الأحد 24 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
( قصة قصيرة)
تلك الموجة العالية.. - أحمد السري
الساعة 13:34 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

جلست تقلب هاتفها.. لاجديد منذ عقد من الزمان.. التأوهات ذاتها وكذلك الأفكار، معظمها سطحي وعابر. 
نريد أفكاراً تشبه المأكولات الفضائية، قالت مرة، وقد قرأت أن لرواد الفضاء طعام خاص يستهلك دون حاجة للذهاب إلى الحمام..كل شيء يبقى في أجسادهم للفائدة ..
أخذت تبحث في صفحات متنوعة عمّا يبقى في العقل فلا يُنسى ولا يغور ويظهر نفعُه. 
مؤخراً، التفتت إلى اسم جديد، رأته جديراً بالانتباه، يكتب بتنوع فيختصر هنا ويطيل هناك، مراعاةً لعصر السرعات الذي صيّر الفكرة ومضة خاطفة تضيء وتذهب، إذ لا وقت للتفكير، فنحن على الحقيقة في عصر الاستهلاك والنسيان، حتى هذا الذي نستهلكه بالعين والعقل، لا يستبقى منه شيء، يذهب هباءً منثورا. 
 ومذ وقعت على الاسم الجديد مؤخراً بدأت تقرأ بهدوء وتركيز في صفحته وفي صفحات مميزة تشبهه، رأت أن هذه الصفحات تحلّق بها بعيداً عن الغُثاء الطافح في كل زاوية وركن، أحبت هذا الاسم الجديد، رأته مميزا، كأنه قادم من وراء حُجُب، متنوع المشارب الفكرية مشرئبا بكلماته نحو السماء.  أدمنت قراءته وقراءة بعض من يشبهه في الكتابة أو يجتهد في عرض معاني شيخهم المبجل. 
نصحت أصدقاء صفحتها بقراءته، لعلّهم فعلوا أو بعضهم على الأقل ممن هو حريص على متابعتها والثقة بذوقها الفكري. ظنت انها ستستقر هنا، في ضفاف هذا العقل الخاص الذي يحررها من قيود الأرض البشرية  ويمنحها نعمة اللامحدود ويرتفع بها بعيدا في السماء، ولو على مستوى الأثير، تماما مثل هذا الأثير الضوئي الذي ألفناه منذ حين .
زاد الانشغال بالكاتب وأفكاره، فرأته في المنام، والمنامات أسرار، لكنه في بعض لحظات الحُلْم كان مجرد وميض، وميض روحاني تظهر ملامحه وتغيب، وفيها من أنوار الكشف ما يكفي لمعرفة ما وراء الغيب..
أفاقت من غفوتها مترعة بنشوة روحية طاغية، لو أنها تعود الى النوم فتواصل الحُلْم.. لا فائدة، استرداد صور الحُلْم وعطر الأحاسيس الذي ملأ كيانها كانت هي الحاضرة..
الأفضل أن أشعل سراجا وأقيد هذا الحلم، فالأحلام تتبخر عادة عند الصباح، الصباح مواجهة مع الواقع  ولا يبقى من الأحلام الا ما له صلة بضوء الصباح. 
أشعلت النور، فاجأها الضوء بطرد نصف أحاسيسها الجميلة، لابد من الظلام، عذوبة الأحلام أعمق في العتمة.. لكنها تريد أن تكتب، أن تمسك بتلك اللحظة، أن تقيد أدق تفاصيل الأحاسيس التي ضخّها الحلم في كل خلاياها..
لنمسك القلم والورقة في الظلام، قالت لنفسها، وأخذت تكتب.. التركيز الزائد ممنوع، سيبدد أحاسيس الحلم..  ومع ذلك استمرت في الكتابة وقلبت الصفحات، كتبت وأتمت وهي غير راضية.  حدثت نفسها بأن تكمل عند الصباح ما بدأته ليلاً..
ثم سيكون وصف الحلم هذا من أجمل منشوراتها الجديدة. لم تعد تهتم بكم الإعجابات، لقد تعلمت ان تفرق بين عقل وعقل، المهم أن أكتب شيئا نافعا ويبقى في العقول، تماما مثل طعام رواد الفضاء ومثلما يكتب شيخها في صفحاته المميزة. تريد منه وحده فقط شهادة إعجاب بما تكتب، هذا يكفي، ويوم ما ستكتب مثله، لم لا؟ 
عادت تحاول النوم، وهي راضية عمّا كتبت، لكن حواراتها مع نفسها كانت أجمل مما كتبت، تمنت لو أن العلم قد تقدم واخترع أجهزة تسجل تلك الخواطر النفيسة والحوارات الذاتية البديعة بأفقها المفتوح ولغتها الخاصة. أحلام يقظة من طراز خاص في إهاب بلاغي بجوف الليل. 
أفاقت في الصباح مرهقة من تبعثر نومها وورود بعض الكوابيس التي حلّت محل الحُلْم...
آخر ما تتذكره الآن كانت الكوابيس، وحين أمسكت بالدفتر لتقرأ ما خطته في الظلمة، رأت خربشات وبعض كلمات مبعثرة، كان قلم الرصاص المتاح بجانب وسادتها بالكاد يخط خربشات وكلمات ناقصة...لم تستطع تذكر  ما كتبت، غَبَش أفكار مبعثرة لا رابط بينها. 
أحزنها ذلك كثيرا، حزنت الآن على ما عرفت وعلى ما نسيته من تفاصيل، لكنها أصرت على مواصلة قراءة تلك الصفحات النورانية، وسيأتي الشيخ ثانية في المنام، سيأتي وميضه الروحي وستنطرد الكوابيس وتتحرر .. 
بدأت تخاطر بفكرة أن لا تحلم ولا تصدق ما يأتي به الليل.. النهار أولى بالاتباع.. الأفضل أن تسجل الآن في يقظتها النهارية قصتها مع الحلم والكتابة..
أمسكت قلماً جافاً بلون أزرق وورقة مسطورة.  بدأت الكتابة...  لمحت  فيض الرسائل الالكترونية، قاومت قليلا، لكنها أخيراً تركت القلم والتفتت للرسائل الكثيرة، أخبار مألوفة ومواعظ يتيمة، وشرائط فيديو مكررة. حدثت نفسها بالعودة الى الكتابة ثم نسيت، وحين تذكرت الكتابة  في هزيع المساء المتوغل في الليل، رأت أن أفكار القصة وما ارتبط بها من أحاسيس قد غارت، تلاشت هنا وهناك، استوت عندها أحلام الليل والنهار، توقفت قليلا، لتكتب عن تجربتها هذه بالذات وكيف تتبخر أفكار جميلة وأحاسيس عميقة بمجرد لفتة هنا وأخرى هناك..فتحت صفحة جديدة في هاتفها، أخذت تنقر على لوحة المفاتيح لاستحضار الفكرة ومواصلة الكتابة.. لم يكن الأمر سهلا.  (أن تكتب بصدق يعني أن تعاني)، هكذا كتب شيخها مرة، توقفت للتفكير ، أغلقت الانترنت لتنفصل عن عالم الأثير الضوئي الموازي لعالمها الحقيقي..حاولت النوم، لعل الحلم يأتي ثانية..
في اليوم التالي خرجت الى الشارع، حركت أقدامها صوب الساحل لتتأمل البحر ولتجدد علاقتها بموسيقى الماء والصخر وهما في علاقة أبدية لا ملال فيها ولا شكوى.. وطالما سحرتها تلك العلاقة وأطالت تأملها..

في الطريق إلى الساحل حاولت إبعاد التصورات الأثيرية من رأسها، والتطلع إلى وجوه الناس الراجل منهم والراكب.. أغرت نفسها بإحساس أنها تنعم ثانية بعلاقة مباشرة مع العالم الواقعي..
واصلت السير الى الساحل، جلست حيث اعتادت.. ألقت السلام على البحر وساحله، ثم فتحت الهاتف وأرادت مواصلة كتابة ما بدأته في البيت..لم تنجح في استحضار مزاج خاص للكتابة، تحتاج أن تنفصل عن هذا العالم أيضا لتكتب.  
رفعت رأسها بعد لحظات،  رأت رؤوسا كثيرة حولها منكبة على هواتفها.. عالم حقيقي حولها، ثم لا أثر لهم ولا حس، كلهم مشغول بآخر بعيد.كيف يُستبدل عالم بآخر بهذه البساطة..؟ تساؤل كان مثيرا في البداية، اعتادته العقول ونسيته..
أخذت تحدق في الوجوه، هناك فتاة تفكر ، تنظر إلى البحر وليس بيدها هاتف محمول.. لعلها مثلها فارة من زيف عالم الأثير الضوئي وفوضاه.. لعلها تشتاق الى السباحة في البحر فلا تستطيع.. 
تحركت من مكانها، أرخت ثيابها وسحبت بنطالها إلى منتصف الساق، ومشت حافية في الساحل ممتعة أرجلها بالغوص في الرمل المبلول، وبالمد والجزر الخفيف..
وصلت الى حيث الصخور، اعتلت صخرة كبيرة بحذر شديد، من هناك أخدت تتأمل الموج والصخور.. وتصغي لموسيقى الماء، وبقليل من الإنصات المركز أمكنها التقاط نغمات متفرقة حانية تنتشر بخفوت في ثنايا العناق  المتواصل بين الموج والصخر، لا شيء سوى الموج والصخور، ومع ذلك فموسيقى المد والجزر مكتملة النغم، وكل موجة تختلف عن أختها في قوتها وفي مساحة معابثتها للصخر وفي صوت ارتطامها، ولحن انسحاب الماء منها.. ثمة تنوع أخّاذ، وحياة كاملة في هذا الذي يبدو مكرراً ومملا .. 
كانت بين شرود وتأمل،  وتتابع بعض فقاعات الموج تتلوى بين الصخور حين داهمتها موجة عالية عريضة غسلتها من قمة الرأس حتى أخمص القدم.. بللتها والصقت ثيابها بجسمها الفاتن، نضت عنها الموجة غطاء رأسها  وأخذته معها وهي تنحسر  فانتشر شعرها سابحا للحظات قبل أن يستقر مبعثرا بجمال فوق ظهرها وصدرها ويغطي بعض وجهها، تمسكت بالصخرة كي لا تدفعها الموجة فتؤذَى.. جاءت موجة ثانية وثالثة ففعلت بها ما فعلته الموجة إلأولى، اغتسلت بماء البحر ، الملوحة أحرقت عينيها فذرفت دمعا غزيرا لتصفو عيناها بعد ذلك وترى لأبعد مما استطاعته زرقاء اليمامة قديما.  كانت في غاية الغبطة والحبور، وتغشاها سكينة عميقة رأت معها نفسها وكأنها للتو ولدت من جديد في عالم من بهجةٍ خالصة، لذيذ وماتع، ثمة قيود تهشّمت، وشيء أسود ثقيل ذهب مع الموجة العالية، وحل محله نور ، أنقى كثيرا من ذلك الوميض الذي رأته في المنام... 
بقي هذا الإحساس طويلا، عميقا ولذيذا، وقد حفظ البحر سرها في تلك اللحظة وسترها عن كل عين..وهي غير آبهة أصلا بهذه الصغائر أمام ميلادها الجديد. مرت الأيام وما يزال الألق الروحي والخلق الجديد يزداد حضورا وبهاءً في أرجاء عقلها وشعاب نفسها.. 
ملأتها تلك المشاعر والأحاسيس الجديدة بفيوض من الوجد والحرية.. تفاعلت في أحشائها ودروب عقلها ونبض فؤادها،  ثم رأت نفسها تدفع للكتابة دفعا لتشرح عالم الأنس الجديد الذي غشيها بعد تلك الموجة العالية.

١٨/٧/٢٠١٩

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص