الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
المفارقة في مجموعة "شوارب" القصصية، للقاصة جليلة الأضرعي -*أحمد علي جابر
الساعة 09:55 (الرأي برس - أدب وثقافة)


 

لغه فردية تتمظهر بالمفارقة


الخطاب القصصي للمثقفة اليمنية يتميز بأنه خطاب ثقافي له رؤيته الخاصة بالواقع والحياة؛ يختلف عنخطاب المثقف الرجل الذي تشتت اهتماماته في مناحمختلفة,ومرد ذلك إلى أن القاصة اليمنية حصرت اهتماماتها في محيطها المؤنث، واستطاعت أن تلتقط إشارات مهمة لا نكاد نعثر عليها عند مقابلها الرجل، ومن هذا المنطلق نجد أن القاصة جليلة الأضرعي تمثل هذا النوع من الأصوات النسوية السرديةالتي تطرح موضوعة الأنثى بشكل درامي ساخر وبلغة سردية تتمظهر بالمفارقة, تدين الواقع الاجتماعي وتحاكمه، فيخطاب مشاكس ومناور, لا يفصح ولا يعبر عن قضيته بشكل باهت أو سطحي، بل يمكن الاعتداد بكونهحالة إبداعية ناقدة، وصورة من التعبير الرامز الذي يستكنه مضمرات العنف الذكوريالمتجسدمنخلال مشاهد قصصية وأحداث حاولت القاصة عبرها أن تعري ثقافة المجتمع الذكوريةلامتهانهاالمرأة وتهميشها, مشكلةً عبر قصتها شوارب إحالات مقنّعةواخزة للضمير الجمعي الذي ظل يمارس العنف ضد المرأةبطريقة منهجية موروثة ....

 

 

مما لاشك فيه أن لكل عمل أدبي قارئ ضمني له أن يقف عند مستويات عديدة من التحليل في بنيةالخطاب الأدبي بعيداً عن التسطيح القرائي الذي تمنحه انطباعية الناقد وذوقه الفطري حينيلج إلى النص مستعيناً بذائقته البسيطة دون الركون إلى آليات منهجية لاستبطان النص والكشف عن دلالاته الغائرة، هكذا بدا لي الأمر وأنا أقرأ مجموعة شوارب للكاتبة جليلة الأضرعي، حيث النص يستوقفنا من أكثر من زاوية نقدية وهو نص شائك يناور يتعصى على القراءة أحياناً، والمجموعة و رغم بكارة التجربة وحداثة عهد كاتبتها بالتجربة السردية ؛ نجدها تحلق في آفاق باذخةالإبداع، و بلغة تتوارى خلف غلالة من الدلالات والرموز ناهيك عن أسلوب سردي يستوفي عناصر إبداعه، وبناه السردية من حيث الشخصية وإجادة رسمها وآليات الحدث وتعيينات الزمان والمكان والأهم بنظري براعة الكاتبة في صياغة لغتها السردية التي تنم عن خيال خصب تتنقل فيه اللغة بين مستويات فنية وأطوار جمالية في مغامرة قصصيةتبعث في نفس القارئ الدهشة والإعجاب .
 

 

ومن أهم تجليات المجموعة القصصية صور المفارقة وسخرية التعبير بأسلوب يجنح لتشكيلخطاب ساخر ناقد له أن يعالج كثير من قضايا الإنسان والمرأة منها على وجه الخصوصوبطريقة درامية تفننتالكاتبة في توظيفها والتعبير عنها .
والمفارقة حسب الدكتورة نبيلة إبراهيم سالم عبارة عن ازدواجية المعنىبخطاب يحيل إلى مستويين للكلام الأول سطحي قريب والثاني كامن لا يناسب أن يؤخذ معناه على ظاهره في ضوء الفهم لمعنى السياق الذي قيل فيه وإدراك التعارض والتنافر على المستوى الشكلي للنص(1)
ويرى نورثروب(( أن المفارقة في الأدب هي وسيلة لقول أقلّ ما يمكن وتحميل ذلك القول أكبر ما يمكن من المعنى؛ فالمفارقة كما يرى نظام من الكلمات يتجنّب القول الصّريح، وينكر المعنى الواضح)).(2) 
وعنوان المجموعة (شوارب) بوصفة العتبة الأولى للقراءة يمارس سلطتهويفرض مفارقته الدلالية للوهلة الأولى،حيث يؤسس أولاً لعلاقته بخارج النص لنتوخاه كإشارة لغوية ضمن المستوى الأول للقراءة وبحيث تنبنيالشوارب بوصفها دالاًاجتماعياً يرتبطبالرجولة وكمال الفحولة, و يتآزرهذا العنوان مع عنوان أول قصة في المجموعة(فحولة) و يتماهى به ليتشكل من خلالهما – ثانياً - علاقته بمقاصد الكاتبة وبمدلولفارق يتحول داله اللغوي إلى فعل ترميز واستكناه مغاير لهذا الطرح السابق وبحيث تصبح الشوارب بصيغة الجمع والتنكير علامة حاملة لمعنى الاستبداد والقهر والتسلط الجنسيمتقاطعةمع مدلول الفحولة وبمااحتواه منطوق الحكاية التي تقنعت فيها الكاتبة بصوت الراوي المفارق لرؤى ومقاصد الكاتبة، فالقصة تبدأ باستهلالة سردية حاكيةبصوت الراوي حصوله على زوجة ليعزف بعدها عن تصفح الأجساد العارية التي انطبعت في ذهنه، ويصف هذه المرأة بالفقر وأنه تزوجها بالثوب الذي ترتديه، ثم يمضي الراوي في الحديث عن بعض تفاصيل الليلة الأولى للزواج من خلال إلباسه لها ثوب الزفاف والعقد الذي يضعه عليها يصفه بأنه باهظ الثمن ثم يتحدث عن ربيعها الخامس عشر، ويتنامى الفعل الدرامي في القصة بتكثيف الحدث الجنسي الذي كان هو عقدة الحكاية ونقطة التبئير الرئيسية للحدث القصصي, حيث يستثمر الراوي تقنية المفارقة اللفظية كأداة قصصية تعمل على تنامي الفعل الدرامي وذلك بقوله ((لابد من ذبح القطة أول ليلة كما أخبروني ))(3) وهنا تصبح المفارقة اللفظية وظيفة لإذكاء الصراع وتشكيل إحالات رمزية لواقع اجتماعي ونفسي مدان، ويصف الراويشعور الخوف القاتل الذي خيم على شخصية الفتاة فهي ((ترتعد كعصفور أصابه برد يناير القارس ..تحتضن ثوبها وقد تلون بلون وحشيتيوشعيرات منها قد تمزقت بين أصابعي)) (4) .

 

ونلمح المفارقة من خلال الفعل وردة الفعل وبين ما يقوله الراوي وما يفعله حيث يرد قوله :(( حاولت احتضانها ..الاعتذار لها ..لكن فحولتي أشهرت رعونتها وحالت دون ذلك ..حولتها إلى جسد متصلب أجوف كلما اقتربت منها، نسجتْ حولها خيوط من الصمت حتى لم أعد أسمع صدى همسها ))(5) فلا شك أن هذاالمقطع في تشكيلته الدلالية وبناه الرامزةيكشف عن صراع نفسي داخل شخصية الراوي, إذيحاول احتضانها والاعتذار لها لكن المفارقة تتأتيمن خلال جنوح الفعل الصادر عنه ومفارقته لما يحس به من شفقة، الأمر الذي نتج عنه انتصار الغريزة المكنى عنها بالفحولة على الاحساس بالشفقة، ويسهم الزمن النفسي في رسم هذا الإحساس التراجيدي الذي يكشف عن واقع الفتاة الصغيرة التي تسلب فرحتها وتسرق إنسانيتها باستهلاكها جسدا وبتأطيرها ضمن متخيل السرد كمثير لغريزة الرجل وجموحه الجنسي ((ليلة طويلة استمرت عقدا من الزمن ..جثمت فيها عقارب الساعة ..لم يتعاقب فيها الليل والنهار))(6) فالمقطع السردي يكشف عن مفارقة زمنية في بناء المشهد القصصي، وليلة الزفاف تتحول إلى مأتم ويستطيل الليل حتى لا يكاد ينقضي، ويتنامى الفعل الدرامي بنعت الراوي للفتاة بالجمود والبرودة،ويتوسل النص دالات رامزة في قوله ((حملت جسدها بين ذراعي كما حملته أول مرة، باحثا عن غراب يعلمني كيف أواري سوأتي لكني لم أجد سوى بومة تفرد شؤمها علي وأشجار شاخصة أبصارها نحوي وشمس تلملم خيوطها وهي تكره النظر إلي ))(7).

 

ونلحظ في هذا المقطع تطورا مدهشاً في لغة القاصة وأسلوبهاوانفتاح نصها السردي لاكتناه عوالم المأساة واستحضارها من تضاعيف الحكاية القرآنية، فالراوي يستيقظ ضميره ويكشف عن فداحة جرمه ليصبح هذا المقطع معادلا رمزياً للخطيئة الأولى التي اقترفها ابن آدم، كما ينجح مخيال السرد في صناعة مشهد تراجيدي عبر إسقاطات الحدث على الطبيعة, وعن طريق استدعاء رمز الشؤم البوم, و تشكل الطبيعة عبر عنصريها الأشجار والشمس صورة للتعاطي مع الدراميوالتوسل بالرمزي وذلك بإخضاع الطبيعة لحركة النفس الانسانية وحاجاتها العاطفية، فالأشجار شاخصة أبصارهاتشارك الأنثى هذا الإحساس الواخز بالمأساة والسقوط الأخلاقي, والشمس معادل موضوعي للفتاة تشاركها الإحساس بالكره والإدانة لهذا التوحش, وتنهض المفارقة من جديد لتشييد معالم الصراع في القصة حين يطلب الراوي من الفتاة أن تراقصه وتسمعه كلمات الحب،ويدخل السرد في أجواء فنتازية غرائبية ((طفت حولها كالمجنون ..أفزع صراخي البوم والأشجار حتى الأفاعي، وأنا أهمس لها: أحبك أعتذر إليك ..لأول مرة أراها تبتسم ونسيم سحر يحمل ما تبقى من رمادها إلى مكان لست أنا فيه . ازداد جنوني ..ظللت أصرخ وأرقص وأنوح كالنساء، وأنا أردد أغنية أبو بكر سالم : سر حبي فيك غامض، سر حبي ما انكشف))(8).
 

لاشك أن الخاتمة التي آلت إليها أحداثالقصة قد استثمرت تقنية المفارقة على مستوى الحدث الذي تتجاذبه قوتان هما إحساس اللذة والانتشاء من جانب الرجل وإحساس الفزع والفجيعة من جانب الأنثى, كما نلحظ أن بطل القصة عبرّ عن إحساس الحب بطريقة مفارقة لا يتوقعها القارئ, وليست نتاجا طبيعيا لما انبني عليه حدث القصة، كذلك نستشف التضاد من خلال الحدث الغرائبي الصادر عن الشخصية الراوية للحدثبين الرقص والصراخ والنواح وهذه مفارقات تسهم في خلق أجواء الصراع وتسرب الدراما إلى القصة، وتمثل المفارقة اللفظية نهاية غير متوقعة لمجريات السرد في القصة، حيث القارئ يتوقع فعلا معاديا أو جنوحا سلوكيا لفعل الشخصية كنهاية منطقية لمجموع هذه الأحداث لكنه يختتم أحداث القصة بترديد أغنية أبو بكر))سر حبي فيك غامض، سر حبي ما انكشف)) (9) خالقابذلك خطاباتهكميا يضاعف من الاحساس بالمفارقة ويرمز إلى سخرية عابثة تتجاوز إنسانية الإنسان وتوحي بصراع لا أخلاقي بين قيم متضاربة دائما ما سيكون الشر والحيوانية سائدين على ما سواهما والمفارقة مظهر فني في معظم القصص بل لعلها من وجهة نظري العنصر الأبرز في المجموعة .
 

وتأتي قصتا ماريونيتو cut لتستثمرا هذه التقنية القصصية وعبر مشاهد وأحداث تكاد تجنح إلىالخيال متشكلة في أجواء سوريالية موغلة في الإيحاء والرمزية، ففي قصة ماريونيت ((شوارب و شيلان تساقطت تحت أقدام نساء تعرت أجسادهن ولم يطفقن بحثاً عما يواري سوءاتهن، بل سال اللعاب ..ارتمى الرجال بين أحضان النساء وبشراهة التهموا أجسادهن،ليتقيؤهن على أجساد أخريات))(10) والسياق السردي يحمل إدانة واضحة لهذا الفعل فالرجولة برمزيها الشوارب والشيلان تسقط أخلاقيا في مستنقع الرذيلة، وإذا كانت شخصية الراوي هي من يبث هذا الإحساس غير أنهاتصنع مفارقتها حين تؤول إلى هذا الفعل وتنجر نحو هذا السلوك ..(( استنجدت بعمود يعصمني، لكن يبدو أنه لا عاصم اليوم، حاولت الهرب ..أمرت يديَ ..قدمي بالتحرك لكنها ..لم تتحرك ؛ كانت الخيوط قد امتدت نحوي طالتني . كومة من الدخان النتن انفضت من جثث بعضها فوق بعض ..لم يتبق غير قطيع من النساء العاريات وأنا .. سقط شاربي وشالي أنا الآخر ..ارتميت تحت أقدامهن عاريا، وتمنيت لو أن المسرح يمطر خمراً))(11).
 

وفي قصة cut نجد أسلوبا سرديا غاية فيالتفنن يشف عن امتلاك واعلأساليب السرد، وبالمقابل تنهض القراءة محاولة تفكيك شفرات القصة والبحث عن مغزاها الرمزي، محاولةملء ثقوب وفراغات هذه القصة التي لا تخبر وتقول بل تشير وتلمح إن هذه القصة ليست قصة حدث منطقي خاضع لفكرة التنامي والتتابع، كما أنها ليست قصة لشخصية مركزة يتمحور حولها الأحداث، إنها قصة قائمة على منطق المفارقة في مشهد سوريالي يعتمد تداعي الأحداث، وعلى فنتازيا المكان والشخصيات، وتقوم على السخرية والتهكم من الواقع الاجتماعي، وبتوليفة سردية تضعها القاصة في سياق تراجيدي يحاكم الواقع ويدين ثقافته، من خلال الفتاة التي تمدد جسدها على قارعة الطريق والأقزام البشرية تعبث بها، في حين تسترسل كاميرا المخرج في نقل هذه الأحداث، ونقل مشاعر الرعب بتسليط الضوء على عيني الكلبالخائفتين، وكذا من خلال الملقاط الذي يقوم بنتف الشعيرات البيضاء من شارب الرجل الذي بدوره يكتفي بتحريك شاربه في مشهد درامي يصنع المفارقة على طول الأحداث، ولتكون الخاتمة علامة رامزة تدين واقع الشخصية وعالمها حيث تكتفي هذه الشخصية بالاقتراب من الأقزام والهمس في آذانهم بالقول ((لو أنكم ابتعدتم عن قارعة الطريق قليلاً, فهذا طريق عام .. فيضج المكان بالتصفيق))( 12) . إن جسد الفتاة المرمي على قارعة الطريق هو ترميز لكل إنسان هزمته ظروفهالاجتماعية ومارس المجتمع في حقه أبشع أنواع الاحتقار والإهانة في ظل عالم غرائزي يجنح للرذيلة ويمارس الخطيئةدونما تردد.
 

1.    ينظر : د. عاصم شحادة، المفارقة اللغوية في معهود الخطاب الغربي دراسة في بنية الدلالة، مجلة الأثر العدد10، الجامعة الإسلامية ماليزيا, ص5.وينظر مصدره .
2.    نورثروب فراي، تشريح النّقد: محاولات أربع، ترجمة محمّد عصفور، عمادة البحث العلميّ، الجامعة الأردنيّة، عمّان، ١٩٩١ م، ص ٥٠.
3.    جليلة الأضرعي، مجموعة شوارب، مطابع اليمن الحديثة, ط1, 2014, ص15.
4.    نفسه.
5.    نفسه.
6.    نفسه.
7.    نفسه, 16.
8.    نفسه, 17.
9.    نفسه.
10.    نفسه,16 17-18 .
11.    نفسه, 17-18.
12.    نفسه, 46.

 

مدرس بقسم اللغة العربية كلية التربية جامعة ذمار

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً