الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مقومات الحضارة العربية وعوامل انهيارها - نضال عبد الله احمد صلاح
الساعة 14:50 (الرأي برس - أدب وثقافة)

مقدمة


        إن البحث عن الحقيقة محط اهتمام كل متنور عربي، يرى مجتمعنا يقوم بتدمير نفسه ذاتيا (كما فعل بطل رواية " اللجنة " للكاتب صنع الله إبراهيم ). فما نتج عن الربيع العربي قد اسقط القناع، ولم يعد بإمكاننا الاستمرار في الاختباء وراء الأنظمة العربية المستبدة، أو الاستعمار المتمثل بالتبعية والرجعية لتبرير حالة الضعف العربي التي استمرت عبر مراحل طويلة سأتناولها لاحقا بالتفصيل. إن الصراع الذي تجلى داخل المجتمعات العربية كافة ودول الربيع العربي خاصة ما هو إلا تعير عن سنين طويلة بل قرون من التآكل في الهوية العربية بفعل العوامل الداخلية والخارجية التي تعرض لها المجتمع العربي ككل. هذه العوامل لها ظروفها الموضوعية والذاتية أي لها ما يبرر نشأتها وتطورها في إطار نظريات التطور الحضاري وعوامل تراجعها, إن عوامل نشأت وتطور الحضارة العربية والإسلامية وبالتالي انكفائها أو احتضارها تشكل نقطة الخلاف بين تيارات الفكر العربي سواء كان هذا الفكر ينطلق من الحنين للماضي (أو العيش فيه ) من خلال إعادة إحياء التجربة الإسلامية للحضارة أو الفكر الذي ينطلق من التيارات السياسية العلمانية التي تحاكي التجربة الغربية الحديثة.
 

 

       سأقوم في هذا البحث بالإجابة على السؤال الذي فشل بطل الرواية في إجابته بتحديد مقومات الحضارة وأسباب انهيارها من وجهة نظرنا ووجهة نظر الآخر، وذلك  من خلال منهج وصفي تاريخي مقارن. إن كل التيارات الفكرية القومية والعلمانية والدينية ما زالت تقف على نفس المسافة من الإجابة على السؤال الذي طرحه برنارد لويس في كتابه عام 2002 (ما الخطأ الذي حدث؟). ولمعرفة ماذا حدث علينا الابتعاد عن  تبني وتقليد أو العيش في قوالب جاهزة مستوردة بل من خلال تبني الفكر النهضوي الذي يقوم على العلم والتعليم انطلاقا من الاعتقاد  إن الفكر النهضوي هو قانون تاريخي أو حضاري كما وصفه شكيب ارسلان: "... كل نهضة لا يكون ظهرها العلم, فما هي إلا ساعة وتضمحل " 
 

مقومات الحضارة 
 

1- مقومات نشأت الحضارة نظريا 
       

هناك سمة مشتركة لجميع الحضارات، وهي " التطور "  بعكس الفكرة القديمة القائلة أن الحضارات تسير ضمن قوانين الطبيعة,  معنى ذلك إن  الحضارات تسير ضمن دوائر كما عبر عنها أرسطو في أدبياته الفلسفية بالقول: إن المستقبل في معظم جوانبه سيكون مثل الماضي. و سمة التطور شجعت العقل الأوروبي منذ عصر النهضة على السيطرة على الموارد الطبيعية من خلال التحكم بالطبيعة واكتشافها. وقد ظهرت نظريات اجتماعية ثورية منها نظرية داروين  "التطور والارتقاء" الحتمي للبشر، إضافة إلى النظرية الماركسية الاجتماعية القائمة على مبدأ التغير الاجتماعي والاقتصادي الثوري من خلال الصراع الطبقي في القرن التاسع عشر  الميلادي. وفي القرن العشرين وكرد على النظريات التطويرية الحتمية ظهر مفكرين اثنين رفضوا المبدأ القائل بحتمية الشكل الدائري للحضارة وهما ارنولد توينبي (دراسة التاريخ ) واشنبغلر (سقوط الغرب )والذي اعتبر إن الحضارة كأي كائن عضوي ينشأ ويتطور ومن ثم يموت أما توينبي فيرى أن صعود ونشأت الحضارة يكون من خلال تقبل الإنسان للتحديات بيئته، أما انهيار الحضارة فهو ترجمة لعدم قدرة الإنسان مواجهة تلك التحديات. 
 

2 –  المفاهيم الحديثة للمقومات الحضارية 
 

      يعتبر العمران عند ابن خلدون قديما، والعالم الانجليزي المعاصر وايتهد هو شرط أساسي لنهوض الحضارة، وشدد ابن خلدون على شرط وجود العمران الذي بدونه لن يكون هناك علم وتعليم كشرط في كثرة الصنائع. وانطلاقا من تجربة وملاحظة ابن خلدون لهذا القانون فأنه اعتبر تميز مصر في العلم والعلوم ناجم عن إن عمرانها "  مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ ألاف السنين "  وفي ظني إن هذا القانون الاجتماعي ما زال سببا مباشرا من أسباب قيام الحضارات الحديثة إذ أن ابن خلدون ويؤيده وايتهد الانجليزي ربط بين الابتكار وبين ضرورة توجيه هذا الابتكار من خلال مؤسسات الدولة الضامن الوحيد لاستمرار ونشأت أي حضارة، وبشكل عام أجمع معظم العلماء والتيارات الفكرية الحديثة على عناصر ومقومات لأي حضارة  يمكن تلخيصها بالتالي: "عدد سكان كبير, فائض في الطعام, حكومة مركزية, وحدة دينية تعدد في الوظائف والإعمال وجمع الأموال عبر الضرائب "  .
 

     ولكن الحضارة يجب أن تشمل مقومين أساسين أولهما: التعليم بشرط أن يكون مبني على أساس الحاجات، وليس المفروض في قوالب غير قابلة للتطبيق وتؤدي إلى تعجيز الذات  والعقل بدل من استنهاضهما. والقضية الثانية مرتبطة بالتشريعات الأخلاقية اللازمة لاستمرار الذات الإنسانية واحترامها، أما الدين بالرغم من الدور الأساسي الذي يلعبه في مؤسسة الحضارة إلا أنه وكما كتب جورج هارس: " لم ولن يعلو على الحضارة  " .
 

 3- المقومات الحضارية في الوطن العربي
 

         تياران متناقضان اختصما في تعليل هذه المقومات: التيار الأول:هو الفكر الليبرالي الأقرب للعلمانية ومنه الفكر القومي والاشتراكي والوطني منذ عصر النهضة الأولى. فمنهم من يعتقد أنه لم يكن هناك حضارة عربية أو إسلامية بمعنى المفهوم الغربي الحالي قط، إذ يعتبر الكثير من المفكرين ومنهم حليم بركات وهشام شرابي والجابري وقبلهم قاسم أمين بأن الإسلام حول العرب من قبائل متعددة إلى قبيلة واحدة تحت حكم الإسلام، ومنهم من ذهب إلى أنه لم يكن هناك دولة إسلامية مدنية قط، بل دولة قامت على القوة الدينية بحد السيف والوحي والمقال الديني. واستمرت حالة التخلف العربي والذي أبرزه بعض المفكرين "على أنه  منطق كمي مرتبط بمقدار ومقاييس مدى تبني المجتمع لمفهوم القوى المنتجة في طور الصراع الطبقي إذ استطاعت البرجوازية الأيدلوجية باللعب والقفز والمحافظة على بنيتها الذاتية  بنفيها لذاتها شكليا وانتقالها إلى صورة أخرى باللعبة ذهنية مثالية اسمها " لعبة التنافي "  ومن وجهة نظر جل هؤلاء المفكرين فإن أهم مقومات النهضة العربية لن تقوم إلا خلال محاربة القبلية، وتسلط الفكر الديني ذو الصبغة السياسية، وذلك من خلال تحرير العقل العربي.
 

      نظرة أخرى لمقومات الحضارة العربية تمثلها النظرية الشمولية الإسلامية القائلة إن الشريعة الإسلامية هي القادرة على حل كل مشاكل العالم لما تحمله من مقومات النجاح والاستمرارية بسبب أن الشريعة  أهم شرط من شروط النهضة حسب رأي الغزالي  .   أصحاب الفكرة يدافعون عن التراث الذهبي الإسلامي ويعيشونه كأنه سيعود.  قال ابن خلدون: إن الحضارة لا تخبوا ولكن تنتقل من مكان إلى آخر، ولكن المفكر الكبير قصد بأن الانتقال له شروط وعودته مستحيلة بدون شروط أيضا. الكثير من المفكرين الإسلاميين دافعوا عن الإسلام كونه يحمل جميع المقومات لاستمرار الحضارة وتطورها. فعادل زيتون في مقالة في مجلة العربي يقول: " .... نحج العرب والمسلمون في بناء حضارة من عناصر ومصادر متعددة أولهما ما جاء به الإسلام من قيم ومبادئ، وثانيها تراث العرب القديم وقيمه الايجابية وثالثه تراث الشرق القديم الذي كان منبعا للحضارة .."  . إن هذه النظرة من وجهة نظري تعتبر نظرة موضوعية إذ يحمل صاحبها اعتقاد صائب بأن الإسلام جاء مكملا للحضارات التي سبقته، وتحمل معنى أيضا بأن تراجع الحضارة العربية جاء لأسباب موضوعية بحتة مرتبطة جزئيا بما قاله توينبي من أسباب أهمها عدم  مقدرة الحضارة الإسلامية العربية بالقيام بدورها في مواجهة التحديات ومتطلبات أعباء الحضارة. 
 

     في المقابل هناك الكثير من المفكرين العرب والمسلمين يعيشون في جلباب التراث  الإسلامي بمفهومه التقليدي، وكان به العصا السحرية التي من خلالها يمكن استرجاع الكرامة العربية والإسلامية، والنهوض من جديد. فمنهم من يرى بأن الشخصية الإسلامية التي أسست وكانت السبب الأساسي  في قيام حضارة قوية في مرحلة التأسيس في الأربعين سنة الأولى للخلافة، وهي كما كتب عبدالله أبو عرة نتيجة قوة الإسلام  " .. وتتكون الشخصية الإسلامية من عنصرين متميزين متداخلان ومتكاملان. أولا..."الشخصية الفردية "... "وثانيا الشخصية الجمعية " أي شخصية الشعب المسلم بجمعه ..."  وفي نفس الكتاب تجد المؤلف نفسه يدافع عن أسباب الفتنة بين عليّ ومعاوية بالطريقة تنافي فكرته الأساسية عن التفكير الجمعي.
 

      ويرى الكثير من المفكرين إن التفكير الجمعي من أهم الأسباب التي أدت إلى  الازدواجية في الثقافة العربية، ومنهم البروفسور عزيز حيدر الذي يقول إنه تحت الضغط والقمع المجتمعي القائم على النظام البطركي الذي يقدس سلطة الأب والحاكم والدين فإن الفرد يجد نفسه ممزق في طريقة تفكيره، وسلوك مزدوج أحدهما يمارسه بعيدا عن المجتمع والأخر أمام الناس. وهذا الرأي يذكرنا دائما برأي هشام شرابي الذي تعمق أكثر إذ اعتبر أيضا إن المقال أو اللغة هي أيضا تمارس نفس العملية على المواطن العربي إذ إن الطبقة الحكمة والبرجوازية الصغيرة والتي دائما تتصالح مع رجال الدين لها مقال يختلف عن بقية الناس الأميين مما يساهم في خضوع المواطن للفكر البطركي.
 

      من جانب آخر، يعتمد بعض المفكرين الإسلاميين على إبراز عوامل القوة الحضارية في الإسلام من خلال التركيز على السلبيات في المجتمعات الغربية التي أهملت الأخلاق من وجهة نظرهم، وانغمست في ملذات الحياة. وكما يقول إبراهيم عبد الباقي: " في جملتها اقترنت بالعلل الصحية ... وذيوع المخدرات والطلاق وانتشار الايدز والشذوذ الجنسي "   . وتجد إنه يتناسى إنها حضارة تقوم على العقلانية واثبات الذات. في المقابل يربط هذا المفكر أسباب التخلف الحضاري بسبب انعدام الأخلاق فقط.

 

اختتم القول بأن استنهاض الحضارة العربية لن يتحقق إلا بإطلاق العقل العربي من خلال العلم والتعليم من أجل الوصول إلى مقومات حضارية تضمن استمرارها، ومن أهمها البعد عن استجلاب قوالب جاهزة والتي منها العيش في التراث القديم القائل برفض التغيير في المقال الديني، ووقف محاربة كل محاولات تحرير الفكر الديني مثل محاولات الفارابي وابن سينا ومن بعدهم الطهطاوي واليوم اقرب ما يكون راشد الغنوشي.  إن الرافضين للفكر الديني بشكل مطلق يكررون أخطاء الداعيين للعيش في التراث وذلك لأن الإسلام بكل ما فيه من تفاصيل كان جزء مؤسس من الحضارة، وليس هامشيا كما هو مع الديانات الأخرى هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الإسلام كان شعار لبعض الإمبراطوريات التي مرت على الحضارة ومنها الإمبراطورية العثمانية،  وإن كان عليها الكثير من الملاحظات إلا إنها كانت تمارس المدنية في بعض فترات نشأتها مما يعني أن الإشكالية لم تكن بالدين بقدر ما كانت بمن يستخدمونه. وابني على ذلك بأننا لو أبقينا الدين بعيد عن التنافر السياسي لتحققت المصالحة بين الدين والدولة المدنية. وبحسب برهان زريق إن إصلاح السلطة يبدأ من " ... تغير قيادي في الوعي والتكوين ..و الإنماء الحقيقي يكون في عقل الإنسان "  .

 

عوامل انهيار الحضارة
 

     معظم  المفكرين يعتقدون بحتمية التغير، وعدم الثبات في تطور الحضارات وقد أوضحنا ذلك لدى كل من ماركس واشبنغلر وتوينبي حيث تتلخص أسباب انهيار أي حضارة لديهم إما بسبب حتمية تبدل وسائل الإنتاج، أو ضعف القوة الخلاقة وبالتالي ضعف الأكثرية عن دعم الأقلية المسيطرة مما يؤدي إلا الانشقاقات وضياع الوحدة. ولكنّا نلاحظ مسألتين الأولى: هي أن الداعيين إلى الإسلام كمقوم للإحياء الحضارة يعتبرون أن الحضارة الإسلامية عبر تراثها ما زالت قائمة حتى اللحظة. والثانية: إن هؤلاء يؤمنون بأن  تراجع الحضارة العربية الإسلامية ناجم عن أسباب خارجية من أهمها الاستعمار أو الحملات الصليبية، وفي النقيض من هؤلاء فأنك تجد قطاع كبير من المفكرين النهضويين يعتبرون إن الاحتلال والاحتكاك مع الغرب  كان من الدوافع التي دفعت بالمفكرين العرب بالشعور بالصدمة بمدى التخلف العربي مقارنة بالغرب، والذي هو ناجم بالأصل لأسباب داخلية. وهذا ما سأحاول أن أوضحه في هذا الجزء من البحث, على كل حال فإن الواقع من وجهة نظري كان جزء من هذا وذاك، ففي مرحلة ما كان من أسباب توقف الإبداع الفكري تكفير الإمام الغزالي (1058-1111) للفلاسفة من أمثال الفارابي وابن سينا الذين ناقشوا نظرية النبوة. وفي مقال آخر فإن الحضارة العربية وأسباب انهيارها لم تمر بالضرورة عبر المراحل التي حددها ماركس بسبب خصوصية المجتمع العربي    إلا إنني استطيع أن أوعز أسباب تراجع الحضارة العربية إلى سببين رئيسين، هما: 
 

1.    فكريا وثقافيا (سندروم العم طوم )
 

الأزمة الفكرية والثقافية مرتبطة بالأساس بالتراجع العقل العربي عن الإنتاجية الحضارية وعجزه عن مجارات الآخرين من الثقافات التي تصبح مثله الأعلى، فيقوم بتقليدها بشكل ثقافة الصالونات أي القشور والشكل. ابن خلدون مثلا وصف مدى تأثر مسلمين الأندلس بالأمم المسيحية في أوروبا في طريقة حياتهم بسبب استسلام  العرب لحقيقة أن الأوربيين   قد سيطروا عليهم فهذه الأمم المغلوبة أو المقهورة تقع فريسة عقدة العم طوم  ( وهي حالة الخضوع التام للعبد لسيده كما وصفها مالكوم اكس )"بتقليد الغالب والخضوع له"  . في اتجاه آخر فإن محاولات الإصلاح الديني التي قامت على مبدأ تغيير القوالب وعلى باب فتح الاجتهاد قد فشلت، وذلك بالرغم من محاولات النخبة الدينية في فكر الأفغاني (1897-1839 ) لأن هذه المحاولات أبقت رغبة التغيير في أيدي النخبة، وليس كونها من متطلبات المجتمع كما ذكرت سابقا.
 

       لقد جاءت محاولات أخرى للتغير من قبل المفكرين الدينيين، وخاصة في فترة محمد عبده ورشيد رضا (1865 – 1935) إلا أنهم فشلوا في إيجاد تيار فكري سياسي يدعوا للنهضة الإسلامية للتصالح مع الذات أولا عن طريق الخروج من الساتر الديني الذي فرضوه لتحقيق مصالحهم، ومن خلال فتح باب الاجتهاد ثانيا، اللذان دعا إلى ثورة فكرية إلا أنهم أسهموا في ظهور فكر الأخوان المسلمين بقيادة حسن البنا 1928 والذين قاموا بضراوة بمقاومة ورفض التيارات الفكرية الغربية من خلال الانغلاق على الذات ورفض الآخر، وقد ساعدتهم الظروف السياسية المتمثلة بفشل التيارات القومية والاشتراكية والوطنية في مواجهة مظاهر الاحتلال والتخلف في التفاف الجماهير حولهم وذلك لما يقدمه الفكر الديني من حلول نفسية تشعر الإنسان إنه قد عالج مشاكله بدون أي مواجهه للواقع .
 

2- سياسيا واجتماعيا
 

         يعتقد الكثير من المفكرين بأن الاستعمار العثماني سبّب  التخلف الحضاري العربي, وهذا في ظني أيضا, حيث يرى حليم بركات: "...إن ظهور الفكر القومي كان بسبب هذه الظروف الخاصة بالوضع الاجتماعي وليست مستوردة "  . ويرى إن الصراع السياسي في إطاره الاجتماعي والاقتصادي  منذ النهضة الكبرى كان يتنازعه عدة قوى وهي الارستقراطية وعوامل شرعيتها الدين والعائلة ومن ثم البرجوازية الوطنية الوسطى والاشتراكية العربية وفي النهاية السلفية الدينية، ويرى هشام شرابي إن التيار القومي والتيار الوطني جاءوا بأفكار محدثة نتيجة ازدواجية في المفاهيم النهضوية،  وليس حديثة ناتجة عن التغيرات الداخلية  في المجتمع العربي الذي بقي "محافظا على صفة البداوة والعشائرية الذي يقاوم التغيير الاجتماعي والتقدم  بسبب تمسكه بالأفكار والمقال الديني داخل النظام الرأسمالي"  ولا يخفى علينا جميعا التناقض بين النظرية والتطبيق بعد الثورة المصرية في زمن الرئيس عبد الناصر التي أوجدت مفهوم الاشتراكية العربية التي مزجت بين الفكر القومي الماركسي ولكنها في نفس الوقت رفضت فكرة دكتاتورية الطبقة العاملة ووفقت بين القومية العربية والانتماء للإسلام. 
 

     بعض التنويريين اعتبروا أن أسباب التأخر ترجع بالأساس إلى الاستبداد السياسي الذي يؤدي إلى الجهل كما عند عبد الرحمن الكوكبي، وإلى فساد الأخلاق عن أحمد أمين. وعند بعض التنويريين الإسلاميين يعود سبب التراجع إلى انحراف رجال الدين عن جوهر الدين كما يقول الكواكبي إن الدين الإسلامي السمح قد " ظلموه الجاهلين وأصبح وسيلة للاستبداد بعد أن سطى عليه الجاهلون " . وفي رأيي إن هذا الموقف يعبر عن الواقع الحالي للوطن العربي بعد الربيع العربي إذ أن الإسلام السياسي في مصر واليمن والعراق وليبيا ولبنان أدى إلى تعميق الانقسامات العرقية والدينية والطائفية والمذهبية في تلك المجتمعات، مما جعل الهوية العربية تذوب داخل الهويات الجزئية في تلك البلدان بحيث أصبح كل فريق يبحث عن ذاته في مواجهة التطرف وسياسة رفض الآخر، والاستحواذ على الغير الذي يمارسها أصحاب الإسلام السياسي.  في مقابل ذلك فإن هناك من يعتبر أن أسباب التراجع يرجع إلى استهداف الاستعمار الغربي للإسلام، ومنهم شفيق منير ويعزو ذلك لإدراكهم أهمية الإسلام، وبالتالي خوفهم من سيطرة مبادئ القران ولعلمهم إن السيطرة على العالم العربي والإسلامي لن تكون سهلة بوجود الإسلام  .
 

       استنتج إنه كان هناك أمران تسببا في التراجع الفكري الأول: عبر عنه زكريا بالانقطاع التاريخي للحضارة العربية واستمرار الآخرين بسبب الاستبداد والانغلاق الناجم عن الاستبداد العثماني الذي عطل العلم وكرس المفاهيم الاجتماعية والقبلية المتخلفة أي حالة  اللاتطور والتكرار كما وصفها زكي الارسوزي. أما الأمر الأخر فقد عبر عنه مهدي عامل وهو " ... انتقال البنية الاجتماعية ... إلى تطور تبعي ... بالتطور الامبريالي للرأسمالية "   فكان على الامبريالية أن تستخدم تراث الأمم لاستحضار رسالتها فتحول تراث هذه الأمم إلى سبب في سيطرة الامبريالية .

  
  

رأي الآخر
 

       بعد أن تناولت الحضارة العربية وأسباب قوتها وضعفها الداخلية والخارجية من وجهة نظر أهم التيارات الفكرية والتنظيمية عبر تاريخ تطور الحضارة، رأيت إنه من الحكمة والموضوعية معرفة رأي الآخر، وموقفة من الحضارة العربية والإسلامية، وذلك انطلاقا من أهمية الدور الذي يلعبه الآخر في ماضي وحاضر ومستقبل المنطقة العربية والإسلامية. 
 

      صماوئيل هنتيغتون  في كتابه(The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order )  وبرنارد لويس في كتابه( The Crisis of Islam: Holy War and Unholy Terror  ) أشارا إلى فكرة أن الصراع والاصطدام بين الحضارات أمر حتمي  كلما إتقدم العلم وتقاربت وسائل الاتصال بين الحضارات, ولكن هذه الأفكار ون لاقت الكثير من التأييد لا تعبر عن جميع التيارات التي تحدثت عن الحضارة العربية والإسلامية إذ أن الكثير يعتقد بأن الإسلام شمل على عدة إمبراطوريات منها جيدة ومنها فاسدة إلا أن الإسلام كفكرة بقي بعيدا عن ممارسات الإمبراطوريات.  ورأي آخر يرى أن انهيار الحضارة لم يكن  انهيارا للإسلام بل هو انهيار للدول العربية التي هي على الأغلب إسلامية، وقد عبر عن هذا الرأي أحد المحللين الاستراتيجيين الذي توقع إن انهيار الدول العربية سينجم عن أسباب أهمها توجه عنصر الشباب الذين هم الأغلبية إلى العنف الديني حيث يجدون فيه وسيلة للثورة ويعتقد أيضا إن الأنظمة العربية المستبدة التي فشلت في توفير فرص تعليمية واقتصادية عن طريق العمل هي السبب في انهيار هذه المجتمعات

 

في مقام  آخر فإن لا أحد ينكر دور الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي ونادرا ما تجد أحدا يعتبر العقيدة الإسلامية السبب المباشر "لزوال" الحضارة كما وصفها الغزالي. ويعتقد كاتب أمريكي بأن التراجع الحضاري الإسلامي يعود للسببين الأول: بدأ منذ القرن الثاني عشر في نهاية الإمبراطورية العباسية نتيجة امتدادها وكثرة الثورات ضدها والهزائم العسكرية من قبل المسيحيين  في أوروبا. والسبب الثاني: كان بسبب محاربة فكر ( الحركة الاشعرية ) وهي حركة سنية قامت على تشجيع التفكير والتحليل في بعض النصوص خارج إطار القران والسنة  . 
 

      الاستنتاج إننا كعرب ومسلمين علينا أن نجيب على أسئلة كثيرة، منها سؤال بابا الفاتيكان (16112014 ) عن موقف العرب والمسلمين من "داعش"؟ وقبل الجواب عن الطريقة المثلى للتعامل مع الإسلام الجهادي، لماذا لم تعلن مصر موقفها من دولة الإسلام إلا بعد أن أعلن الأخير بأنه سينشط في سيناء؟ ولماذا لم تقرر الدول محاربتها إلا بعد القرار الأمريكي للتحالف. الإجابة على هذا سؤال بسيطة، وهي إننا ما زلنا نتستر ونتصالح مع التيارات الدينية  السلفية. كما أن التيارات الدينية نفسها تتصالح مع الغرب " المسيحي " وتغفل عن مصالحة مجتمعها  في معظم الدول العربية. الجيش ما زال الملجأ الآمن لكل التيارات الدينية والقومية في مصر والمغرب العربي. في نظري إن كل تيار فكري عليه أن يراجع أدبياته ومعتقداته ليتصالح أولا مع ذاته ومن ثم مع المجتمع  (Primus inter pares) ومعناها  "الأول بين متساويين" مصطلح توفيقي تبناه الفاتيكان للإشارة إلى أن البابا لا يتميز إلا بالاسم .ربما يكون خيار يستحق المحاولة !   


 

قائمة المصادر 
 

الكتب
1.    أبو عرة , عبد الله ,انهيار الحضارة العربية الإسلامية وسبيل النهوض . ط 2 . عمان : المعد . 2012. 
2.    بركات ,حليم . المجتمع العربي المعاصر |بحث استطلاعي اجتماعي . ط1 , بيروت :مركز دراسات الوحدة . 1984.
3.    زريق , برهان . المشروع الحضاري العربي الإسلامي . ط1 , دمشق :دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية . 2007 .  
4.    شرابي , هشام . البنية البطر كية | بحث في المجتمع العربي . ط 2 , عكا : دار الأسوار . 1987 .
5.    الشريف , ماهر . رهانات النهضة في الفكر العربي . ط 2 , فلسطين : وزارة الثقافة الفلسطينية |سلسلة كتاب القراءة للجميع -20- . 2000.
6.    شيا , محمد :الأمير شكيب ارسلان- النهضة العالمية في العصر الحاضر . إشراف وتحرير سوسن نصر ,ط 1 . لبنان : الدار التقدمية . 2008 .
7.    صفوري , محمد حسين . حضارتنا وامتنا : إلى أين ؟ | مقالات حول تطور الحضارة ونشوء الأمم . ط1 , بيروت :  المؤسسة  العربية للدراسات والنشر . 1996 .
8.    طرابيش , جورج. من النهضة إلى الردة  |  تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة . ط1 . بيروت : دار السافي . 2000.  
9.    عامل , مهدي . أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية ؟ |مناقشة أبحاث ندوة الكويت :" أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي " .  ط7  , بيروت : دار الفارابي  . 2002 .
10.    عبد الباقي و إبراهيم محمود . الخطاب العربي المعاصر |عوامل البناء الحضاري في الكتابات العربية . ط1 , الولايات لمتحدة الأمريكية : المعهد العالمي للفكر الإسلامي . 2008. 
11.    

 

مجلات 
 

1.    زيتون , عادل . الحضارة العربية الإسلامية قراءة في قصة التدهور والانحطاط , العربي :ع 605 . ص 62 -67 . 2009 .

 

مواقع الكترونية 

 

1-James G. Lacey :The Naval Institute: Proceedings , The Impending Collapse of Arab Civilization .Military . com . September 2005.
       http://www.military.com/NewContent/1,13190,NI_0905_Arab-P1,00.html   

2-     Hillel Ofek, "Why the Arabic World Turned Away from Science," The New Atlantis, Number 30, Winter 2011, pp. 3-23.       (Electronic Version) 
        http://www.thenewatlantis.com/publications/why-the-arabic-world-turned-away-from-science 
3-Mirza A. Beg. Decline of Islamic Civilization – Causes – Time For A new ."Counter Currents  Org ". 2006 .
            http://www.countercurrents.org/beg-250706.htm
4- Harris , gorge :  "   Civilization Considered as a Science":   In Relation to Its Essence, Its Elements, and Its End.London . 1872 .
books.google.com

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً