الاثنين 25 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
قصة..
المُترجم - وجدي الأهدل
الساعة 08:51 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

يقع مقهى صوت العدالة في حي ميكروثانترو (microcentro) العريق الذي يُعد بمثابة سُرة مدينة بوينوس آيرس.
تحب العصافير هذا المقهى رغم أنه غير مسموح لها بالدخول، فتظل تنقر بمناقيرها زجاج النوافذ وهي تحدق بعيونها التي تومض كنجوم سوداء والفضول يكاد يقتلها لتعرف ما يجري في الداخل.
لكن ظلاً غامضاً ليس لأحدٍ من رواد المقهى المعتادين تمكن من التسلل بدفع الباب الزجاجي بكتفه، وكأنه يخشى أن يترك خلفه أية بصمات قد تدل عليه، ونزل بخطوات حذرة إلى الأسفل.
اختار طاولة قاصية ليقعد عندها مُعطياً ظهره للجدار، وكفه المخبأة بداخل معطفه الطويل الأسود كالليل تتحسس المسدس.
كان يحجب نصف وجهه بنظارة تشبه مغارة مظلمة لكيلا يتعرف عليه أحد.
في الخارج كان الجو مشرقاً ومعتدلاً، وفي الداخل متقلباً وغائماً وضبابياً من دخان السجائر، ويحتاج الآتي تواً بضع دقائق حتى تتأقلم حاسة البصر لديه مع الضوء الخافت الذي يتسرب بشق الأنفس من النوافذ العالية.
وعلى عكس توجسه لم يحفل أحد بمقدمه، وظل الزبائن على حالهم يشربون ويدخنون ويثرثرون بحماس كخلية نحل.
كان التلفزيون شغالاً ويبثُ تقريراً إخبارياً عن لقاء القمة الذي عُقد بين جيمي كارتر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وليونيد بريجنيف رئيس الاتحاد السوفييتي.
راقب الوافد الجديد بقلق وعدم ارتياح المصافحة الحارة بين أقوى كبشين في القطيع البشري وأحس بانتفاخ قولونه العصبي.
لاحظَ أن الشخص الوحيد الذي كان يتابع التقرير الإخباري باهتمام هو الكهل البدين ذو الهيأة الارستقراطية، القابع خلف مكتب مصنوع من خشب لوتشيانو مالو الصلب المضاد للرصاص، وهو يدخن بتلذذ سيجاراً كوبياً غالي الثمن.
هناك أسباب عديدة ليَشْعُرَ بالضغينة تجاه مالك المقهى، منها أنه ينحدر من أصول سورية، والشكوك حول انتمائه لخلية تخريبية شيوعية، ولكنه حين لمح صورة كبيرة مبروزة لرئيس الجمهورية بزيه العسكري المهيب هدأ حقده بعض الشيء.
فُتحَ باب المطبخ فتصاعدت منه أبخرة حمراء! أقبلتْ نادلة هيفاء ترتدي تنورة قصيرة مكشكشة بلون الكمون وتحمل صحناً ثقيلاً، واتجهتْ إلى طاولة تغصُ بالصور واللافتات، التفَّتْ حولها عصبة من العجائز العابسات اللاتي لهن حواجب معقودة تشي برغبتهن الدفينة في الخنق، ووضعتْ بخفة أكواب المتة الساخنة.
لأول مرة يراهن من مسافة قريبة.. جدات ميدان مايو اللواتي يرفعن صور أولادهن وبناتهن المفقودين والمفقودات المتسببات في تشويه سمعة البلاد، النساء اللائي ملأ نواحهن جرائد العالم وهن يطالبن بالكشف عن مصير أحفادهن الذين اختطفوا هم أيضا.
انتابه نحوهن شعور شهواني، ليست شهوة الفرج ولكن شهوة الأمعاء، لقد شم رائحة اللحم البقري النيء تفوح من أجسادهن المترهلة.
في الطاولة المجاورة لطاولتهن رسام شاب ملتح كان يرسم بقلم الفحم على البالونات، ثم يعطيها لستيني أصلع لينفخها، وهذا بدوره يناولها لواحدة من النساء المسنات لتثقبها بدبوس شعر، فتغمرهم موجة عارمة من الضحك.
هبطت إلى المقهى امرأة في ريعان الشباب، وانضمتْ إلى طاولة الفنان والأصلع. سألتهما ماذا يفعلان، فأجاب الستيني الأصلع: "هو يرسم وجه فيديلا وأنا أنفخه والجدات يفجرنه هاها!".
طبعتْ المرأة قبلة ساخنة على خد الفنان الشاب وتندرت قائلة: "ضع في بالك أنه مثل الشيطان إذا أكثرتَ من استحضاره فسوف يظهر لك!". ضحك ثلاثتهم بمرح، ورد الرسام القبلة بمثلها.
سحب مالك المقهى قلم الرصاص المعلق بأذنه وقرع كأساً زجاجياً ليسترعي الانتباه "أيها الرفاق لقد حان وقت التسلية".
كف الزبائن عن تجاذب أطراف الحديث وركزوا أبصارهم على شاشة التلفاز.
أطلَ المقدم التلفزيوني من الشاشة بسحنة متجهمة تثير الرعب كوجه شخص ميت منذ ثلاث سنوات: "وتلبية لآلاف الاتصالات الهاتفية التي تلقيناها من المشاهدين يسرنا أن نعيد بث الخطاب الهام لفخامة رئيس الجمهورية الفريق خورخه رافائيل فيديلا، الذي ألقاه مساء الأمس بمناسبة الذكرى الثالثة لثورة إعادة التنظيم الوطني الخالدة".
خبط الستيني الأصلع الطاولة بيده نافد الصبر مخاطباً مالك المقهى: "أين المترجم يا سيد حلبي؟!". طقطق مالك المقهى بأصبعيه للنادلة: "استدعي ريكاردو بسرعة". فغمزت بعينها وغادرت لاهثة إلى المطبخ.
انبعث النشيد الوطني من التلفاز فتأهب الوافد ذو النظارات السوداء للوقوف، ولكنه تدارك نفسه في آخر لحظة، وقد لاحظ أن الجمع لا يبالون ويتابعون أحاديثهم بالوتيرة نفسها.
عادت النادلة من المطبخ وهي تسحب خلفها شاباً وسيماً طويل القامة، وحين رآه رواد المقهى داخلاً عليهم هبوا يصفقون له وقوفاً وهم يرددون اسمه، وكأنه ممثل مسرحي شهير ظهر على خشبة المسرح.
حيَّاهم ريكاردو محرجاً والماء والصابون يقطر من مريلته. نهض الوافد الغامض هو الآخر، وتمايل يميناً ويساراً متشوفاً لرؤية وجه غاسل الكؤوس والأطباق الذي يحظى بكل تلك الشعبية.
رفعتْ النادلة التي ضاعف النمش في وجهها من جمالها كرسياً ووضعته أمام شاشة التلفزيون. شكرها ريكاردو وقعد عليه، وقام بحركة تساعده على التركيز: راح ينقر بأنامله على حاجبيه والجلد بين عينيه وكأنه يضرب على أزرار آلة كاتبة.
وقف الستيني الأصلع ودنا من ريكاردو ولوَّح له بيديه، فلما التفتَ إليه، قال له: "يا ولد، نريد ترجمة أمينة، تفضحه على حقيقته، اتفقنا". اكتفى ريكاردو بابتسامة واسعة، فانسحب الستيني الأصلع إلى مقعده وهو يدندن بلحن أغنية عودة (volver) لكارلوس غارديل التي يتشاءم منها الأرجنتينيون.
ساد الصمت حين ظهر على الشاشة رئيس الجمهورية خورخه فيديلا، وهو يرتدي بدلة عسكرية ووشاح الجهورية الأرجنتينية، وصدره مرصع بالأوسمة، وكتفاه تتباهيان برتبة الفريق، وفي يده عصا الماريشالية القصيرة، وأمامه ميكروفون أسود ضخم كغرمول الحمار.
اصطادته الكاميرا وهو مسترخٍ على كرسيه ساهماً خلف مكتبه الفخم، وسبابته تحفر في إحدى فتحتي أنفه، ثم وهو يخرجها وينظر بإمعان إلى القذارة، وتنهده مغتبطاً وهو يمسحها بعمود الميكروفون.
علقت متقززة إحدى جدات ميدان مايو: "يا للقرف، هل رأيتم كيف يُخرج المخاط من أنفه؟! هذا المخلوق فضيحة حقيقية والمكان المناسب له هو حديقة الحيوانات في قفص القرود".
قهقه رواد المقهى بحبور. تكلم فخامته أخيراً وقد عاد من شروده مشيراً بعصاه إلى جماهير وهمية: "أيها الشعب".
قلد ريكاردو حركته المتغطرسة وترجم: "أيها الحمير".
جفل الوافد الغريب وجحظت عيناه دهشة.
صوت الرئيس: "أيها الرجال الأرجنتينيون الأبطال"
ريكاردو: أيها الرجال الأرجنتينيون الأنذال.
صوت الرئيس: "أيتها النساء الأرجنتينيات الماجدات".
ريكاردو: أيتها النساء الأرجنتينيات السافلات.
لاحظ الوافد الغريب التأثير الفوري لترجمة ريكاردو من خلال الانزعاج الذي بدا على وجوه الرجال وامتعاض أفواه الجدات.
صوت الرئيس: "بمناسبة الذكرى الثالثة لثورتكم العظيمة، ثورة إعادة التنظيم الوطني، لدي لكم مفاجأة سارة".
ريكاردو: بمناسبة الذكرى الثالثة لثورتي سوف أخوزقكم بهذا الخبر.
صوت الرئيس: "لقد نجحنا في عقد أضخم صفقة أسلحة في تاريخ الأرجنتين".
ريكاردو: لقد نجحت في تعزيز سلطتي.
صوت الرئيس: "إنها لحظة مجيدة في تاريخ شعبنا".
ريكاردو: إنها لحظة مجيدة في تاريخي.
صوت الرئيس: "من الآن فصاعداً لن تجرؤ أية دولة أن تعتدي عليكم".
ريكاردو: من الآن فصاعداً لن تجرؤوا على معارضتي.
صوت الرئيس: "وأية دولة تفكر في العدوان على بلادنا أقسم أنني سأحرق أرضهم".
ريكاردو: أيّ واحد منكم يفكر بالانقلاب عليّ أقسم أنني سأحرق بوينوس آيرس بمن فيها.
ظهرت آثار الصدمة على مالك المقهى وسقط السيجار من فمه.
صوت الرئيس: "الوطن لن يخضع بعد اليوم للقوى الأجنبية".
ريكاردو: سيادة الوطن معروضة للبيع في المزاد لمن يدفع أعلى سعر.
صوت الرئيس: "سنشتري أحدث الطائرات والدبابات والبارجات لنحمي حريتنا واستقلالنا".
ريكاردو: سأشتري أكثر الأسلحة تطوراً لأحمي نفسي منكم.
صوت الرئيس: "الآن ونحن نمتلك أحدث الأسلحة في العالم يمكننا أن نستمتع بثمار الديمقراطية".
ريكاردو: عندما تصبح الأسلحة المتطورة تحت تصرفي سوف أريكم المعنى الحقيقي للديكتاتورية.
صوت الرئيس: "فلتهنأ أيها الشعب العظيم بالديمقراطية".
ريكاردو: فلتهنأ أيها الشعب المغفل بحذائي العسكري.
صوت الرئيس: "لقد وعدتكم ببناء الوطن وقد فعلت".
ريكاردو: لقد وعدتُ زوجتي ببناء قصر فخم لها وقد بنيته.
صوت الرئيس يرتفع بصخب من التلفزيون: "الوطن يتسع للجميع".
ريكاردو: الوطن لي أنا وحدي.
صوت الرئيس: "أيّ مواطن شريف يمكنه محاسبتي وتوجيه النقد إليّ".
ريكاردو: أيّ صعلوك حقير ينتقدني سأقطع عضوه التناسلي.
حمى الستيني الأصلع ما بين فخذيه بيديه وابتلع ريقه متخيلاً مقص الأشجار يجز عضوه، وأما الوافد الغريب فكان يترنح إلى الخلف وكأنه يتلقى لكمات غير مرئية.
صوت الرئيس: "المخلصون للوطن سوف نكافئهم".
ريكاردو: المخلصون لي شخصياً سوف أرقيهم وأقربهم.
صوت الرئيس: "ولأننا دولة ديمقراطية فالمعارضة لها مكان في الوطن".
ريكاردو: ولأن الدولة دولتي فالمعارضة مكانها الطبيعي هو المعتقل.
صوت الرئيس: "نحن ملتزمون بالدفاع عن حرية الرأي والرأي الآخر".
ريكاردو: أنا سأقتل أيّ تافه لديه رأي يتعارض مع رأيي.
صوت الرئيس: "سوف أعمل ليل نهار على النهوض باقتصاد الأرجنتين".
ريكاردو: سوف أسرق ليل نهار من أموال الدولة وأحولها إلى حساباتي السرية في سويسرا.
كركر مالك المقهى وارتجت كرشه، وأنغض الوافد الغريب رأسه بين كتفيه وتمنى لو تنشق الأرض وتبلعه.
صوت الرئيس: "لقد أمرت بإلقاء القبض على التجار الذين يحتكرون السلع والزج بهم في السجون".
ريكاردو: لقد فرضت على التجار أن يدفعوا لي حصة أكبر مقابل حمايتي لهم.
صوت الرئيس: "بسبب الإجراءات الاقتصادية الجديدة ستعيشون في رخاء ورفاهية لمئة عام قادمة".
ريكاردو: سوف أبحث عن عقار يساعد قضيبي على الانتصاب لأطول فترة ممكنة.
صوت الرئيس: "سوف أحارب الفساد".
ريكاردو: سوف أشجع الفساد.
صوت الرئيس: "لا أحد فوق القانون".
ريكاردو: القانون سأضعه فوق حجري!
ضحكات ساخرة تتدحرج على أرضية المقهى، ويتناهى صوت الستيني الأصلع معلقاً بمرح: "هذا الرفيق خورخه لديه ميول غلمانية!".
صوت الرئيس: "أنا أحبكم".
ريكاردو: أنا أنكح أمهاتكم.
الأقدام المدربة على الغدر أخذت تنزل الدرج بهدوء شديد جداً.
صوت الرئيس: "أنا مجرد خادم لكم".
ريكاردو: أنا أبول عليكم يا جرذان.
صوت الرئيس: "أنا لا أنام الليل من أجل السهر على رعاية مصالحكم".
ريكاردو: أنا أسهر الليل بين أحضان العاهرات.
في الأعلى تم إقفال الشارع ومنع حركة مرور السيارات والمشاة.
صوت الرئيس: "أنا أعدكم بتحقيق انتصارات عسكرية عظيمة على الأعداء".
ريكاردو: أنا أعدكم بتحقيق انتصارات عظيمة في الفراش مع العذارى.
صوت الرئيس: "أقسم أن أعداء الوطن لن يفلتوا من العقاب".
ريكاردو: أقسم أن الحسناوات لن يفلتن من النوم معي.
نظر ريكاردو بطرف عينه فلمح الستيني الأصلع ممدداً على الأرض وهو يُسحبُ من رجليه. يلتفتُ فيرى أن مقاعد المقهى قد صارت مشغولة بجنود مدججين بالأسلحة، وأما الزبائن ومالك المقهى فلم يعد لهم أثر. يقف فإذا وراءه الزبون الغامض وقد أبعد النظارة الشمسية عن عينيه.. يتجمد الدم في عروقه وقد اكتشف أنه رئيس الجمهورية شخصيا.
يتفرس خورخه فيديلا بانتباه بالغ في ملامح ريكاردو وكأنه يبحث فيها عن حلٍ للغز أثار فضوله وحين لا ينجح يسأله: "أريد أن أسألك سؤالاً واحداً قبل أن آمر بإعدامك".
تماوجت طبقة رقيقة من الدموع في عينيّ ريكاردو وشعر أن ركبتيه لا تقويان على حمله. واصل رئيس الجمهورية كلامه واضعاً يده على كتف ريكاردو وكأنه صديق حميم: "لقد توصلتَ بصورة صحيحة إلى المعاني التي أقصدها في خطابي.. من علمك هذه المهارة؟".
رد ريكاردو وهو يلاحظ أن عدداً من كبار الضباط قد أحاطوا به: "أنا علمتُ نفسي بنفسي.. أنا أصم يا سيدي".
قال فخامته مبدياً استغرابه: "أصم! ولكن هاأنتذا تسمعني وتجيبني بصورة صحيحة!".
جاوبه ريكاردو وهو يبذل جهداً خارقاً للسيطرة على ارتجاف صوته: "بسبب فقداني حاسة السمع علمتُ نفسي قراءة الشفاه".
أنزل الرئيس يده وابتسم بسخرية: "مذهل أيها المخنث!". احمرُّ وجه ريكاردو وأوشك على البكاء. تابع فخامته ممسداً شاربه الكث: "لقد تلوَّن وجهك.. أنت فعلاً تجيد قراءة الشفاه".
دارت أحاديث جانبية بين كبار قادة الجيش وخورخه فيديلا يتصنع عدم الإنصات، وبصعوبة تفادى إدخال أصبعه في أنفه.
انتبه ريكاردو إلى نظراتهم العدائية نحوه وشعر أنه محاصر.. تشتتْ تفكيره باتجاه خطة خيالية للفرار. فجأة وخزه خورخه فيديلا بأصبعه السبابة في صدره: "ولكن موهبتك تفوق مجرد ما تنطق به الشفاه، فأنت يا ريكاردو تفهم ما ينطق به القلب، كيف تأتى لك ذلك؟".
تألم ريكاردو من وخزة الرئيس حتى أنه شعر بها في قلبه: "بالتدريب أصبحت عندي مَلَكَة في قراءة ملامح وجه المتكلم فأدرك المعنى الأصلي للكلمات التي يقولها".
قال الرئيس وهو يُقرِّب يديه من ريكاردو وكأنه يتوق لا شعورياً إلى خربشة وجهه بأظافره: "إذن أفهم أنك لم تولد بهذه العاهة ولكن أُصبت بها لاحقاً". أجاب ريكاردو مرطباً بلسانه شفتيه الجافتين: "صحيح، كنت أسمع بصورة طبيعية، ولكن قبل ثلاث سنوات أصبت بالحمى الشوكية، لقد نجوت من الموت، ولكنني فقدت السمع نهائياً، وفي الوقت نفسه اكتشفت موهبتي في فهم النفس البشرية عن طريق النظر فقط إلى شفتيّ ووجه أيّ إنسان".
تكلم ضابط ذو رتبة رفيعة مشيراً بانفعال إلى ريكاردو: "اسمح لي سيدي الرئيس.. هذا الرجل يشكل خطراً بالغاً على النظام ولابد لنا من إعدامه بسرعة".
التفت فخامته إلى ريكاردو وقد ضيَّق إحدى عينيه: "ترجم ما قاله وزير الدفاع". استجاب ريكاردو دون تلكؤ كأنما ليثبت للرئيس صحة كلامه: "اسمح لي أيها الخنزير العفن.. هذا الصرصار يشكل خطراً بالغاً عليّ ولابد من إعدامه بسرعة".
امتقع وجه وزير الدفاع وبدا عليه الذعر الشديد. سحب خورخه فيديلا مسدسه وأطلق رصاصة واحدة على قلب وزير دفاعه، فتهاوى الأخير متخبطاً في دمائه.
أعاد الرئيس المسدس إلى جرابه وخاطب ريكاردو بلهجة رقيقة وكأنما يخاطب طفله: "أحسنت.. ترجمة جيدة". أعطى فخامته إشارة للجنود، فقام جنديان بجر الجثة من قدميها وأخفياها عن الأنظار.
رشح العرق من جبين ريكاردو وصدغيه وأخذت أسنانه تصطك رعباً. ارتفع الحاجب الأيمن لفخامته: "تبدو مرعوباً بالفعل!". رد ريكاردو وقد فقد السيطرة على ارتجاف يديه: "المعذرة سيدي الرئيس.. هذه أول مرة أشاهد أحداً ما يُقتلُ أمامي".
ضحك الرئيس وداعبه بلكمة خفيفة على بطنه: "من الآن فصاعداً ستكون أنت ملاك الموت في الأرجنتين.. بكلمة منك ستنطفئ حياة الخونة".
فتح ريكاردو فمه على آخره وتدلى فكه الأسفل حتى لامس الأرض رهبة مما يُراد منه.
صرخ فخامته وقد انقلبت ملامحه إلى الغضب: "اطلبوا من السيدة الأولى أن تنزل من السيارة وتحضر إلى هنا فوراً".
جثا ريكاردو على ركبته وتوسل باكياً ضاماً يديه: "أرجوك سيدي الرئيس اِعفني من هذه المهمة". رفعه خورخه فيديلا بغلظة وووجه له صفعة هائلة أسقطته أرضا. أنهضه الجنود وأوقفوه من جديد. سأله الرئيس بهدوء وقد استعاد السيطرة على غضبه: "هل تشعر بتحسن الآن؟". "نعم" رد ريكاردو وهو لا يجرؤ على مسح خيط من الدم سال من أنفه. أضاف الرئيس: "هل تقبل أن تعمل تحت إمرتي مترجما؟". انحدرت قطرة دم إلى فم ريكاردو: "أقبل بكل سرور يا سيدي".
ابتهج الرئيس برده وأخذ يُربت على رأسه.. وكانت هذه إشارة سرية لحراسه الشخصيين بأن هذا الشخص أصبح ينتمي إلى الدائرة الخاصة المسموح لها بالاقتراب منه.
هبطتْ إلى القبو المستخدم كمقهى سيدة البلاد الأولى وهي ترفلُ في ثياب أنيقة. تسمَّرتْ في نهاية السلم وقد بدا عليها التردد والخوف من العتمة التي تمسك بخناق المكان.
ناداها خورخه فيديلا: "أنا هنا أليسيا". فتقدمت السيدة باتجاهه وفمها يصطنع ابتسامة مُفرجة عن أسنانها اللؤلؤية.
أشاح ريكاردو ببصره إلى شاشة التلفاز، كان خطاب فخامته ما يزال مستمراً، وقد بلغ آنذاك أوج انفعاله العصبي مهدداً بعصاه: "الويل لمن يخونون الوطن.. إن جزاء من يخون الوطن هو الموت".
سالت دمعة على خد ريكاردو وقد فهم إلى أين ستذهب الرصاصة.
أحس الجنود الذين يخفرون باب المقهى برجفة الأرض تحت أقدامهم، أعقب ذلك سماعهم صوت طلقة نارية واحدة.

 

منقول من موقع ضفة ثالثة ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص