السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قصة قصيرة
غيثُ السماء - سماح حسين
الساعة 07:31 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

                         


    في بستان صغير مُخضر؛ أطفال يلهون،  قسماتِهم تتلون  بعشوائية ومرح، و خصلاتِهم تطير متمردة إثر الرياح ، يصرخون وتعلو هتافاتهم مجاراة للمتعة التي تغمرهم.. 
على الجهة اليمنى ، ثمة طفلة بفستان أصفر ذو شرائط حمراء ، بدا عليها الحزن المفاجئ ، تبتعد عن أقرانها لتجلس تحت ظل شجرة تين ضخمة ، تمسك كاحلها الملتوي وتكبح صوتها الشحيح متلوعة من الألم الذي طالها أثناء ركلها بالكرة دون قصد ، بخضم الجو الحماسي  والوجوه المتسخة.. نهض صبيٌ للتو من الأرض بعد سقوطه ، ينفض بنطاله المرقع من الغبار الذي احتل كل شبرٍ من جسده النحيل.. لفتت الفتاة انتباهه فجرته خُطاه نحوها ليمد لها يد العون .. 

نفس الفتاة التي لوت كاحلها قبل خمس عشرة سنة تجلس اليوم على كرسي عتيق ، تبحلق في بلاهة لذات البستان الذي بات مقفراً يبساً ، و قلبها متهشش كزجاج نافذتها المتحطمة إثر دوي صوت الصواريخ .. 
 أثناء شرودها الحائر ، لمحت جسماً شفافاً يذوي على الأرض شيئاً فشيئاً ، لقد كانت صورتها مع مليكُ قلبها .. نهضت بسرعة كي تلتقطها ، ابتسمت تتأمل تلك اللحظة البهية .. استرسلت بخيالها  وبدأت تسترجع ذكراها منذ زمان ، حين مرت بهما فصول و تعاقبت عليهما أعوام .. و حين كبرا وكبرت آمالهما ، غيثٌ صار موسيقاراً عظيماً ، يغني للحب والسلام و يطرب لكل أنواع الجمال ، و روان أضحت فنانة تشكيلية بديعة ، تنقش لوحاتها بخطوط متناسقة ، وأخرى لولبية ودائرية ومتشظية .. ومن ثم تبعث فيها الحياة بألوانها الزاهيات ..  مرت الأيام ، ليتعاظم حبهما.. ويتعاظم حب الكون لأجلهما .. بهرجت الطيور وازينت محتفلة حين ظهرت روان بفستانها الأبيض كأميرة بهية الطلة لم يكن لها في الحُسن اثنان .. وحين تقدم غيث ليلتقط يديها كفارسٍ هُمام.. 

لكن ، الحاصل بعدها لم يكن كقصص أساطير الماضي اللامعات ، غيثٌ أحب وطنه حين عصفت الرياح الهوجاء سياجه المحصن ، وازداد عشقاً لترابه حين تكالبت الوحوشُ الكاسرةَ حوله ، وكانت روان سنده وظهره بكل مايقوم به..  فلم يستطع غيث تحمل رؤية وطنه يُمزق ، يشتت ، يُنتهك ، يُمرغ جبينه في الوحل و يُغتصب.. كان يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يرقع جراحه الدامية ، وأن يصلح مافتئ منه .. و كانت روان تجهز خيطها الأبيض ، تجعله سميكاً ككل مرة تحاول حياكة ما بتر منه ولملمته دونما فائدة .. و أحياناً كانت تملأ دلوها بماء الورد وترشه على تلك الجروح الغائرات ، علّ قروحه تبرأ و تتطهر ..

 بُح صوت غيث  وهو  يدعو للسلام وينشد للعدل والأمان ،  أتعبه الأهل والجيران والخلان ، وأنهكته شجاراتهم ،  ولم تكن القطعان المتصارعة حوله أفضل حالاً ..  ولم تستوعب نواياه قط .. فظلت مستمرة في عتوها ونفورها ، حتى جرت الشائعات بأنه عدو لدود يخبئ الحقد الدفين ،  وشوشت القطعان بأمره ، غيث ليس مرغوباً به على وجه هذه البسيطة ، يخترق القلق روان وتحوم التساؤلات فوق رأسها ، ترى ألا فائدة تذكر بما يفعله غيث وقد يعرض حياته للخطر .. صَمّتُ القطيع عنه ، نظراتهم المستهجنة ، وشوشاتهم وجدالاتهم السُلطوية.. كل شيء لا يبدو على ما يرام، تحاول اقتناص لحظة ذكية لتبوح بما يُخلج فؤادها ويوجعه .. تجر يده لتهمس برفق : 
- غيثُ السماء!! 
- ماذا يا روان القلب!!  يهتف.. 

أشاحت بوجهها الأرض تمسح دمعة مالحة فرت من مُقلتها ، أحكمت قبضتيها بيديه .. ترجوه قائلة :  
- غيث!  أوقف هطولك أرجوك!!!

دُهش لنبراتها المتوجعة .. ولكن ليس كثيراً .. كان يشعر بأنه بأمان عميق ، وحال ليس له نظير ، أخبرها بهدوء : 
- عزيزتي! لا يوجد شيء تخافين منه علي ، لن يمسني أحد بسوء..  أنا لم أفعل شيئاً يستحق أي عداء.. 

انهمرت بالبكاء ، وانكفأت على ركبتيها تستجديه متوسلة :
- بل أخشى عليك الغادرين ، وابتسامة الخاذلين ، وبطش الشياطين .. دعك منهم كي تسلم ونسلم .. ! 

يضحك بعنفوانية ، و يربت على كتفيها مهدئاً :
- لا تقلقي .. دعك ممن يلوكون الشائعات ، ليسوا بتلك الدرجة من السوء كي يستباح دمي دونما خطيئة اقترفها بحقهم..   
تعلو قهقهته متابعاً .. ثم إلى أي مدىً يذهب خيالك الخصب ؟! لا تشاهدي أفلام الرعب أبداً منذ الآن ..

ومرت الدقائق والثوان ، ومن بعدها أيام و أسابيع ونيف أشهر.. غيثٌ لايزال يناظل ليحل السلام وروان تسانده بعدما سكنت شكوكها ، و أراحت بالها ونسيت موضوعها.. 
قرر غيث عمل مهرجان للسلام في وطن تموج فيه الألوان .. توافد الناس حينها من كل حدب وصوب.. وبوسط جمال تلك الأفواج ، اعتلى غيث المنصة :
                                    حي على السلام 
                                      حي على السلام 

كان يهتف بصوته العميق ، و ابتسامتة الواعدة .. 
تزايد توافد الناس المنهكون من الفقر والجوع و الحال المُزري ، وحتى من السُلطويين أنفسهم .. وبدأ بعدها ينشد ترانيم السلام مع رفقائه في حماس و ثبات ،  و عزفت أنامله نوتات الجيتار في تماهٍ بديع.. كان بذرة أمل تنبت بوسط ركام الحرب ، تصافح الجميع حينها و تآلفوا ، و كانت المحبةَ هي العنوان.. فرح غيث كثيراً وقرر أن يواصل المشوار ... ولكن ليس الآن كونه منهك تعبان .. عاد لبيته و غفا غفوة عميقة ٍ.. وبينما روان تطعم الصغار وتجري ترتيبات  منزلية على هذا الرف أو ذاك  ، تسللت إحدى القطعان من نافذته المفتوحة .. رمقته بنظرة كريهة ، و شمرت عن أنيابها بحقد وغِل .. وبوثبة واحدة ، انقضت عليه بشراسة ،  تهتك لحمه البشري دونما رحمة ، امتصت دمه حتى آخر قطرة ، و سلبت ماتبقى من العظام والجلد وخبأتها لوجبة لاحقة ، و تجشأت ومضت... 

هكذا رحل غيث ، لم رحل!!
 لم نرغم غيث السماء على الرحيل ، ألم يكن الغيثُ رحمة من الله يطفئ به حر الأرض والأنفس! ألم تكن زخاته مريحة للروح وتجعلها تصفو بصفاء السماء!!

  ومع هذا لاتخافوا ، فغيثٌ لم يرحل تماماً ، لاتزال بقاياه عالقة تتشبث ببراعم الحياة والأمل ، لم ! لأن الغيث وحي من الله يُلقي به لأجندته في السماء ، ولا صوت يعلو فوق صوت الله .. 

لقد ترك روان وزهرتين يانعتين من صلبه ، تتعلقان  بذا
بذات الحُلم وتتشبثان بالحب و السلام متبعتان بذلك نهج أبيهما  غيث السماء...  

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً