السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
العالم الافتراضي في رواية "ضجيج الرغبة" لمصطفى لغتيري. - فدوى الجراري
الساعة 12:49 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


أحيانا نربط جسور التواصل ونوطد علاقات خارج واقعنا المعاش، نبحث فيها عما نفتقده في محيطنا، ونعوض من خلالها النقص الحاصل في الحلقة التي نبتغيها، تتحكم فيها رغباتنا ونزواتنا الذاتية، الرغبة في الخروج عن كل ما هو مألوف، والانعتاق من قوقعتنا التي فرضتها علينا توجهاتنا الثقافية والدينية، ننساق وراء مغرياتها ونخطف منها نشوة مسروقة عن العيون، نعيش فيها الحلم ونهرب بها من الواقع الآسر، فكل هذا لم يعد بالأمر الصعب في وقتنا الحالي، لقد أصبح من السهل تكوين علاقات خارج المحيط الذي فرض علينا العيش فيه، عبر شبكات الأنترنيت، التي تتوسع وتتنوع يوما عن يوم، نملأ من خلالها الفراغ، الذي نحس به سواء في لحظات الضعف والهوان أو في لحظات السكون والسكينة كوسيلة مرح و تسلية، كما تتيح لنا استعراض قدراتنا، التي لم تجد أناسا تقدرها في الواقع المعاش، ننجرف مع تيارها بقوة لا ندري أين سيستقر بنا انجرافها، فيقيننا التام أن هذه العلاقات، التي بنيت افتراضيا ستبقى افتراضيا لا خوف منها، ولا آثر قد يترتب عليها، فمن غير المتوقع أن تتحول علاقات خاصة من إطارها الافتراضي إلى العالم الواقعي، خصوصا إذا كانت هذه العلاقات تجاوزت افتراضيا المحيط الجغرافي والقاري.
هذا تقريبا ما دار في خلد هدى بطلة رواية ضجيج الرغبة، وهي تمد جسور التواصل مع محسن سرا بعيدا عن أعين زوجها أحمد، تحاول من خلال علاقتها هاته تعويض الفراغ، الذي لم يستطع أحمد سده، فالحب المنشود، الذي كانت ترغب فيه و تحلم به لم  تجده مع زوجها أحمد، ذلك الزوج الذي كان في نظر أهلها العريس الذي لا يعاب، فقد تزوجته بناء على رغبة أهلها، الذين ناشدوا فيه مستقبلا زاهرا و نجاة من وضعيتهم الاقتصادية والاجتماعية التي هم عليها، لكن بالنسبة لها لم يكن كما أرادت، فقد كان بالنسبة لها القبر الذي تدفن فيه أحلامها العاطفية ورغبات قلبها الحارقة، فحاولت تعويض نقصها مع أول طلب دق جدار حسابها على الفايسبوك، وافقت، انسجمت، باحت وفضفضت، لكن مع كل هذه المشاعر التي اجتاحتها وأحست بها لم تكن تتوقع يوما أن يخرج محسن من الافتراضي ويحط الرحال في الواقع، خصوصا و أنه تكبد عناء السفر من المغرب إلى فرنسا حلولا بمارسيليا بحثا عنها، لتعيش معه فترة انتقال غير مباحة كونها زوجة وأما، لكنها حطمت كل القيود و السلاسل ولم تهتم في نهاية المطاف لكل العواقب، فقد عاندت، تحدت، لتحظى بما كانت ترغب فيه حتى قبل أن تتزوج أحمد، والنهاية رغم تجاوزها لحد المعقول لبت رغباتها ونزواتها.
كانت هذه الأحداث موضوع رواية مصطفى لغتيري الاستثنائية «ضجيج الرغبة»، استثنائية لأن الكاتب خرج عن نطاق أسلوبه الذي عودنا عليه في روايات سابقة، فقد كان أكثر جرأة من حيث أسلوب السرد، و الموضوع المطروح فقد تسلل همسا وراء الجدران المغلقة، كاشفا لنا ما يدور في خفائها من مشاعر و آهات مكبوتة، و رفع لغتيري الستار عن الكواليس التي تدور بين جدرانها، و هذا الاستثناء تأكيد ينم عن مواكبته وللواقع المعاش، حتى لو كان في عوالم رقمية افتراضية، وسلط الضوء على المباح وغير المباح بين صفحاتها، وقصة هدى ومحسن وأحمد هي جزء لا يتجزأ مما يحدث على الحسابات الافتراضية الرقمية، التي تديرها رغبات لا قوانين لها.
وعلى غرار باقي روايات لغتيري، فضجيج الرغبة و إن اقتصرت أحدثها على قصة هدى ومحسن والمسار الذي قطعه حبهما اللامشروع من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي، والتغيرات النفسية التي أحدثها هذا الانتقال المفاجئ والإرباك الذي طرأ على مجريات حياتها، لم تكن هي الثيمة الوحيدة التي تضمنتها الرواية، فقد اختار لغتيري مارسيليا أرضا لسيرورة أحداث الرواية لتمرير ثيمات أخرى ضمنية، منها تسليط الضوء على الجوانب المخفية لهذه المدينة الأوربية، التي يتمنى الكل الهجرة وإليها الاستقرار بها لكونها رمز الحرية، دون أدنى معرفتهم بخفايا دروبها، وهنا نستحضر الشوارع الهامشية حيث يقبع فيها الوجه الآخر للمهاجرين المنبوذين خصوصا المنتمين للقارة السمراء، مشيرا فيها إلى تجار المخدرات والعصابات واللصوص، والعاطلين عن العمل، كما أشار إلى المغاربة الذين تجردوا من عاداتهم، فكان يوسف صديق محسن الذي يعمل نادلا في الحانة بطلا لهذا النموذج، وكيف هي طبيعة العلاقة الشاذة التي تربطه  بكرتستين وصديقتها راشيل ...وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الجانب الآخر من البقاع ـ دول القارة العجوز و مدنهاـ ليست  هي الجنة المفقودة.
« ضجيج الرغبة» رواية و إن حاكت واقع أفرادها وإن سلطت الضوء على الحكاي، التي تنسج خيوطها في العالم الرقمي عبر شبكات التواصل الاجتماعي فإننا لا نجزم أن صاحبها لغتيري سطرها دفاعا عن أبطالها و خصالهم الرديئة، من خيانة هدى، و غدر أحمد، وطيش محسن، و نذالة يوسف، و نزوات كريستين و راشيل... وإنما هو واقع لا أخلاقي يعيش بين ظهرانينا لابد للكاتب أن يحاكيه روائيا رغم أنه ضجيج ولكنه عند البعض ضجيج مرغوب فيه.

بتاريخ 08-08-2019

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً