السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
رقصة العنكبوت، رواية الهامش والمسكوت عنه - فدوى الجراري
الساعة 12:23 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

في لحظات الضعف والتيه والضياع نتمسك بأي قشة أمل قد توصلنا لبر أمان،  يمكننا من تحقيق أحلامنا التي ظلت محبوسة الخيال، و كيفما كانت هذه القشة نحكم قبضتنا عليها حتى لو كانت منسوجة من خيوط العنكبوت أو محفوفة بالمخاطر، فهي الأمل للوصول  إلى الشط الذي نتوق أن تكون حياتنا أفضل فيه.
كان هذا واقع يوسف الشاب البيضاوي الذي لم يسعفه شساعة مدينته وقوة اقتصادها في إيجاد عمل، رغم مواهبه كفنان تشكيلي، ورغم طموحه، ووهو في ريعان شبابه، فقد حكم عليه القدر بالبطالة كحال أبناء جيله رغم شواهدهم العلمية و الثقافية، ورغم طاقاتهم الخصبة، فقد دفن كل شيء فيهم في قبر البطالة و مخلفاتها من إحباط، خيبة وقلة الحيلة، فأصبحت الهجرة إلى القطب الآخر هاجس البعض رغم جبروتها، والانغماس في  براثن الخمر و شتى أنواع المخدرات سلوى البعض الآخر لعل ذلك ينسيهم واقعهم المر، في حين أن البعض الآخر وجد ضالته في امتهان التجارة حتى لو كانت تهريبا  غير مشروع، المهم أن تنقذهم من لقب بطالي، كل هذه النماذج وجدناها رفقة يوسف ورفاقه.
ورغم ما مثلته هذه الشريحة من متناقضات سلبية، نجد في مقابلها شريحة اجتماعية أخرى متمثلة في منى و بيئتها المناضلة المؤمنة بالمبادئ والقيم والدفاع عن الحقوق المشروعة وحمايتها، فمنى كانت مثال الفتاة الرصينة الثابتة المرحة النشيطة المتشبثة بالمبادئ والقناعات التي غرست فيها منذ الصبا من قبل والدها، رغم أنه لا يملك أي شيء غير مرتب عمله، الذي أوشك أن يودعه ويحيله على التقاعد، فقد كان وسام الشرف والقناعة بالمبادئ المثالية الذي ورثها ابنته  كنزه الثمين الذي تفتخر به منى.

 

منى ويوسف جمعتهم حديقة الحب الزاهية رغم تناقض أفكارهما، منى مثال للإيجابية والمثالية ويوسف مثال لليأس السلبي إلا أنهما وجدا ما يوحد قلبيهما، فقد كان مولعا بالفن التشكيلي و فنونه أما هي فرغم تكوينها العلمي إلا أنها تملك حسا فنيا، هذا الالتقاء الفني كان الرابط الذي يذوب معه أي شيء ليجعل علاقتهما العاطفية المستحيلة ممكنة و متحدية كل الصعاب.
في جانب آخر و شريحة اجتماعية أخرى نجد السيد حسن الشخصية الرأسمالية البرجوازية رجل الأعمال الثري بائع التحف الأثرية، الذي كان القشة التي امتدت ليوسف في بحر يأسه ليتمسك بها وتنتشله من البطالة من الضياع من الألم والجيب الفارغ، مستغلا موهبة يوسف في الرسم لتزوير وتقليد نسخ أصلية لرسومات عالمية وبيعها خارج الحدود بأثمان خيالية، ورغم تحذيرات المحبين من أن القشة هي وهم وما تخفيه في مكنوناتها غير آمن، إلا أن يوسف جازف بنفسه وحب قلبه وفنه في سبيل الأمل، في سبيل محاربة شبح البطالة، مغامرة انساق وراءها ليكتشف في نهاية المطاف أن موهبته مجرد طعم استغله رجل شاذ مريض نفسي لإشباع غرائزه ليس أكثر ولا أقل، وهذه هي الرسالة التي كانت تحاول هدى ابنة السيد حسن إرسالها ليوسف من خلال كلامها، لكن الحدث الذي تعرض له يوسف في سيدي بوزيد كان سيد الموقف، الضربة التي أعادت له توازنه  ليستعيد معها وعيه، لتدارك حب قلبه الضائع، وموهبته التي كادت أن تغتصب، ولم يكن كل هذا ليحدث لولا دعوات أمه التي ظلت طوال الوقت تدعو لابنها يوسف بالهداية.

 

يوسف، منى، خالد، سعيد، السيد حسن، هدى شخصيات محورية لرواية رقصة العنكبوت لصاحبها مصطفى لغتيري، رواية نسجها بلغة بسيطة وسلسة وأحداث مسترسلة تجذب القارئ لمعرفة أحداث السطر الموالي، وكعادة لغتيري فقد تضمنت روايته هاته مجموعة من القضايا الاجتماعية التي جعلها موضوع حبكته كالفقر، الهجرة السرية، تعاطي المخدرات، الاتجار في السلع المهربة، الشذوذ الجنسي، والأحلام الضائعة للطبقات الهشة، والمفارقات الطبقية داخل المجتمع الواحد، و مشكلة الطبقة الغنية التي تستغل الطبقة البسيطة المهمشة الفقيرة مقابلة لقمة عيش تقيهم الفقر والبؤس.
 الجميل أيضا في روايات لغتيري كحال هاته الرواية هي الإشارة إلى حقبة معينة من تاريخ المغرب المنسي، كمثال على ذلك أحداث الثورة الشعبية التي عرفها المغرب في الثمانينيات جراء الغلاء المعيشي والنضالات التي عرفتها شوارع المغرب آنذاك وما صاحبها من اعتقالات وعقوبات سالبة للحرية أو تعسفية كالطرد من العمل الوظيفي، الرواية من جهة تلامس مشاعر عامة الناس وتحاكي همومهم ومشاكلهم قائلا لقارئه نحن هنا معك فأنت لست وحدك، كما أنها تأريخ لفترات غير معاشة من قبل الجيل الحالي الذي لم يعش ما مضى.

 

الرواية بكل مكوناتها تحاكي واقع المجتمع بمختلف حالاته، مركزا أساسا على معاناة الشباب وما يتمتعون به من مواهب لا تستغل في تطوير وتنمية المجتمع كحالة يوسف مع الفن التشكيلي، وكيفية مواجهتهم للصعاب التي تعتري حياتهم بين الاستسلام للنزوات والمغريات المادية أو رفضها مع وضع نقطة و العودة للبداية بنفس و أمل جديد و هذا ما وجدناه في نهاية الرواية السعيدة حيث عاد يوسف من طريقه المغري ليشق طريقا آخر رفقة منى متطلعا لغد أفضل و لتبث في نفسية القارئ كل ما هو أفضل.  


03-10-2019

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً