السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
ملعقة الفضة بين الرماد - علوان الجيلاني ‏
الساعة 10:08 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


كان جدي يحبه جداً ، يعتمد عليه في أعمال كثير ة، تقطيع الحطب ، عمل محاريق الفحم ، من شجر السلام ، الحراثة والزبر ، تقطيع رقوف السدر ورصها ودعسها سحائب ، تسحبها الثيران إلى البيت لا ستعمالها في توزير العرش والعشش وبناء المزاريب (حوائط الشوك) .
هو من أسرة كبيرة في تهامة واسعة الفروع متعددة الاهتمامات ، رجل سمين ، ثقيل الحركة ، معظم أيام السنة ينتقل من بلاده إلى الجيلانية ، وأحياناً يعيش السنوات فيها دون أن يغادر .
كان يلفتنا دأبه على العمل رغم ثقل حركته ، ، إنه الصمودي ، جدي يحبه كثيراً ، ويصيح فيه كثيراً ، وهو يخاطب جدي دائماً : عم عبدالله لا الناس شرك أنا ملك (لوكان الناس لك شركاً مع غيرك فأنا ملك خالص لك ) .
لم يكن جدي سفيانياً يعجبه هذا النوع من التزلف ، لكنه كان حليماً ، رغم هيبته وهيلمانه يتلمس الأعذار للمخطئين والمقصرين ، ذات مرة كان يتقفّر على زهب من زاهيبه فعثر على سارق يسرق الدجرة والقطن ، لم يكن السارق يعرف جدي ، قال له : أسألك بالله تسترعلي
أجابه جدي : الله يستر علينا كلنا اقطب شل ما أخذته بسرعة لو رآك الشيخ ستكون تلك نهايتك .
***
جدي منظم جداً ، كأنه رجل أوربي ، يضع كل شيء في موضعه ، هكذا شأن الناجحين بالذات في المجالين الاقتصادي والإداري .
مساء كل أربعاء تضج المنزلة بمراجعة حسابات الشقاة ، غداً الخميس يوم السوق يجب أن يأخذوا حقهم ، هذا بقشة ، وهذا بقشتان ، وهذا ثلاث وهذا أربع ، كل الشقاة تمر حساباتهم بسلاسة إلا الصمودي ، يطلع عين جدي وعين سود المعلم المسؤول عن دفتر الحسابات ، ولديه دائماً لا زمة يكررها أثناء المحاسبة بشكل مستفز يفقع المرارة : عم عبدالله ولا واحده حدا شي
جدي يصرخ بصوته المميز : ما هوه ؟ ما تقول ؟

يردّ وهو يرشح من كل شعرة : أقول ولا واحده حدا شي
ويذهب وقت طويل : وهو يَعك في ما لا عك فيه وبين كل جملتين تتكرر لا زمته : ولا واحده حدا شي .
في النهاية يصرخ به جدي صرخة تنهي جدله ، يأخذ حقه ويلقط مهبّه ويخرج إلى زهب الجروبة غرب القرية حيث العشة التي تأويه هو وأولاده وهي عشة بناها له جدي ، لأجل إقاماته الطويلة عندنا إذ هو لم يعد مخضرياً ، المخضري يبني خدراً مؤقتاً من الخزق أو العجور ، يستقر فيه مدة الصريب والحصيد والجريز والتكويل ، ثم يقوضه ويرحل ، أما الصمودي فقد صار مقيماً ، لذلك يلزمه عشة قادرة على البقاء وعلى حمايته وأسرته من الأمطار حين يأتي موسمها ومن حر الصيف ورياحه حين يأتيان .
***
جدي متمدن في عاداته يأكل بالمعلقة في نفس الوقت الذي يرى فيه كل مشائخ البلاد ووجهائها ذلك عيباً ، بل يتفاخرون بالأكل بأيديهم ، بعض الناس خاصة الشقاة الأقوياء لهم طرائق في الأكل مريعة ، طرائق تتميز بالسرعة والجلافة والنهب ، أقصد نهب الأكل من أمام شركائهم ، يستطرفون ذلك ويتندرون به ،
ذات مرة فتّتْ فاطم زوجة محمد موسى صحناً كبيراً من التريف بحلبة ناقة كاملة ، وصبت عليه عليه السمن لأربعة شقاة أشداء ، لكن امعباسي قرر حرمانهم من الغداء ، ذهب إلى الناقة وفتش في شغانها (جوار ضروعها) حتى وجد حلمة مغروزة في لحمها وقد مصت من الدم ما جعلها تبدو كبالونة صغيرة ، التقطها ووضعها في كفه ، وحين برك مع زملائه الشقاة للتريف ترف لقمة فوق الحلمة ثم فتح كفه وقال لهم : حلمة
هم شاهدوا الحلمة في كفه وصاحوا بصوت واحد : عااااا ، وقاموا
أما امعباسي فرمى اللقمة مع الحلمة من يده ثم هجم على الصحن حتى أتى عليه كله ، بعدها رفع الشربة إلى فمه فشرب حتى زيّر ، سمعهم يكبرون عليه (الله أكبر عليك ، الله أكبر عليك ) مستنكرين كيف استمرأ الأكل بعد أن وجد الحلمة فيه ، لكنه نظر إليهم بابتسامة ماكرة منتصرة وأخبرهم كيف خدعهم بحيلته العابثة ، قامت قيامتهم ، واراتفعت أصواتهم بالصياح معه ، فقد كان الجوع يأكل بطونهم بعد يوم عمل شاق ، بالصدفة سمع جدي صراخهم فاتجه إليهم ، فاجأهم صوته : مابو
بحنق وحقد أخبروه بفعلة امعباسي ، الذي أخذته المفاجأة فراح يرتجف من شدة الخوف ، عاقبه جدي ، وأمر بتجهيز غداء آخر للشقاة الذين وقعوا ضحية خدعته .
يحب جدي الملاعق وهي أنواع وأشكال كبيرة وصغيرة بعضها مزخرف بزخارف جميلة ، ومنها ما هو مصنوع من الفضة ، بالذات الملعقة الفضية الكبيرة التي يغترف بها الماء المثلج من الثلاجة .
***
كان جدي قد جلس بعد القراع في عريش البرود وكانت هناك مشكلة حادة بين جارتين ، ارتفع صوتاهما وتجمع أهل البيت والجيران وبعض الشقاة حولهما وجدي يفصل في المشكلة حتى حلها وتفرق الناس .
شعر جدي بالعطش ، كانت الثلاجة أمامه لكن أين ملعقة الفضة ، هل أحضروا له الثلاجة من العريش الكبير ولم يحضروا الملعقة ، صرخ في الشاقيات الداخلات الخارجات : الملعقه
هرعن إلى العريش الكبير ولم يخرجن ، فصرخ : ما هوه ، أي حين تأتون بها .
جاءته احداهن خائفة :لم نجدها
جدتي التي كانت تشرف على أعمال البيت في مكان آخر سمعت الضجة فجاءت : سوف نجدها (قالت وهي تدخل العريش الكبير) ، ثم خرجت بعد قليل مستنكرة تقول لجدي: أتذكر أنها كانت عندك هنا بعد القراع
قال مقطباً وجهه : مش داري ، لكن تكون هنا أو هناك مش مهم ، المهم أين هي ؟
وبدأت عملية تفتيش واسعة شملت العريش الكبير وعريش البرود والمنزلة والعشش الكثيرة والمخادم(المطابخ) والمرابع ، وكلما تأخر العثور على الملعقة ، زاد قلق جدي وتوتره وارتفعت وتيرة غضبه ، اشترك كل من في البيت في التفتيش والبحث فتشت الرفوف والصناديق والآجاب والمخازن ، وسئل كل من دخل البيت من زوار وجيران وشقاة دون جدوى .
جن جنون جدي فملعقته تحفة أنيقه وغالية ، وهي حبيبة إلى نفسه يرتبط بها ارتباطاً وجدانياً لا حدود له ، لم يبق أحد من حوله إلا وناله نصيب من غضبه ، لم يذق ذلك اليوم للغداء ولا للماء والقات طعماً ، وبذل رواد مقيله في المنزلة جهداً كبيراً من أجل صرفه عن التفكير في الملعقة لكنه كان كلما شعر بالعطش والتفت إلى الثلاجة يتذكر الملعقة الفضية ، يقلب الملعقة البديلة وقلبه يحترق .
صلى العشاء الآخرة وأوى إلى فراشه ، كانت السماء تتزين بكثير من النجوم رغم غبرة الصيف ، سرح طرفه في السماء وقال : يارب اكشف لي من أخذ الملعقة وأنا أسامحه لوجهك الكريم .
***
كان جدي قد أنهى قراعه منذ ساعة مع أبي ومحمد نكر والشيخ الكلفود وعلي مدربع ولم يكن له حديث إلا ملعقته التي اختفت ، حين تعالى صراخ وغوايط مفزوعة من جهة الجروبة ، قفز أبي ليعرف ماذا هناك ، فإذا بأحد الشقاة يجري ويقول : عشة امصمودي حرقن .
جدي أمر أبي وجميع من حوله من الشقاة ورجال القرية بنجدة امصمودي ، لكن النار كانت نار صيف عاتية نشبت في الثمام الجافّ والتهمته واشتعل الصرب والحقب والمظ والضلوع وخلال نصف ساعة كانت قد تهاوت وكل ما كان بوسعهم فعله هو محاصرتها والحرص على ألا تحمل الرياح شرارة من نارها إلى بيوت القرية ،تحولت العشة إلى كومة رماد ، وجاء الصمودي إلى جدي با كياً : عم عبدالله ولا واحده حداشي ، حرق كل شي .
طيب جدي خاطره ونقله مع أسرته إلى عشة داخل بيته وقال له : خلال يومين نكون إن شاء الله قد بنينا لك عشة أحسن منها ، قل الحمد لله
-الحمدلله الله يقيمك ويعمرك
في الليل منح جدي الصمودي بعض المال لشراء الخشب اللازم للبناء ، وأمر له بالثمام والعجور والحبال ، وبعد قراع اليوم الثاني ركب جدي وأبي وخرجا ، كان يقصدان دير عابد لزيارة الولي الصالح علي جيلان الأعمى ،شاهدا الصمودي وقد انغمس في تسوية رماد العشة المبلول بالماء ، اتجها اليه ، ووقفا يشاهدانه وهو يضرب بالقدوم في كومة الرماد ويسحب ، وبوقوف جدي وأبي على رأسه ، ضاعف جهده لكنه هذه المرة ضرب بالقدوم فقرحف شيء مّا ، توجس هو وتلكأ ، ولأمر ما خفق قلب جدي ، صاح به : ما هذا الصوت ، اضرب واسحب الرماد ،
ضرب الصمودي بقوة وسحب الرماد ، فانكشفت ملعقة الفضة .
دارت الدنيا بأبي وجدي صدمة وغضباً وتعجباً
وقبل أن ينطقا توجه الصمودي إلى جدي بنظرة ضارعة مستكينة وقال : عم عبدالله ولا واحده حداشي.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً