الجمعة 20 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مرجعية المؤرخ - أحمد السري
الساعة 10:48 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


كل كتابة تاريخية تستند إلى مرجعية ما وهي تستعرض حدثا أو شخصية أو حقبة، المنهج هنا مجرد ذريعة علمية لتسويغ المرجعية، التي تراوغ كثيرا أو قليلا عبر المنهج أو ادعاء النزاهة والموضوعية. ولابد من فهم العلاقة بين المرجعية والمنهج لتكون الرؤية أوضح.
الحديث بوضوح عن مرجعية المؤرخ مفيد لفهم تنوع القراءات التاريخية وتتبع مسارات الجدل أو طرق التدليل المختلفة حول قضية ما، فقد يتفق المؤرخون على الحدث ورجاله ومصادره، ومع ذلك يختلفون في الفهم والتفسير أو التأويل ( وهو الأخطر). هذا معناه أن المقدمات التاريخية لا تضمن بالضرورة الوصول إلى نفس النتيجة.
السبب تباين المرجعيات، أو زوايا النظر، أو جعل الغرض الخاص معيارا مقدما على غيره. ولو بسط المتحاورون مرجعياتهم للحدث بوضوح وصراحة لأراحوا واستراحوا.
المؤرخ المحترف والقارئ النبيه يمكنه ببساطة تبين مرجعيات الكتابة التاريخية حيث كانت، فيفرق بين كتابة علمية نزيهة وكتابة غرضية مؤدلجة، ترى في تقديم صور التاريخ وأحداثه بقراءتها الخاصة، مداخل لتشكيل وعي سياسي معاصر لصالحها.

فما هي المرجعيات التي تبرز في الكتابات المختلفة؟
هل هي مرجعية الواقع السياسي لحدث ما؟ أو القبول بمرجعية الضرورات التاريخية التي يمكن من خلالها تسويغ الأحداث؟ وهي مرجعيات حاضرة في الكتابات التاريخية.
هل هي مرجعية الحق والعدل بضمير إنساني أو في أفق الثقافة المحيطة بالحدث؟ ( دين الإسلام مثلا)، بحيث يُدان على أساسها كل ظلم. وهل الحق والعدل مفاهيم مطلقة أم تخضع لأهواء البشر وتعريفاتهم. تذكر رواية في التراث أن أعرابيا سئل : ما هو العدل ، قال: العدل أن أهجم على نياق جاري فأسلبها منه. قيل فما الظلم، قال: أن يحاول جاري استردادها مني؟. ومع أن هذه الرواية فردية الطابع إلا أنها مؤشر على صعوبة الاتفاق على معاني الحق والعدل.
هل المرجعية هي قناعات المؤلف ومعتقداته أو مرتكزاته النظرية ؟
هل يمكن الحديث عن مرجعية الضمير الإنساني، وهل تعصم مثل هذه المرجعية المرتبطة بسمو المبادئ، عن الوقوع في الزلل؟ أم يتم تجاوز الضمير الإنساني واثبات مرجعيات نفعية هي الغالبة أصلا في التدافع البشري. ؟
هل المرجعية وطنية ؟ والمقصود أن كل فعل تاريخي يقاس بمدى خدمته للمصلحة الوطنية العامة، ويتم التحليل والتفسير والخلوص إلى رأي على ضوء ذلك؟
اعتماد مثل هذه المرجعية مفيد لأن قياس المصلحة الوطنية ممكن من خلال أقوال وأفعال صناع الحدث التاريخي وسد الطريق على كل محاولة تريد الانحراف بالحدث الى طريق آخر.
هل المرجعية ؟ حزبية، مذهبية ، سلالية، نفعية انتهازية؟
كتابات التاريخ الإسلامي (على الأقل ) مليئة بهذا اللون من المرجعيات، فمرجعية المؤرخ هناك ( أيا كانت درجة علاقته بالتاريخ) تتضح فورا ويمكن رؤية ملامح المرجعية بوضوح، وترى أن الخلافات حول حدث ما ليس خلافا على الحدث الممكن تحديده، وإنما هو في الأصل خلاف حول مرجعية التقييم أو زاوية النظر.
فما هو دور المؤرخ الجاد والنزيه وما هي مرجعيته المتوقعة؟ هل يمكن الحديث عن مرجعية علمية منهجية صارمة؟ تعصم عن الوقوع في الخطأ وتزوير التاريخ؟
يفترض في المؤرخ الجاد والأكاديمي أن ينتصر لمرجعية الحق والعدل، وهي التي تنتصر تلقائيا للمصلحة العامة والضمير الإنساني، ويسخر لها عقله العلمي ومهارته المنهجية.
هذه المرجعية هي التي تمنح المؤرخ وجاهته العلمية، وتسوغ موقعه الاجتماعي والعلمي وتبعده عن المزايدات والتهريج وهما من خصائص عالم السياسة لا عالم العلم.
أما دون ذلك من مرجعيات مذهبية أو حزبية أو سلالية أو نفعية انتهازية، فهي مرجعيات قاصرة وغير نزيهة، قد تتخفى وراء ستار المنهج ، لكنها تبقى منكشفة لأنها تفقد صلتها بمرجعية الحق والعدل والمصلحة الوطنية الغلابة.
المرجعيات النفعية تنكشف من خلال انتقاء الأحداث التاريخية وتوليفها لصنع سرديات خاصة لخدمة مذهب أو طائفة أو أسرة، وهذا كثير في التاريخ الإسلامي وممتد إلى اليوم، بأشكال مختلفة، بل إن هذا سر تحول التاريخ الإسلامي إلى جبهة حرب واضحة. وليس الاسلامي وحسب بل كل التاريخ ( تاريخ فلسطين نموذجا). والصراع هناك ليس على الأحداث غالبا بل على مرجعيات التناول وزوايا النظر.
كل ما تقدم يقنع بضرورة وجود مرجعية واضحة متفق عليها بين المؤرخين، قوامها الحق والعدل ومسلحة بالمنهج العلمي والضمير الإنساني. مثل هذه المرجعية تضمن وجاهة للدراسات التاريخية وقيمة، فتؤتي أكلها ويظهر نفعها في تصحيح مسارات الوعي التاريخي كله.

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً