السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
تصدير مجموعة "طاعن في الضوء" للكاتب زيد سفيان - زهير سعود
الساعة 11:59 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

في مقدمته للجزء الأول من عمله الخيالي (حديقة الممرات المتشعبة) قال الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس: (إنه جنون منهك ومستنزف تأليف كتاب ضخم، تفصيل فكرته في خمسمائة صفحة، من الممكن أن تشرح شفوياً بشكل تام في خمسة دقائق. أفضل طريقة لتناول مثل هذه الحالة هو التظاهر بأن هنالك كتب قد وضعت مسبقاً، وتقديم تلخيصاً وتعليقاً عليها). أما كاتب القصة القصيرة الطبيب انطون تشيخوف فقد قال: (إن على أدباء القصّة أن يحذفوا نصف ما يكتبون في قصصهم قبل نشرها)، والقاص الروسي هو صاحب نص "ثروة" القصصي القصير جداً، الذي اعتمد نموذجاً شاهداً لمسابقة ستيف مودد الأمريكية في هذا الفن. أما القاص الفرنسي جي دي موباسان فقد كتب لتقديم روايته "بيار وجان": (الكاتب لا يتمثل هدفه في سرد حكاية ولا في تسليتنا وإثارة عواطفنا، بل في إجبارنا على التفكير في المغزى الخفي للأحداث.. رؤيته الشخصية للعالم هي ما يريد إيصاله لنا في كتاب)... لقد أجاب الخيال الأدبي في القرن العشرين بأن القصة القصيرة جداً هي النموذج الأمثل لتحقيق الاقتصاد الدلالي الذي عبّر عن وعي عمالقة القصة المشار إليهم فيما سبق، وهي قصّة الكثافة الشاعرية المستقاة من تأثيرات علم النفس في فنون الحداثة، كما أنها الأسلوب الذي هتك الحبكة القصصية بقفزة نوعية من عهد التغريب الروائي إلى آثار الأقدام الهاربة فوق الثلج_ حسب تعبير الناقد الأمريكي راد بري. مع اندفاعة ابستمولوجيا الزمن ما بعد الحداثي، تم التضييق على الكتاب والصحف، وتنوع مفهوم الحشو اللفظي، فلم يعد التكرار المملّ واللامجدي فحسب، بل كل ما أبعد اللفظ عن الدلالة. إنه الزمن الذي نعته عالم الاقتصاد الأمريكي جيرمي ريفكين بزمن الوصول، وفي هذا الزمن اتسعت مساحة التجريب في كتابة القصة الومضة، المصطلح الذي وجدناه تعبيراً نموذجياً بين الألقاب العربية الكثيرة المطلقة على فن القصة القصيرة جداً، منذ ترجمات وآراء الدكتور جابر عصفور وفتحي العشري لانفعالات وعصر الشك الساروتيين. إنه لمن الطبيعي أن تحظى تلك التجربة بتقويم مشابه لما أطلقه الجاحظ على الشعر في زمنه، حيث صادف الشاعر والشويعر والشعرور. ومع التهافت على كتابة النص الوامض برزت المواقف النقدية المتحمسة والكارهة والحذرة، أزاء ما تخطه الأقلام العربية في مختلف الأمصار، فلا يخفى على كل متتبع عدم نضوج التجربة الكتابية والنقدية في وصف الطبيعة العامّة للممارسات العربية لهذا الفن، وقد تناول كتابي "فن القصة من الملحمة إلى الومضة" الأمر بتفصيل بالغ... اليوم وبعد أن نصدف كتاباً حوى مجموعة قصصية قصيرة جداً فإن أول ما نبحث فيه هو المفهوم الذي أطلقه فيلسوف الدلالة رولان بارت "ثغثغة اللغة"، والثغثغة كما عبّر هذا المبدع أشبه بمحاولات ناجحة لنطق الطفل، وهي كما الأصوات المتقطعة المنذرة بدوران سليم لمحركات آلة تعمل بنجاح، فإمتاع الناقد بالنص المعروض شرط بالغ الأهمية لاكتساب "اللذة" البارتية ومعها "يثغثغ" خيال الناقد لترسيخ ما أضفاه بياض السرد القصصي القصير جداً بمركز التحليل والحركة العميقة لملكة النقد التأملية، فتجري اللغة السطحية مدفوعة بلذة النص، وتكشف للمتلقي البنى الشكلية والعميقة للكتاب المعروض، وقد أطلقها السرد القصصي ولغته الخطابية ومزاياه المكتشفة، مع تحقيق الكاتب لتقنيات وأركان الفن المقصود وانزياحاته الأسلوبية. كتاب "طاعن في الضوء" للكاتب زيد عبد الباري سفيان، حفّزت عنونته لتطواف ممتع في حديقة السرد القصصي القصير جداً.. متنوعة الزهور والفراشات. فالخيال أمتعه استلهام البنى العميقة والمضمرة تحت سطح الرصف الحكائي الظاهر، وهذا شرط من شروط الفن الذي لا يقف على حذف السواد، بل استعاض عنه ببياض مقروء بين الألفاظ والجمل والعبارات، فصناعة الرمز لمرآة تعكس الضوء في اتجاهات متنوعة. و(طاعن في الضوء) عنوان إشكالي مثير للشهية التأويلية، صنع ثغثغة محبذة للمقاربة التناصية مع كتاب باولو كويللو (محارب الضوء). والعنوان ابتدأ بالتوتر الذي تصنعه نصوص القصّة في هذا الفن، فهل الراوي الذي أعلن انفصاله عن الكاتب منذ جرس البدء قد أنتج حيادية المؤلف؟.. أم لعله نفسه المتماهية مع عصر الشك للساروت وتصريحات كلود سيمون في ثمانينات القرن المنصرم، حيث أثبتا أن الكاتب لا يكتب إلا ذاته، والنص عكس ثقافته ووعيه. لقد حمل عنوان مجموعة الكاتب زيد وجهتين متضادتين، فهل الراوي شبيه بمحارب باولو الواقف في الضوء لردّ العتمة ومحاربة الشرور، أم هو يائس وعدمي مثل سارتر وكامو، انتهك المرئي والمعاين وربما تشبه بأليوت فحمل شحنات الكره والحقد على مصير عصر الوصول المابعد حداثي والموروث عن بنية اجتماعية لا تنعكس بغير الظلمة والتشاؤم الشوبنهاوري...
ابتدأ القاص بنص بصيرة فناغم العنوان بالعنوان وأثبت الصلة الخاصّة لمجموعته القصصية التي أنشأها على ازدواجية تضادية، فالبصيرة نقلت حال الفقر الاجتماعي وقد واكبته اللامبالاة وفلول المنطق وظلامة العقل في معنى منفعل من بنية شكلية قوامها الحبكة الأثرية لقصة المفارقة التهكمية الساخرة، فالبصيرة إدراك محموم لواقع الحال والكارثة في قائد مركبة تتنوع وجهتها وهو ينتظر نظافة سبله بعقل مأفون.
حوت مجموعة الكاتب مئة ثمانون نصّاً قصصياً، خاتمتها "نكال" ومعه أطلق السرد القصصي القصير جداً ما يدين البشرية في ضميرها، فالحصاد تحزنه الغلال والنكال شرّ العاقبة المستطير. مجموعة الكاتب زيد عبد الباري سفيان القصصية القصيرة جداً هي نصوص متنوعة الأفكار، حملها عقد سلسلة إبلاغية مقتصدة، والعقد اتسمت بالفرادة في امتلاكها التشابيه والاستعارات والمجاز الذي دنى كثيراً من اللفظ الشعري في بعض المواقع، ليحافظ على الطبيعة السردية للنص الحكائي الذي حقق مفهوم الحبكة الأثرية وما استلزمها من محوٍ للشخصية القصصية والبيئة الزمكانية والحدث، حيث تثبت الإطلاقة المكانية للروي المعتمد على الانفعال. لقد استخدم الكاتب في مجموعته القصصية مختلف أشكال الخطابات السردية التي استخدمت ضمير الغائب والمتكلم، ونوعت أساليب النقل الإبلاغية من النقل الإخباري للانفعال الداخلي والخارجي إلى صيغة المراسلات والمذكرات. وفي كل النصوص اعتمد الكاتب لغته الخاصّة، التي حققت ثنائية لغوية هي شرط من شروط الوميض القصصي في إنتاج الخط السردي المزدوج، والذي حمل العمق مع السطح، ليبدو العمق بمنحى دلالي مناقض للسطح في بعض الأحيان، كما في جملته: (قفز من جلبابيهما توم وجيري)، فالسطح أبرز الدعابة والتسلية بينما حمل العمق العداوة، وقد يبدو العمق مشظياً لفكرة السطح (معظم النصوص). أمكن نعت المجموعة القصصية بالنماذج الإيحائية البسيطة، فقد ابتعد الكاتب في تأدية أغراضه عن المعاظلات الكلامية التي تخرج السرد عن الحكاية، كما تجنب المحسنات اللفظية التي توقع النص في شرك الخاطرة، وهو تجنب السطحية والابتذال لحجب الخط صفر في التأويل. وامتلكت النصوص تقنيات عديدة للسرد القصصي القصير جداً، كالأسطرة (نكال وجرم) والفانتازيا (اضمار) والتلغيز (مصلح اجتماعي) والترميز (تلميع) والسخرية (عاقبة) والمفارقات السلوكية (المدينة العميقة وإخراج). حققت النماذج القصصية لكتاب طاعن في الضوء غايات الفن في الوصول إلى عقل قارئ تستهويه سمات هذا العصر المعمارية في مستوى الفنون الأدبية، من حيث اقتصاد اللفظ السردي وإشباعه بدلالات واكبت الطبيعة البشرية لإنسان الزمن الحاضر، وأبرزت النصوص ثقافة الكاتب الشمولية وقدرته على تحميل اللقطة البانورامية أعباء الفكر المعاصر في رصد التبدلات التراجيدية لعصر الوصول. أسس للمفهوم انشغال النصوص بالقيم الأخلاقية والفلسفية والاجتماعية من حيث الفكرة والموضوعات، واستثمار العلوم الرياضية والفيزيائية والجيولوجية والنفسية وغير ذلك في سياقة الفن القصصي الوامض، الذي مكّنته لغة الإيحاء، والانتقال بمركزية اللغة من الصوت إلى الكتابة، ومن الميتافيزيق إلى اللغة الغلوسيماتيكية العلمية، حيث استوعب الفن المقتصد التطورات الأبستمولوجية لثقافة العصر، وأمكن لفراشات الناقدة لويزا فالينزولا أن تطير بين صفحات كتاب (طاعن في الضوء)، والناقدة قالت: (أشبّه الرواية بالحيوانات الثدية الضخمة متوحشة كالنمر أو مدجنة كالبقرة، أما القصة القصيرة فهي تشبه الطير أو السمكة، والقصّة القصيرة جدّاً تشبه الفراشة ذات الألوان القزحية في أحسن أحوالها). لقد حقّقت النصوص رؤية الدكتور فايز الداية لهذا الفن القصصي حين قال: (المسهم في هذا اللون القصصي عليه أن يكون متمكناً في الأصل من الأداء اللغوي والفنّي، ومن أساليب السرد، وعنده رؤى يقدمها في الحياة وفي المجتمع). فمن حيث الأداء اللغوي نكاد لا نعثر على جملة سردية في الكتاب أمكن الاستغناء عنها، أو استبدالها بما هو أكثر بلاغة واقتصاداً ورمزية، كما نوّعت النصوص خطاباتها لتأكيد أن هذا الفن وبالرغم من اقتضابه واقتصاد ساحته فهو جنس أدبي مرن، مدرك للتنوعات الأسلوبية التي اشترطت إجناسية الفن. أما رؤى الكاتب فقد أثبتت ثقافة شاملة للجهات الفلسفية والسسيولوجية والرياضية، جعلت فراشات كتاب (طاعن في الضوء) اللويزية تحطّ على أنواع مختلفة لزهور حديقة الكتاب، وهي تحمل أفكارها العميقة على أجنحة لطيفة شفّافة، أشبعت بالدلالة وسهولة اللفظ. لقد تمثل الكاتب زيد عبد الباري سفيان في نصوصه مقولة إدواردو غاليانو: (أحاول قول الأكثر بالأقل، لأن الأقل هو الأكثر) وهو مكّن الكتاب من أن يكون نموذجاً احترافياً في فن القصة القصيرة جداً، وبالتأكيد فإن القصص المعروضة عكست أسلوب الكاتب الخاص، في مقاربة هذا الفن الصعب، وهو أسلوب مضاف للتنوع المشاهد بين الكتابات العربية الناجحة في هذا الفن..

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً