الأحد 24 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
أنا والشيطان ننتظر.. - وجدان الشاذلي
الساعة 12:20 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

الممثلون في التلفاز أجبرتهم أن يتحادثوا همساً؛ فأنا أريد أن أصغي بجميع حواسي لكل شيء من حولي، حقيقة لا يهمني أن أصغي لأي شيء، عدا صوت جرس الباب الذي أنتظره بلهفة مُغلفة بآمال فضفاضة.
المروحة المتهالكة على السقف تثير ضجة كبيرة وتؤجج غيظي، ومن هناك تنسل مجموعة من الخطوط المتقاطعة للدخان المنبعث من عود بخور ثبّته للتو في الزاوية الشرقية للحجرة، وفي الزاوية المقابلة عدة صفوف من الكتب والمجلات، فإذا ما ألقينا نظرة عامة على الحجرة فهي أفضل حالاً وأكثر نظاماً مما كانت عليه قبيل هذه اللحظة بساعتين فقط .
وثبْتُ باتجاه الجدار المقابل؛ مجبراً كنت على الاقتراب أكثر حتى يتسنى لي رؤية عقربها المتين على أي رقم يضطجع، كان يشير إلى الرابعة مساءً، لكن تلك الهالة الكثيفة من الغبار تجعل عملية تحديد الوقت على تلك الساعة عملية في غاية التعقيد، لكنها ما زالت تعمل بانتظام، وذلك كل ما يهم الآن .
لو ألقى عليٌ أحدهم نظرة في هذه اللحظة لجزم قاطعاً بأنني متفاعل كلياً مع أحداث ذلك الفِيلم، ولكن لو حاول إلقاء سؤال عن أحداث الفيلم، أو فكرته لأدرك أنني أهيم في وادٍ آخر.
- هذا القاتل لا يرحم؛ يغتال كل شيء في تفاصيل يومي منذ الصباح حتى المساء، ما أقسى الانتظار على بصيص من يأس.
محدثاً نفسي، وبينما كنت على تلك الحالة، وقع أقدام أحدهم خلف النافذة يحثني على النهوض نشطاً بإتجاه ذلك الصوت. كانت سيدة تهبط الدرج، وتجر خلفها طفلة لم تتجاوز ربيعها الخامس ربما. أيضاً، شاب يصعد محملاً بجملة من الأكياس البلاستيكية، وغراب على سطح المنزل المجاور يهمّ بالطيران .
عدت أدراجي إلى متكأي. وصورة ذلك المشهد لاتفارق مخيلتي . تلك السيدة والطفلة، الشاب والأكياس البلاستيكية، والغراب الذي يهم بالطيران. جاهداً كنت أحاول خلق علاقة تجمع الثلاثة معاً. محاولاتي تلك لم تكن سوى نتاج إيمان تملكني بأن تواجد أولئك الثلاثة في تلك اللحظة لم يكن من قبيل الصدفة. حتماً هناك رابطاً يجمع بينهم. ماذا لو كانت السيدة تجر خلفها صبيًا بدلاً عن تلك الفتاة لربما اختلف الأمر..؟ وذلك الشاب؛ ماذالو كان يهبط الدرج عوضاً عن صعوده ؟، أيضاً هل لو كانت هناك على سطح المنزل المجاور حمامة بدلاً من ذلك الغراب لاختلف الأمر ..؟.
شرعت أحلل وأفسر ما وراء الصورة حتى شعرت بالحنق والضيق نتيجة عجزي. بعد هنيهة استدركت، أي علاقة تلك التي يمكن أن تجمع الثلاثة معاً؟ باستثناء (الانتظار)؛ هذه اللحظة من الانتظار التي أعايشها أجبرت عقلي وبطريقة لا إرادية أن يشغل نفسه بعمل أخرق كهذا.
وثبْتُ باتجاه الساعة التي لم تكن تتجاوز بعد السادسة والنصف، عدت أدراجي إلى الخلف. تطاولت على مجلة كانت قابعة على سطح تلك الكومة من الكتب؛ شرعت أقلبها صفحة تلو أخرى. شعرت بسأم وضيق يتملكني. ألقيتها جانباً والتقطت جهاز التحكّم. غيّرت القناة، فِيلْم هندي من إنتاج بوليود في الثمانينات على ما يبدو. ذلك المشهد الرومانسي استحوذ على انتباهي في لحظة ما قبل أن تنطفئ الكهرباء فجأة كالعادة، وذلك ما زاد من غيظي وتذمري إلى درجة شعرت معها برغبة جارفة في الصراخ ....
بينما كنت أطالع ذلك الشعاع الساقط من عامود الكهرباء على ناصية الشارع، المنسل عبر إحدى شقوق النافذة، إذا بي أشعر به يجذبني إليه بشدة، فمرقت بأفكاري عبر ذلك الشق أتتبعه حيث كان يجرني رويداً، رويدا باتجاهها.
ذكرى لقائنا الأول. الصدفة التي اختلقتها باتصال خاطئ، التي تلتها ليالٍ من الوجد والهيام عبر الهاتف، ثم اللقاء الأول والملامسة الأولى، وذلك الطيف الذي بات واقعاً ملموساً، واقعاً يفوق خيالاتي الخصبة الجامحة أحياناً، ولعبة العصا والجزرة التي مارستها عليها عدة أشهر بانتظار هذه اللحظة .
مخاطباً نفسي تساءلت: هل حقاً أحبها؟!
وعلى ما يبدو أن الإجابة الراقدة في أعماقي كانت بانتظار أن يُطرح هذا السؤال، الذي لم آذن لنفسي بطرحه من قبل.
- أنا لاأحب فيها أكثر من تلك اللعنة! لعنة اللحم والدم؛ في الحب بالنسبة لي يأتي الجسد أولاً، وبقية الأشياء قد تأتي في المرتبة الثانية، العشرين، أو حتى الخمسين .
الجسد أولاً.. والبقية في المقام التالي، حتى الجسد نفسه توجد فيه مقامات، هناك مناطق في جغرافية المرأة تأتي في المقام الأول.
ثم أن المرأة نفسها تدرك ذلك جيداً، تدرك أن جسدها يمثل رقم صعبًا في المعادلة التي تجمعها بالرجل، لذلك توليه اهتماماً كبيراً بتغذيته. أكثر من اهتمامها بتغذية روحها. كيف تولّد لديها هذا الإدراك؟.
هكذا أرى المرأة جسداً وشهوة، بالنسبة لي على أقل تقدير، أنا الذي أعتنقت لعنة اللحم والدم، وآمنت بها منذ صباي. ولطالما حاولت أن أنصف الإناث، في أفكاري، وذلك أضعف الإيمان ولم أُفلح. لم أتمكن يوماً من فهم طبيعتهن وإن حاولت جاهداً، أقف دوماً على عتبة أفكاري عن الأنثى متسائلاً:
- هل تتحمل المرأة مسؤولية الدور الذي تقوم به ،أم أنها تكتفي بالقيام به فقط ؟ 
فمثلاً زوجة تدخل المطبخ، وتطبخ الطعام لزوجها وأطفالها؛ هل تتحمل هنا مسؤلية الطبخ، أم أنها فقط تقوم بدور الطباخة؟ والأم التي تربّي أبناءها، هل تتحمل مسؤليتهم، أم فقط تقوم بدور المربية؟، حتى هذه العشيقة التي أنتظرها؛ ترى هل تتحمل مسؤلية العشق، أم أنها فقط تمثل ذلك الدور؟ ..
من النافذة المشرعة تقفز قطة على صدري في الظلام، وتقطع خيط أفكاري.. ألقيت بها جانباً بكل ما أوتيت من قوة، أطلقت صوت مواء حاد وعادت تقفز من الشرفة إلى الخارج، كان جسدي يرتعد كاملاً نتيجة الخوف والارتباك الذي سببته لي تلك القطة. بقيت متخاذلاً في مكاني لا أقوى على حراك، محاصراً بالظلام من الخارج، وبالسأم والضيق من الداخل.
طرق الباب؛ هرعت صوبه متخبطاً في الظلام متجاهلاً تلك الشمعة على يساري. فتحت الباب فانسكب عطرها إلى إعماقي وأمست براكين الانتظار، التي تفور حممها بداخلي، برداً وسلاماً.
دلفت إلى الداخل، أغلقت الباب بخفة، إلا أنني سبقتها إلى الحجرة وأوقدت شمعة أخرى، تأملتها وهي تثني ردفيها المثقلين بخمرة الأنوثة، لم يتفوه أحدنا بكلمة واحدة، تركنا عيوننا تقول ما عجزت عن قوله ألسنتنا تتعاتب، وتتصالح.. قوة ما تشدني نحوها وأخرى تجذبها بأتجاهي. طوقتها بذراعي وضممتها إلى صدري بلهفة العاشق العذري، وبعد أن تمنعت، أذعنت..
كانت تطرق بعينيها في اتجاه الشمعتين، حين كانت عيني تلتهمها لقمة واحدة، بأطراف أناملي رفعت ذقنها ولثمت شفتيها الشهيتين، أزاحت وجهها وترنحت إلى الخلف، جذبتها بشدة فترنحت، وشمت قبلة على عنقها، خلعت جلبابها بخفة، وبخفة أكبر بقية ثيابها، تحسست صقيع أطرافها وإستدارة نهديها الناعمين، كانت مستسلمة تماماً لعبث أناملي التي تستكشف جغرافية ذلك الجسد الأنثوي المُثمل، أطبقت كفّي على ظهرها وتركت شفتي تلثم كل موضع على جسدها. تماهينا معاً، انصهر كلٌ منا بداخل الآخر وطفنا حدائق بابل، وبرج إيفل، ومدائن كسرى. إلى أعماق اللذة والألم غصنا، سكارى منتشين باللذة كنّا.
كل هذه النشوة تشق رأسي، وأعود من بعيد جداً من أحلام اليقظة لأجد نفسي غارقاً في العرق والظلام، أول ما تبادر إلى ذهني تلك اللحظة (الشيطان)، مشهد محموم كهذا ليس إلا من صنع الشيطان، خاطبته جهراً:
- أدرك وجودك وأستشعره، لا حاجة لك أن تختبئ، بإمكانك أن تتجلى على أي هيئة شئت فلن تخيفني، على النقيض تماماً في لحظة كهذه سيسليني كثيراً أن أحادثك لبعض الوقت. كنت على يقين أنك ستكون حاضراً؛ حتماً لا يمكنك أن تفوت أمسية كهذه.
- أصبت. حتماً في أمسيات كهذه عادة ما أكون حاضراً، ولكن حين يتعلق الأمر بك أنت أتردد كثيراً، وحين أحضر، أحضر من باب التعلم ليس إلا، لطالما كنت تلميذاً في حضورك.
-لا.. لا تتواضع! هذه الصفة بالذات لا تليق بك، فقط كن على طبيعتك. دعك من هذا كله، كما تعلم إنها لم تأتٍ بعد، على ما يبدو أحدنا لم يقم بعمله بشكل جيد.
- بالنسبة لي هممت أن أتدخل ذلك المساء حين كنت أنت تحاول أقناعها بالمجيء، ثم اكتفيت بالملاحظة والإنصات، لو أنني حاولت أغواءها في تلك اللحظة لما أجدت ذلك بطريقة أفضل منك.
-أصمت.. لم تصر على إستفزازي، بمحاولتك إظهار ما لا يليق بك؟ أي شيطان وضيع أنت؟. آسف على ثورة غضبي هذه، بإمكاننا أن نغيّر الموضوع إن شئت، هناك سؤال يتعلق بك يشاغلني منذ زمن. هلا أخبرتني لماذا طوال هذه العقود والأزمنة لم تفكر ولو مرة واحدة في التوبة؟ كنت أعلم أن هذا السؤال سيعكر صفوك، وأنك لن تجيب عنه مطلقاً؛ إرحل. لم أعد أطيق محادثتك.
الساعة الآن تجاوزت السابعة والنصف، والشمعة بدأت ترقص رقصتها الأخيرة، وتلك الفتاة على الطرف الآخر من الهاتف لا تفتأ تخبرني بأن الرقم مغلق أو خارج نطاق التغطية. وهي لم تأتِ بعد وما زلت أنا والشيطان ننتظر.
في لحظات كهذه أفضل كثيراً ألعاب الهاتف؛ الأفعى التي تلتهم القطع المكعبة ويزداد طولها كلما التهمت قطعة. ما أشبه هذه اللعبة بحالتي هذا المساء، يلتهم الانتظار قطعة من صبري تلو أخرى فيزداد طوله، وتزداد حيرتي، ضيقي، حنقي، وغيظي. خليط من المشاعر المتكافئة المتناقضة أحياناً. بماذا يمكن وصف مشاعري الآن؟.
طرق الباب بهدوء.. بوثبة واحدة وصلت باب الحجرة، وبوثبة أخرى تفاديت أن يرتطم وجهي بالباب الرئيس للمنزل. براحة يدي حاولت أن أجفف قطرات العرق المتناثرة على جبهتي، أخذت نفسًا عميقًا وفتحت الباب.
صبي صغير ارتبك لرؤية ذلك الشرر الذي تقدح به عيني، وبصوت متلعثم قال لي :
- أنا.. أنا، أتيت كي آخذ القمامة.
دون أن تنبس شفتي بكلمة صفعت الباب في وجهه. شعرت بالدم المندفع من جميع أجزاء جسدي يصعد إلى رأسي دفعة واحدة، أسندت ظهري إلى الجدار، بدأت أشعر بثقلي النوعي كما لم أشعر به من قبل، لم تعد قدمي تستطيع حملي، هويت إلى الأرض.
حين أستفقت من غيبوبتي كان المنزل مضاءً وكانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف، انتعلت حذائي وخرجت في غير وجهة.. توقفت في منتصف الدرج وأدرت جسدي كاملاً باتجاه الصوت، جاري يحدثني بأن سيدة منذ نصف ساعة كانت تطرق الباب بشدة. أضطر أن يخبرها بأن لا أحد في المنزل.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص