الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة في رواية الأنس والوحشة - رياض حمادي
الساعة 09:23 (الرأي برس - أدب وثقافة)


في روايتها "الأنس والوحشة" - الصادرة عن الميثاق للطباعة والنشر, صنعاء 2006- تتقمص هند هيثم روح عرافة فتستحضر أرواح موتى من عصور عربية مختلفة, تبعثهم في باريس وتحاكم بعضهم في محكمة العدل في لاهاي وتقيم لهم محكمة أدبية تاريخية وخصوصاً لملوك وأمراء الدولة الحمدانية: سيف الدولة وأبي فراس وخولة ودعد وشاعرهم المتنبي.
في هذه الرواية ستجد الكثير من الشخصيات التاريخية التي ارتبطت أسماءها بالسياسة مثل الحجاج ابن مسعود الثقفي, زياد بن أبيه, الشمر بن ذي الجوشن, مسلم بن عقبة, عبدالله بن زياد, قطري بن الفجاءة, جهيمان العتيبي, أحمد شاه مسعود, وغيرهم. وستجد الكثير من أخبار الماضي الحاضر فـ"خالد بن عبدالله القسري يموت تحت التعذيب.. أسامة بن لادن يحكي قصة بوش وحكاية الطفلة عن عنزتها .. أيمن الظواهري يطالب الشعب الباكستاني المسلم بخلع مشرف الخائن .. الشيوخ يطالبون سعد الفقيه بالتوبة والأوبة .. التائبون يعترفون على الشاشة ويطالبون بأجر الاجتهاد .. أبو مصعب الزرقاوي اختفى .. صدام حسين في المحكمة.. عبد القدير خان لا يزال قيد الإقامة الجبرية .. أبو حيان التوحيدي ينتحر بعد أن أحرق كتبه .." (الرواية ص 32). وهي بهذا المزيج بين الماضي والحاضر السياسي, واستدعاءها للماضي تقول لنا بلغة أدبية أن لا شيء جديد.

 

بعض الأسماء التاريخية تغيرت وظائفها مثل سيبويه الذي يعمل أستاذاً في الفيزياء, وفي هذا التحوير دلالة لا تخفى وهي القول بأن سيبويه لو كان عالماً للفيزياء بدل كونه عالماً في النحو لكان حال العرب أفضل. وهكذا الحال بالنسبة لأحمد شاه مسعود, الذي يعمل في الكيمياء, وعبدالرحمن الداخل الذي يشتغل ممثلاً سينمائياً, وأبناءه في التجارة, وغيرهم من الساسة العرب والمسلمين الذين ظهروا في الرواية خلافاً لظهورهم في التاريخ.
السؤال المركزي يدور حول خولة الحمدانية وأختها دعد التي تبحث عنها في باريس وتسأل عنها أحمد شاه مسعود, أستاذ الكيمياء, كي يحدثها عن فرارها من حلب وعن مكان تواجدها. وكما جاء في الرواية, هي حكايات تحكيها الراوية من وجهة نظرها, وتعكس فيها نفسها وتبقي على صوتها فيها قوياً. هي "فُتات حكايات كثيرة مرتبة على نسق فوضوي", عن سير مشوشة وأخبار متناقضة. وكل شخصية هنا لها حيوات متعددة وأرواح كثيرة, تظهر وتختفي, تموت وتُبعث, لتقول لنا أن الحَجّاج على سبيل المثال ليس شخصية تاريخية مرتبطة بزمنها ومكانها فقط وإنما هي رمز للقمع والطغيان الذي لم ينقطع وجوده عبر التاريخ العربي والإسلامي, وهو في هذه الصفة يشبه "خريف البطريرك" وحياته الطويلة في رائعة ماركيز.

 

لنتأمل في هذه المقاطع التي تربط بين اسم الحجاج وصفة أي ديكتاتور آخر مثل صدام حسين على سبيل المثال:
"اعتقلت قوات حفظ السلام الدولية الحجاج في منطقة لم تسمح الولايات المتحدة بكشفها.. في خضم الفوضى التي سادت بعد اعتقاله فوجئ الدوليون بخبر محاكمة الحجاج كمجرم حرب .. سلم الحجاج إلى محكمة العدل الدولية وبدأت استعدادات المحاكمة.. انطلق فريق الادعاء بقيادة كارلا ديل بونتي لجمع ادلة الإدانة .. تعاون سليمان بن عبدالملك مع الادعاء بشل لا محدود .. فتح لهم أرشيف مخابراته, وسمح لهم بالتقصي عن أخبار المجازر كما يشاؤون .. بفضل تحريات الفريق اكتشفت عدة مقابر جماعية في العراق والحجاز والبحرين .. في الأهواز كادت الفظائع التي اكتشفت وقوعها هناك إبان الحرب على الخوارج إلى جر الجنرال أبي صفرة للمحاكمة أيضاً بتهمة ارتكاب جرائم حرب بحق المدنيين لولا وفاته في خراسان التي استقلت بمجرد سقوط الحجاج وغرقت في دوامة حروب غير منتهية ..." (الرواية ص 84).

 

لكن الحجاج يظهر في جنازة زياد بن أبيه, "كان ظهور الحجاج في جنازة معلمه زياد بن أبيه أول ظهور علني له منذ محاكمته التي اختفى بعدها كما لو ذاب في العدم.." (الرواية ص 151).
ثم "مات الحجاج بن يوسف في ماريبا .. قُتل .. وفق أكثر الروايات ذيوعاً .. اقتحم المحققون القادمون من مدريد قصره .. حققوا مع خدمه .. فحصوا جثته .. صوروها .. قلبوها .. أرسلوها إلى المشرحة .. خرجوا بتقرير يقول أنه شنق حتى الموت .. لم يجدوا دليلاً على ما جاء في تقريرهم .. لم يطلب أحد منهم أن يبحثوا أكثر .. أغلقوا ملفات القضية .. وضعوا الجثة في كيس حفظ الجثث البلاستيكي .. شحنوها بالطائرة إلى دمشق حيث أمر سليمان بن عبد الملك بدفنها دون ادنى ضجة .. لم تسنح الفرصة للحجاج ليضحك هازئاً حين أعلن الأمريكيون أن العراقيين ليسوا مستعدين بعد للديموقراطية .. فقط بعد شهر من موته .. غير أنها مجرد رواية ذائعة.." (الرواية ص 220).
ومقطع لاحق يقرر الإبقاء على الحجاج معلقاً بين الحياة والموت: "اختفى الحجاج ... ظل المهتمون ينطحنون في مصيره .. لا دليل على وفاته .. ولا دليل على أنه لا يزال حياً .." (الرواية ص 220)
هناك شخصية أخرى في الرواية تحمل اسم يوسف, وهي شخصية يحوم حولها الغموض ربّاه عبدالله الحمداني وعاش مهاناً من قبل الحمدانيين وكان عليه ان ينفذ طلبات الحمدانية كلهم ويتعرض لتحرشاتهم ويكتم أسرارهم. كتب (تغلب بن داؤود الحمداني), "أحد الذين تولوا وزارة الدفاع في عهد سيف الدولة ثم أحد الفارين من سيفه", كتب في مذكراته بأن مساعد سيف الدولة الحمداني في حملته الأخيرة لصيد الحمدانية كان شخصاً اسمه يوسف وأن اسمه الحقيقي سرحان. أبوه مجهول وأمه جارية فارسية كانت ملك يمين عبدالله الحمداني, كان نافذاً وضليعاً في المسائل الأمنية. يقرر سيف الدولة قتله لأنه يعرف الكثير من الأسرار الخطيرة, يقول لسيف الدولة قبل ان يقتله: "أنت ستقتلني لأنك ما عدت تحتمل رؤية بئر أسرارك يمشي." (الرواية ص 210).

 

والمشهد الذي تسرد فيه الراوية موت يوسف وتكفينه من أجمل المشاهد لغة ووصفاً:
"لم أتخيل أبداً أن الفناء قد يصيب يوسف .. كان شيئاً أزلياً لا بداية له ولا نهاية .. ركناً من أركان الكون .. كائناً لا أعرف أن الحياة يمكن أن تكون بدونه.. كان الحزن يجثم في كل زوايا قلعة حلب ... شعب قلعة حلب الصغير كان ينشج مع ملكته ... كان ضوء الشمس يغطي الغرفة بنعومة توهجها نقط الجدران الذهبية والفضية .. يوسف كان هناك .. ممدداً في وضعه الملكي والشمس تعابث خصلات شعره الرمادية .. خيط دم رفيع كان يتسرب من بين أصابعه .. في مشهد نهاية سينمائية نموذجية خلدته .. كان عندليب يكمل المشهد السماوي بغنائه على الشرفة .. بعد موت يوسف كان الكل مستعدين ليقسموا أنهم شاهدوا موته السماوي على فراش أبيض في غرفة ذهبية وعندليب وحيد يغني عند رأسه كأنما أرسل من الجنة مباشرة .." (ص 214- 216).

 

وأنت تقرأ "الأنس والوحشة", بعوالمها الغريبة وهذيانها الشعري الذي يمزج التاريخ بالسياسة والماضي بالحاضر, ستدرك أن كاتبتها قارئة عميقة للتاريخ ومتذوقة للشعر. وللشعر مكان مميز, ليس في روح العمل فحسب, بل وفي العتبات التي تستهلها بأبيات معبرة, كما أن العناوين الداخلية لا تخلو من النَفَس الشعري وهذه خاصية تحتاج إلى وقفة مطولة أخرى.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً