- الأكثر قراءة
- الأكثر تعليقاً
- دورات طائفية باشراف إيران للوكلاء الحوثيون الجدد!
- محلات عبدالغني علي الحروي تعزز تواجدها في السوق العالمي بالتعاون مع شركة هاير
- الحوثيون في إب يسجلون في مدارسهم طفل الصحفي القادري المخفي لديهم بإسم غير إسم أبوه
- علي سالم الصيفي ودورة في تمويل داخلية الحوثيين و الاستحواذ على 200 مليار ريال سنوياً
- إتحاد الإعلاميين اليمنيين يدين توعد قيادي حوثي بتصفية الصحفي فتحي بن لزرق
- بيان ترحيب من منصة (p.t.o.c) بفرض عقوبات امريكية على قيادات حوثية متورطة في جرائم منظمة وتهريب الاسلحة
- منصة تعقب الجرائم المنظمة وغسل الأموال في اليمن (P.T.O.C) تصدر تقريرها الجديد «الكيانات المالية السرية للحوثيين»
- إسرائيل تدعو السفن التجارية المتجهة لميناء الحديدة بتحويل مسارها نحو ميناء عدن
- المكتب السياسي للمقاومة يشارك احتفالات الجالية في امريكا بعيد ثورة ٢٦ سبتمبر
- 120 خبيرًا سعوديًا وعالميًا يناقشون مستقبل التعلم مدى الحياة في مؤتمر "LEARN" بالرياض
دائماً كانت تأسرنا ابتسامتها ، سواء أتت إلى بيتنا أو ذهبنا إلى بيتها ، أو لقيناها في مزقر من مزاقر الجيلانية ، طويلة ورشيقة وجمالها أخاذ رغم أنها قد جاوزت السبعين ، تمشي ببطء وتتحدث بصوت خفيض هادىء ، حين نلقاها أصوب عيني إلى عيني أخي إبراهيم رحمه الله فيبادلني نفس النظرة ، نبتسم دون كلام ، أما ما يجول بخاطرنا فهو استحضار صورة الممثلة مريم فخر الدين ،كان أبي كلما شاهد فيلماً لمريم فخر الدين مع فريد الأطرش أو عبد الحليم حافظ يقول هذه تشبه فلانة، أيام شبابها.
حين كانت فاطمة شابة كان أبوها من كبار وجهاء الجيلانية، كان قد وعد ابن عمها بالزواج منها منذ الطفولة ، لكنها لم تكن تحب ابن عمها ، كانت تحب شاباً آخر من نفس أهلها ، جيلاني من أبناء عمومتها لكنه ليس بمثل قرابة ابن عمها المباشر ، ابن عمها الذي رباه أبوها ، وظل يرعاه ويحدب عليه كما يحدب على أبنائه.
الآخر أبوه وجيه كبير إلا أن بينه وبين أبيها سوء تفاهم دائم ، لكنها تحبه ، تحبه رغم أنه ليس وسيماً وسامة ابن عمها ولا حتى ربع وسامته .
قصتهما شاعت في الجيلانية تحدث عنها البراحة على الحسي (جلابو الماء من البئر) ، وتغنت بها المغنيات في المحاضر (الأعراس ) على رقصات الشنجع ، التقيا في الرعي والعلف ، وهاما ببعضهما حتى الجنون حباً طاهراً عفيفاً . لكن أباها المتسلط صمم على حرمانه منها وحرمانها منه .
***
في المنزلة جاء يتسقط الدعم من جدي ، وكبار وجهاء الجيلانية ، جدي سود ، وجدي عبده هيج ، وجدي عبدالله علي وغيرهم ، أبوه العابد الزاهد الذي لا يتحدث إلا الفصحى ولا يبدأ جملة إلا بعد أن يسبقها بجملة الشهادة : لا إله إلا الله .
كان يهمس بالأذكار قبل أن يرفع صوته في المنزلة : لا إله إلا الله ، هذا يحرم ابني ممن يحب ، ويزوج ابنته بمن لا تحب ما قولكم في هذا قولوا كلمة الحق ..
الجماعة يقلبون أكفهم حائرين ،أما العاشق فكان مجنوناً تماماً ، فتاته مثل امبردة ( حبّة البرد) ، تحبه ويحبها ثم لا يستطيع الوصول إليها بسبب سخافات لا تدخل العقل ، لم يستطع الجلوس مرة يقوم ليمسك بركبتي جدي عبدالله ، ومرة يمسك بركبتي جدي سود ، يكرر نفس شرح حاله معها وحبه لها .
قال له جدي عبدالله : ماذا نفعل أبوها قتله العناد وهو لا يسمع كلام أحد وليس بوسعنا أن نرغمه.
أبي الذي حرم من أمي لأسباب مماثلة واضطر ليتزوج امرأتين قبلها غصباً عنه ، كان يتعاطف معه كثيراً ، لكنه لا يملك غير التعاطف معه فالحساسيات في هذا الموضوع كثيرة جداً.
اليوم الثاني كان حزينا ويائساً ، بكرت هي إلى البئر قبل الناس كلهم ، كانت تعرف أنه سيبكر .
دارت الدنيا حين التقيا ، قالت له: ما هذا الحال الذي نحن فيه
رد عليها ببيت شهير للشاعر سود معمى :
ما يغوص في بحر ستين
إلا الذي فلان هويو
قالت له : وماهو الحل يا هوي ( أيها شجاع المغامر) .
أسقط في يده فهو وهي أبناء قيم أصيلة
لم يحر جواباً ، وبدأ توافد الناس على البئر .
بعد ثلاث ليال دوى صوت بندقية الميزر (الماوزر) تبعته غطارف ( زغاريد )كثيرة ومتداخلة ،كان الصوت قادماً من بيت أبيها، قلب العاشق دق ، دق حتى كاد ينخلع من مكانه ، إنه الحب ، شعر بالدنيا تضيق ، إنها تطير من يده ، المحبوبة الجميلة ستكون لابن عمها الذي لا يستاهلها ، إنه لا يحبها ، هي تعرف وأبوها يعرف . لكنها القسوة والأحقاد والغل الذي يأكل النفوس .
ترك البيت وخرج واضعاً عصاه على كتفه ،لا يعرف إلى أين يذهب ؟
فكر أن يلقي بنفسه في حسي المسعودية ، ويرتاح من وجع الحب ، توجه إليها ، جلس على المعبر (فم البئر ) ممسكاً بالخرزة ، بين الفينة والأخرى يشاهد ضوء القمر المتعامد على ماء البئر الجم .حين هم بإلقاء نفسه فاجأه وصول ثلاثة شباب من نفس سنه ، تضايق من مقدمهم ، لكنه طاوعهم ، فلم يكن له بد من الذهاب معهم ، لو رمى نفسه الآن في البئر فلن يموت ، ذهب معهم ، وحين حاول الليلة الثانية أن ينام لم يستطع هو النوم
لبس وتأنق ، ودهن كوفيته بالعطر والسمن وعلى الكدافة المحاذية لبيتهم وقف وبدأ يصفر لحن الزير الذي يغني عليه الشاعرسود معمى معظم أغانيه الشهيرة .
ما تَحِبْ لا اللّي يْحِبّكْ
تّفَصّعَهْ كَمْحَلاوَه وتّمَضّغَهْ كَمّشَبّكْ
شعرت هي بوجوده وحاولت إرسال تلويحة له لكن أباها وأمها وأخاها كانوا لها بالمرصاد
***
جاءت أيام العرس ، غسلوا للعروس وحضرت أدوات الزينة كلها ، أمها وخالاتها وعماتها يشرفن على تزيينها مشفقات عليها مما يعلمنه ، قربن الطيب والشذاب واللباب والزر والهيل وقربن الظفر والثريرة ( الذريرة) ، وجاءت المشاقر من سوق الأحد ، الكاذي والبيضاء والمغيبراء والكردس والوالة والوزاب والشمطري ، جاء فل القريشي من اللجام بوادي مور ، أما الفل العزاني فجلب من باجل ، كل شيء يتم هنا على حساب وجدان فاطمة وعاشقها العتيد .
النساء بعضياتهن وملابسهن وقمصهن الملونة وظللهن المقبلة يشكلن دائرة كاملة يتوسطها الشاعر المغني يوسف خبش ، وهو يصدح :
فيْ بَابَ مُّحْصَنَهْ كَبّونَا مَفَدّمُو
ومِسْيكِينْ يَا للّيْ بَلاشْ عَيْنَهْ تَقْطُرْ دَمُو
هو يقول والنساء يرددن بعده ، فاطمة تسمع ، وتتذكر عاشقها الذي عينه تقطر دماً ، بسبب حرمانه منها ، هؤلاء المغنون يعرفون الأسرار . تسقط دمعتها وتتمنى لو تموت قبل أن تزف الليلة
****
الساعة الآن الواحدة ظهراً تسع ساعات ويكون العرس قد انتهى ، عند التاسعة مساءً ستكون حبيبة القلب فاطمة في بيت زوجها ابن عمها ، الدنيا تضيق بالعاشق ، أبوه استسلم للأمر الواقع ، وجهاء الجيلانية رضخوا لعناد أبيها وعنجهية أخيها السخيفة، ماذا بوسعه أن يفعل سوى أن يوكل أمره إلى الله .
فيما هو يجوب مزاقر الجيلانية مهموماً يفكر في مأزقه المأساوي ، لقي شوارب يتكافت في مشيته ( يسرع بخطى متقاربة) متجها إلى منزلتنا ، سأله بفضول : مالك شتطير ( مالك تسرع هكذا وكأنك تريد أن تطير).
رد شوارب :الولي علي جيلان الأعمى اليوم عندنا ؟
دق قلبه بعنف وقرر أن يتبعه
***
قبل دقائق كان الرجل الصالح صاحب الكرامات الشهيرة قد وصل ، رغم عماه فهو متعود على ركوب الدواب والنزول عنها وحده . إلا حين يزورنا ، فأبي لا يمكن أن يتركه ينزل بنفسه ، يقبل يديه وركبتيه ، ويحمله عن دابته حتى يضعه على متكأه ، مهما حاول الولي الصالح الرفض فإنه لا يدعه ، حين وصل هذا اليوم أخذه أبي مباشرة ووضعه على المتكأ الخاص به كل ما أتي فيما هو يوالي الدعوات لأبي .
لم يكد الولي الصالح يستقر على متكئه ويكمل أسئلته لأبي عن الأهل حتى وصل العاشق مسرعاً يتمغشن (يخلط الكلام بالبكاء) ، مباشرة أدخل نفسه تحت كرسي الولي وهو يقول : أنا عند الله وعندك حرموني ممن أحب .
بابتسامة هادئة رد الولي الصالح : لم يحرمك أحد إنها زوجتك .
ذهل العاشق وذهل أبي وبصوت واحد أجاباه: ترويحتها الليلة (دخلتها الليلة)
وبنبرة أكثر هدوءً وابتسامة أكثر ثقة كرر: يا ولدي افهم واخرج من تحت الكرسي ، هي زوجتك أنت ، اطمئن الله يقبّل قبولك.
لم يدر العاشق ولا أبي ماذا يقولان ، خرج العاشق من تحت الكرسي وطفق يقبل الولي الصالح في رأسه ويديه وركبتيه ، ودموعه تترى . ثم مضى حائراً يخاطب نفسه : كيف تكون زوجتي وترويحتها الليلة على غيري .
***
منذ الصباح كان العريس يشعر أنه ليس على ما يرام ، صدره ثقيل ، وأحواله غير جيدة ، صارح عمه الذي كان يشرف على كل صغيرة وكبيرة في العرس ، فنظر إليه بمزيج من المحبة والاستهجان ونهره : الليلة ليلتك ، كن راجل
حين بدأ الزّفّ عند الخامسة مساءً كان لاعبو الدّمّة صفَاً طويلاً يهدرون :
امْحِرِدْ حَالفْ يمينَ الله قاطعْ
ما يقفْ في امصفّ الا كل شاجعْ
يحزبَ امشرفا ويرمي في امصدورْ
خاطرك يا جدنا يا معكتيفْ
والعريس على حمار أبيض طويل يتعاظم شعوره أنه ليس على ما يرام ، مر الزّف بمزاقر الجيلانية حتى وصل إلى بيت خالته ، كانت قد أعدت الماء البارد ، والنقوط والعشاء واستعدت مع جاراتها لوصلة رقص حامية يشاركن بها ابن أختها فرحه ، سوف ترفع ظلتها عالياً وتتخيل عليه حتى تقوم القيامة . ، لكنها فوجئت بوجهه المتغير.
نزل عن الحمار ودخلت به ليستريح .
-مالك يا ابني ؟
-ما نش داري ، مسومو ( أشعر بدوخة) .
-يمكن شعبت ؟ (تعرضت لضربة شمس) ، سأنادي امريّس (المزين) يشعّبك .
لم تنتظر رده وخرجت تصيح : أحمد جمال ، أحمد جمال
-حاضر
- ايته اللاهم ( تعال إلى هنا) ، امعرس شاعبو تعال شعّبه
عندما دخلا هي والمزين ، كان بياض عينية يختلط بسوادهما ، رآه المزين وتمتم : يا سيد الكونين والثقلين
كان العريس يتهاوى نظراته تستنجد دون جدوى ، حين أمسك المزين برأسه لفظ أنفاسه .
***
كان موت العريس أثناء الزف حدثاً مهولاً خلخل مفاصل الجيلانية ، وأصاب عقلها بالذهول ، وصل الخبر إلى منزلتنا ، كان الولي الصالح مستغرقاً في أذكاره ، وفهم أبي معنى قوله للعاشق (هي زوجتك أنت ) ، هو رجل يكشف الله له ما لا يكشف لغيره ، وقد رأى فأشار إلى ما رأى لكن أبي والعاشق لم يفهما مغزى الإشارة.
بعد شهر من موت العريس جاء والد العروس إلى جدي منكسراً يوسّطه على العاشق وأهله ، قال له: قل لهم إني أرحب بهم ومستعد لتزويج ابنهم من ابنتي.
لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا
لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا
- نصوص
- اخبار أدبية
- آراء وأفكار
- اليوم
- الأسبوع
- الشهر