابة بتضخم الخيال.
كان والدها عارفاً بقصص الجنيات, و الطيران لبيتر بان الذي لا يكبر أبداً, وآليس و أرنبها, كل هذه القصص كانت في رأس ابنته, تعيشها و تطبقها في واقعها, وتصمها بعار مرض تضخم الخيال الذي تحاربه الحكومة, لكن والدها كان متأكداً من أنها ستشفى وتعود إنسانة مملة ومواطنة صالحة حسب المعايير حالما تدخل المرحلة الإبتدائية.
لماذا بينوكيو بالذات؟؟
لأن الكذب جريمة كبيرة تجعل انفك يكبر كفرع شجرة و ينبت عليه أغصان في القصة لكن في الواقع الجميع يكذب, الحكومة تكذب, والأخ الكبير يكذب, ولا نرى فروع الشجرة ولا الأنف الخشبي ةنستمر نحن في التصديق وإن كانت مخيلاتنا ترى الأنوف الخشبية لكننا نقنع انفسنا بأنهم يعرفون أكثر منا .. نعم هم يعرفون مصلحتنا.
فحتى من يتمرد منا سينتهي به الأمر للإختفاء من على سطح العالم إلى حيث لا ندري..
عندما حاول البطل أن يتلاعب و أن يتجاوز المحظور بأن يصبح قارئاً و يقع في حب الكتب و يغوص في التأويل انتهى به الأمر محروماً من ابنته وحيداً بائساً رامياً بنفسه في محرقة الكتب كي يختفي معها كورقة من أوراقها تبتلعها النيران دون رحمة.
كانت السيطرة في الرواية للحكومة للسلطة, وإن كانت ظالمة وليس كما كانت القصص الكلاسيكية توحي بأن لا بد للخير أن ينتصر في كل نهاية وإلا لما استقام الأمر..
لا أصبحت النهايات في الحياة للأقوى, وللأكثر شراً, ومازالت الامور تستقيم حسب مقياس الأقوى, ولا يجوز للفئة الضعيفة التطلع نحو طريق آخر أو معادلة أخرى غير ما يكتبها من هم على السطح معنا ظاهرياً و عالمون بالعمق ويحتفظون باسراره لهم
الخيال كان جريمة كبيرة فالخيال يولد الرغبة و الرغبة قد تولد العصيان والحومة تريد الاستقرار لذا منعت وجرمت أي خيال.
وزارة الحقيقة هي الوزارة التي كانت تمتلك الكتب و تجيزها أو تمنعها ووحدها الحكومة لها الحق في امتلاك الحقيقة.
لماذا أسمتها بوزارة الحقيقة؟
نعم الحقيقة أن الشعب المثقف يمتلك القوة والسلطة, الشعب الذي يعرف حقيقة قواه و امكانياته اللامحدودة هو الأقوى لذا كان لابد من كبت الحقيقة وقتلها قبل تسربها للناس و تحجيم قراءتهم فيما توده الحكومة وترغبه وتبيحه حسب أعرافها و رغباتها.
كانت هناك محرقة سنوية سميت بالتطهير لكل الكتب التي تم إقصائها ككتب مخالفة للقانون و التي يقرؤها بطل الرواية وأزملائه في العمل للبحث عن أي جملة أوفكرة تخالف القواعد التي وضعتها الحكومة وهذه المحرقة الهائلة تحدث في مكان بعيد عن أعين الناس, فالحكومة حريصة على عدم وقوع أي كتاب ولو بالصدفة في يد المواطنين, بينما تشغل المواطنين الصالحين بمحرقة يتم فيها رمي الدمى و مجسمات لكتب.

كانت الرواية تلمح كثيراً لما تقوم به الحكومات الحالية في كل مكان من قولبة للمواطن بما تراه مناسباً لها و تمجيد وألوهية للرؤساء والقادة.
"كيف نخرج من بطن الحوت؟؟"
طرحت الكاتبة هذا السؤال عبر شخصية في الرواية وكانت الإجابة" نشعل ناراً".
إشعال النار يأتي عبر بدء ثورة, عندما يستنير الفكر وهذا ما حاربته الحكومة كل شي يفتح الفكر, كل شي يثير السؤال, كل شيء يفتح باب المخيلة.
تقول إحدى الشخصيات "أن الجيل القادم سيولد دون أذيال ودون عظمة عصعص ".
أجيالنا مازلت تجر أذيالها رغم كل التكنولوجيا التي نعيشها و التطور لكنها في نظر حكومة الرواية ضرب من التخلف, ومن أسباب إثارة البلبلة, و المشاكل والنظام يقوم على غسل الأدمغة لتوليد جيل خاضع للحكومة و لرغبات الأخ الكبير.
حتى المدرسة كانت كما قال البطل إحدى وسائل قتل الإبداع و المخيلة لدى الأطفال, ونعم أشاركه الرأي فمدارسنا كما أراى أغلبها تقتل المواهب, ولا تستطيع سبيلا لأطفال مختلفين كما كان الحال مع عظماء التاريخ الذين طردتهم مدارسهم لأنها ببساطة تعتبرهم أغبياء.
"إن أصل الشقاء هو الرغبة وأصل الرغبة هي المخيلة"
الرعبة في التحرر, في التطور, في العيش, وتأتي هذه الرغبات من خيال اخترق جدران الواقع لذا كان الكبح للخيال ضرورياً كي لا يطمح أي مواطن الى أكثر مما تقدمه حكومة الأخ الكبير في طبقها المزين بالأمان و الإستقرار.
"من سيطر على الماضي سيطر على المستقبل"
من سيطر على أسرارالأجداد وخبراتهم , ومن أفتخر بماضيه وتراثه واتخذها سلماً للتطور فقد سيطر على المستقبل وهذه رسالة بين السطور لمن ينكرون ماضيهم ويظنون أنهم يحسنون صنعا.
كانت الرواية رسالة بأن الأمل و الطموح و الرغبة في التغيير تخضع دائماً لقانون الأـقوى فالوراقة سُجنت مع حارس المكتبة العجوز والرقيب(البطل) القى بنفسه في محرقة الكتب (التطهير) التي بها تطهر الحكومة ساحة جرائمها في قتل الفكر وتبقى الأرانب وحدها هائمة في المصلحة تنتظر أن يكون هناك أكثر من مجرم فكر وأكثر من مواطن غير صالح كي يتكاتفوا ويخرجوا من الرواية إلى السطح و يُخرجوا معهم ما كان مدفوناً في الأعماق ويضعوه كشمس أمام الجميع.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً