الاثنين 25 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
نظرية جديدة في الحكم - وجدي الأهدل
الساعة 13:58 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

 

في عيد ميلاد العبقري الذي يعرف كل شيء، أُقيم احتفال خاص – غير مُرخص لوسائل الإعلام نشر أنباءٍ عنه – حضرته شخصيات محدودة من نخبة مجتمع بوخارست.
أحضر كل مدعو معه هدية، واصطفوا في طابور لتهنئته بعيد ميلاده وتقديم هداياهم. واستقبلهم فخامته في باحة القصر قرب النافورة التي تكاد تتجمد من شدة البرد والخوف!
أحضرت ناديا كومانتشي، لاعبة الجمباز الفائزة بتسع ميداليات أولمبية، هديتين، وقدمت له إحداهما، ففتحها فإذا فيها طقم أقلام باركر مُذهبة، شكرها ولكنه قبل أن يسمح لها بالدخول سألها عن الهدية الثانية، فردتْ أنها أحضرتها لابنه نيكو، ودون مراعاة لأبسط قواعد اللياقة سطا على هديتها، وقال إنه سيسلمها له بنفسه!
لم تجرؤ ناديا على استرداد هديتها، ومضت داخلة إلى ردْهَة القصر وقد غرزت أسنانها العلوية في شفتها السفلى من القهر.
فتح فخامته هدية وزير الإعلام، فوجدها علبة من الحلوى، ظل يتفحصها بعض الوقت وهو يصغي إلى وزيره الذي أخبره أنها حلوى إيطالية شعبية اسمها (ألبان فورتي) يعود تاريخ ابتكارها إلى القرن الثالث عشر في منطقة توسكانا، ويتم تحضيرها في الفرن ثم رشها بطبقة خفيفة من السكر البودرة والقرفة، وهي غنية بالفواكه المجففة والمكسرات مع خليط العسل والكاكاو؛ وقبل أن يُنهي الوزير الثرثار كلامه تلقى على حين غرة ركلة من فخامته أسقطته في حوض النافورة، فتخبط في الماء صارخاً من شدة برودته. رمى فخامته الحلوى على الأرض وداسها بقدميه وكأنه يُهين واحداً ممن كانوا يتصدقون عليه ببواقي الطعام حين كان فتى إسكافياً.
صعد وزير الإعلام من حوض النافورة مبلولاً يرتجف كراية في يوم عاصف، ووقف أمام مولاه وكأن شيئاً لم يحدث. أمره تشاوشيسكو أن يخلع ملابسه لكيلا يُلوث السجاد، وأن ينضم إلى الحفل عارياً.
بعد انتهاء طقس استلام الهدايا، ترأس فخامته مائدة العشاء الباذخة، التي كانت تعج بمئات من ألوان الطعام، على الأرجح أن 90% منها لم يسبق لمواطن روماني أن تذوقها في حياته.
لكن العبقري الذي يعرف كل شيء لم يذق منها لقمة، واكتفى بتناول وجبة شعبية معروفة في كل بيت روماني تسمى (ماما ليغا) مكونة من ذرة مطحونة مع زبدة وجبن.
بإيعاز منه رتب موظفو البروتوكول جلوس ناديا في زاوية قصية بعيدة عن الأنظار، بجوار وزيره المغضوب عليه الذي لم يجرؤ أحد على إعارته حتى منديلاً ليستر عورته، وأجلس ابنه نيكو عن يساره بحيث لا يتمكن من اختلاس النظرات إلى لاعبة الجمباز الفاتنة.
بعد نهوضه من مائدة العشاء، بدأت الفرقة الموسيقية بالعزف، وانقسم الضيوف في مجموعات، بينما ظل الوزير المنكود الحظ والرومانية الأكثر شهرة في العالم يحتسيان الفودكا بمفردهما، لقد داهن الضيوف فخامته فنبذوهما. تسلل الوزير إلى دورات المياه، وحبس نفسه في واحدة منها.
لكن الوحيد الذي تجرأ على الاقتراب من ناديا ومحادثتها كان حاكم ولاية براهوفا، وكان هذا الأخير يكن لها احتراماً يصل إلى درجة التقديس.
بعدما تبادل معها كلمات المجاملة المعتادة، دعاها للرقص فوافقتْ بامتنان، وأثناء الرقص همس في أذنها: "لقد تصرف معك بطريقة وضيعة لا تليق بشخص في مركزه.. لقد أعطى هديتك لنيكو ولكنه أخبره بأنها منه.. مع الأسف هكذا هو يتصرف أيضاً مع الشعب، يُظهر نفسه وكأنه يمنحهم خبزهم من جيبه الخاص.. ليكن الرب في عون الشعب الروماني".
اضطربتْ خطوات ناديا ونضح جبينها بالعرق، إذ لم تكن تصدق أن هناك من يجرؤ على نقد الديكتاتور.
مكث حاكم ولاية براهوفا ملازماً لها يسرد لها النكات اللطيفة، ولكن صخب ضحكاتها اللذيذة أثار انتباه وحسد تشاوشيسكو، فأتى مدير المراسم وأخبر حاكم ولاية براهوفا بأن السيد الرئيس يطلب منه أن ينضم إليه.
بعد ساعة ودع تشاوشيسكو ضيوفه متمنياً لهم ليلة سعيدة، وانسحب برفقة ثلة من خلانه إلى مكتبه، وكان من ضمنهم حاكم ولاية براهوفا.
انتهز الحاكم فرصة غياب إلينا – التي تُبقي زوجها تحت رقابتها الصارمة طيلة الوقت –وطرح عليه الموضوع الذي جاء من أجله: "صاحب العظمة دانوب الفكر، عندي لك رجل مثير للاهتمام". تجشأ تشاوشيسكو وقد ثقل جفناه: "من أية ناحية؟". قال الحاكم وقد عقد يديه خلف ظهره: "إنه يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة تشيلي العريقة في علم بليتيسموغرافيا القضيب، وهو علم يُعنى بقياس القضيب بين الأعراق".
كان سيادته يقبع خلف مكتبه مسترخياً على كرسيه يُغالب النعاس: "حقاً هذا تخصص نادر، ولكن لا أعتقد أن الوطن بحاجة إلى خدماته". قال الحاكم وهو يدنو راكعاً ومُخفضاً صوته ليوحي بأهمية ما سيقوله: "أنا كانت عندي مشكلة تؤرقني وتغرقني في الخجل، سببها أن قضيبي قصير، ولكن هذا البروفسور الأريب زعم أن للقضيب القصير ميزات عند المضاجعة تتفوق بكثير على نظيره الطويل، ربما كان يكذب، ولكنه أقنعني، فشفيتُ من عقدتي النفسية، وأصبحت قادراً على مضاجعة أية امرأة متاحة".
برقت عينا تشاوشيسكو واعتدل في جلسته ودبت الحماسة في صوته: ".. ربك! ولم تذكره لي إلا الآن يا نذل! هيا اقعد وأخبرني بكل شيء عن هذا الرجل المبارك!".
***

في الصالة الرياضية الملحقة بقصر الربيع، التقى تشاوشيسكو وهو يتمرن على الآلات، بالرجل الذي سوف يلهمه نظرية جديدة في الحكم.
بدا أ. س. مارتينيث شيخاً وسيماً في الستين من العمر، مكتنزاً قصير القامة، حليق الذقن وشاربه خفيف، شعره مُنعم ومصبوغ بصبغة سوداء، أنيق المظهر، تتضوع منه روائح عطور نفاذة، ويغطي رقبته بشال أحمر لكيلا يُلاحظ البهاق الذي يعاني منه.
قدّم نفسه بصفته مواطناً تشيلياً سُحبت منه جنسيته، انتسب إلى الحزب الاشتراكي التشيلي أثناء دراسته في الجامعة، وبعد الانقلاب الدموي عام 1973 الذي أطاح بالرئيس المنتخب سلفادور أليندي اعتقل وسجن لثلاث سنوات.
استمع إليه تشاوشيسكو فاغراً فاه ومحدقاً فيه بإعجاب. وبدون أيّ تحرج، وكأنه يؤدي وظيفة روتينية، فتح البروفسور حقيبته السامسونايت، وطلب من فخامته أن يأذن له بإجراء الفحوصات.
تنحنح تشاوشيسكو واحمرَّت وجنتاه وأمر بإخلاء الصالة؛ أنزل العبقري الذي يعرف كل شيء سرواله وباعد بين ساقيه، وقام البروفسور بالفحص مستخدماً العديد من أدوات القياس، ودوَّن في دفتر خشن الغلاف مصنوع من جلد الخنزير أرقاماً كثيرة، ثم استخدم ميزاناً إلكترونياً حساساً لوزن كُرتي تشاوشيسكو، ثم طلب منه أن يُغمض عينيه ويتخيل نفسه يُجامع السيدة الأولى، ضحك فخامته من أعماق قلبه: "هل تمزح؟؟ لو تخيلتها فإنك لن تراه بالمرة!". تحسباً لهذه المواقف، أخرج البروفسور من حقيبته صوراً إباحية وطلب من سيادته أن يُحدق فيها، فنجح الأمر أخيراً. ثم انهمك البروفسور في إجراء حسابات معقدة بآلته الحاسبة، وعندما استخلص النتائج قام بلِّم أدواته العجيبة وترتيبها في حقيبته.
سأله تشاوشيسكو وبخار الفضول يتصاعد من حنكه: "طمئنّي يا بروف". ابتسم مارتينيث مُظهراً أسنانه الحادة كأسنان سمك القرش: "البشارة سيدي الرئيس". انفرجتْ أسارير فخامته: "قل وعليّ مكافأتك". سوَّى مارتينيث شعيرات رأسه الخارجة عن مسارها المرسوم: "لقد أنعمتْ عليك الطبيعة بالقضيب الذهبي!". رنت كلمة "الذهبي" في أسماع تشاوشيسكو ووقعت موقعاً حسناً في نفسه. أردف مارتينيث وهو يستعين بالآلة الحاسبة: "لقد أثبتت الدراسات العلمية التي نشرتها جامعة السوربون أن متوسط الطول الطبيعي لآلة الذكورة هو 13 سم، وعندما نُطبق متوالية فيبوناتشي ونقوم بقسمة متوسط الطول (13 سم) على النسبة الذهبية (1.6 سم) فإن الناتج هو (8.125 سم)، وهذا الرقم المسمى بالرقم الذهبي المقدس ينطبق بدقة رياضية مذهلة على طول قضيبكم المفدى". حك الديكتاتور مؤخرته: "كلام مهم ولكنني لم أفهم منه شيئاً.. أنا بصراحة بليد في الرياضيات". نفث مارتينيث سحره بضحكة أنثوية ورفع يده مؤدياً التحية العسكرية مصوباً بصره إلى ما تحت سرة فخامته: "أهنئكم سيدي الرئيس، إن الرقم 8.125 سم هو رقم الحظ المطلق، وهو الطول النموذجي للأعضاء التناسلية الذكرية للملوك والرؤساء وعظماء التاريخ، أمثال نابليون بونابرت والإسكندر الأكبر وفلاديمير لينين وماو تسي تونغ والرفيق فيدل كاسترو". تنبه تشاوشيسكو إلى ستر عورته: "يا لي من ظالم غشوم، هل تصدق أيها البروف لم تبق سُبة في القاموس إلا وشتمته بها، وأين لي أن أعلم أنه على هذا القدر من الرفعة ونبل المحتد!".
استبقا تشاوشيسكو للغداء معه، ثم أمضيا المساء معاً وهما يُناقشان كيفية تطبيق مبادئ وأُسس علم بليتيسموغرافيا القضيب على إدارة شؤون الدولة.
ومنذ ذلك اللقاء الذي لم يفطن له المؤرخون، أخذت جمهورية رومانيا الاشتراكية بتطبيق نظرية "صدام الآلات" التي ابتكرها البروفسور أ. س. مارتينيث – قبل صموئيل هنتنغتون صاحب نظرية صدام الحضارات – وتخلت عن الاشتراكية اللينينية.
لقد أصبح عضو تشاوشيسكو – الذي يساوي طوله الرقم الذهبي المقدس – الأداة التي يُقاس بها ولاء المواطن، ودرجة وطنيته، وأهليته للمناصب الحساسة، بل وحتى صلاحيته ليكون جزءاً من الشعب الروماني.
وقد نصت النظرية التي عُمل بها سراً، على أن المواطن الذي له عضو أقصر من عضو (دانوب الفكر) يعد مواطناً صالحاً ومطيعاً للنظام واشتراكياً بالفطرة، وأن المواطن الذي ابتلي بعضو أطول من عضو (دانوب الفكر) فإنه يُصنف مشاغباً وميالاً لمعارضة الدولة وأقرب إلى خيانة الوطن، وفوق ذلك ينظر إليه بوصفه برجوازياً مُنحلاً بالولادة.
كما تنص النظرية في مرحلتها النهائية على القيام بحملة وطنية كبرى لتقصير الأعضاء التناسلية الأطول من عضو (صاحب القضيب الذهبي المبجل) وتطويل الأعضاء التناسلية الأقصر منه، للحصول على مجتمع مثالي ومتجانس وحائز على أعلى درجات التحضر والتقدمية.

***

بعد سنوات، استدعى فخامته العراف الغجري (إدمريسكو)، وكان هذه المرة رائق المزاج، معتداً بقوته، وطيف ابتسامة ساخرة تلوح على محياه.
قال للعراف: "لقد نجحتُ في التصدي للتعبئة التي كانت تجري ضدي". ارتعشت يد العراف وهو يشرب القهوة المرة، وتحدث بصوت مخنوق: "نعم.. حتى الآن". قطب فخامته جبينه: "مخطئ.. لقد انتصرت عليهم وإلى الأبد". قلب فخامته فنجانه على الطبق وانتظر بضع دقائق.
شعر (إدمريسكو) بالسم يسري في بدنه، تجلَّد متحملاً الألم وقرأ لتشاوشيسكو فنجانه: "قريباً، ربما في فصل الربيع، ستهب رياح عاتية وتقتلعك من جذورك". تهاوى العراف مُنسدحاً على الأرض والرغوة البيضاء تتجمع على جانبي فمه.
في ديسمبر/ كانون الأول 1989 انطلقت شرارة ثورة (ربيع الديمقراطية) من تيميشوارا، ثم انتشرت الاضطرابات إلى جميع أنحاء رومانيا، وحاول تشاوشيسكو الفرار من بوخارست بطائرة مروحية، ولكنه لم يتمكن من النجاة وأُعدم رمياً بالرصاص.

منقولة من ضفة ثالثة ..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص