السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الشعراء في قفص الاتهام ! - طارق السكري
الساعة 15:27 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


هناك فريق من القرّاء يعيبون شعراء وكتاب هذا الزمان لأسباب لعل منها أن شعراء هذا الزمان غير مشهورين – وتناسوا أن أكثر الشعراء المشاهير كانت وراءهم دول عربية تدعم فكرتهم – ولعل من الأسباب : أن شعراء هذا الزمان لم يسجنوا في زنازين الحاكم ولم يطاردوا من أجهزة الدولة كغيرهم من الشعراء المشاهير – والأمثلة كثيرة – كالزبيري والماغوط ومظفر النواب وآخرون – وهي في الحقيقة أسباب واهية فقد يسجن الشاعر لانتماءه السياسي لا لأنه قال قصيدة في الحاكم . 
 

وهؤلاء أشبه بنقاد الأدب القدامى كالآمدي وابن قدامة من نقاد القرن الثالث الهجري الذين وقفوا من الشعر المحدث موقفا صارما ومعاديا ! والتشبيه مع الفارق فأين هؤلاء من أولئك بالبصيرة والمكانة العلمية ؟!!
تأتي هؤلاء ببيت شعري جميل فيقفزون إلى البردوني !
يقول أحدهم وإصبعه في أنفه :
لااااا إنك لم تحسنْ فالبردوني إشاراته بعيدة ! إنه عملاق يارجل البردوني عملااق !
تفتح له بابا في الغزل حتى تهرب من الشعر الوطني فيقول لك وهو يحك قفا رأسه :
إيييه ! هل تحاول أن تكون نزار قباني ؟ 
لقد ظلم نفسه وأغلق بابا من أبواب الجمال . 
يذكر مرة أن أبا تمام وقد كان شعره مرفوضا من قبل نقاد عصره حتى أن أحدهم قال : لو كان شعر هذا شعر لكان كلام العرب كله باطل ! 
على كل حال 
جاء أبو تمام وقال لهذا الرجل : أتيتك بشعر قديم لم تسمع به . قال : هات . فأسمعه . فلما فرغ أبو تمام من إلقاء القصيدة تهلل وجه هذا الناقد وقال : هذا النمير الزلال ، والسحر الحلال ! فقال أبو تمام على البديهة : هذه الأبيات لي ووالله أنها ابنة ليلتها ! فغضب الرجال وقال : والله لقد كنت أشعر بشيء ثقيل منها في نفسي . قم لا بارك الله بك ! 
إنه شيء يشبه الصَّنميّة . عقدة متراكمة لاتستطيع العثور عليها بسهولة ! ما الذي يمنعك من أن تحاول أن تتلمّس النص جيداً فلعل شيئا قد فاتك ؟! 
إن الجمال الباهر كل الناس يعرفه لكن الجمال الخفي لايعثر عليه إلا المفعم بالجمال . 
حسان بن ثابت رضي الله عنه ذات مرة جاءه ولده عبدالرحمن وكان لايزال صغيرا جاءه يبكي قال له : مابك يابني ؟ قال : لسعني طائر . قال : صفه ؟ قال : كأنه ملتفٌّ في بردتيْ حِبَرَة . فصاح حسان : قلت والله الشعر . 
اهتزت جوانح حسان كما تهتز النخلة إزاء الرياح القوية ! اهتزت لهذه النسمة الرقيقة من الجمال وعلم ببصيرته الجبارة أن ابنه سيقول الشعر يوما رغم أنه إنما قال نثرا كلاما بلاوزن ولاقافية !
لقد كان حسان يمتلك القدرة على تقشير الغلاف الخارجي للكلمة واستخراج اللب وإبرازه للضوء . والذي جرنا إلى الاستشهاد بهذه الحادثة هو الحديث عن الإحساس بالجمال واستكناه معانيه وتتبع ذات الشاعر في عناصر أبياته وصوره البلاغية واستحضار حزنه الأليم ، واستشعار ضربات أجنحة خياله وهو يطوف الكون ويستنطق الأحياء والنبات والجماد . 
لماذا القسوة على الشعراء وطلب المستحيل ؟ 
كان ولايزال لدينا مثل يمني يقول : ما أسهل الحرب على المتفرِّجِين . 
هناك فرق بين الإنشاء والتلقي . القارئ يتلقى دون عناء ولا مكابدة، فيُخيل إليه وهو يقارن بين شاعر وشاعر وبين نص ونص أن هذا الذي بين يديه تحصيل حاصل ! وهذا في الحقيقة هو أصعب الشعر كما يقول الأدباء العرب في القديم ! 
اعترض حسان وهو في الجاهلية وكان شابا يافعا يملؤه الحماس على النابغة ذات يوم فقال له : والله إني لأشعر منك ومن أبيك . فأخذه النابغة بعيدا وقال له : يابني إنك لاتحسن أن تقول :
فإنك كالليل الذي هو مدركي .. وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسعُ 
فتطامن حسان . 
كثير من الشعر وكثير من الروايات تظن وأنت تتصفحها أنه بإمكانك أن تأتي بأفضل منها ! لكنك لا تستطيع ! لأن التلقي أسهل من الإبتكار . 
الشعر بيان وكشف عما في الصدور من لوعة وهي رسالة تقدم عِبْر صور بيانية بديعة يتشارك فيها الشاعر والقارئ بالمتعة والتأمل .
فما المطلوب أكثر من ذلك ؟ 
الفرزدق رقم 2 ؟ 
ولقد حاول البارودي ذلك فلم ينجح – وجهة نظري – وإن تجربة أحمد شوقي والبردوني لأنجح بكثير . لأن الباردوي انطلق من عصره إلى التراث ، أما شوقي والبردوني فانطلقا من التراث إلى العصر الحديث . 
إن الجهد الأكبر يقع على عاتق القارئ في فتح نوافذ جديدة في النص .. 
في تحويل المادة الخام إلى منتج 
في أخذ هذه الثورة وتحطيم القوالب البالية 
في أخذ هذه الكواكب والنجوم والبحار والغابات وصنع عالم مختلف
نعم نكافح من أجل العثور على قارئ .. إنه كنزنا في الحياة 
لكننا لا نريد القارئ "المُقَعِّي" 
على القارئ كما على الشاعر من جهد في إثراء الحياة المعرفية وبعث الراكد وتحريك الجماد وإعادة الابتسامة المفقودة وبث الأمل وفتح باب الصداقة والمحبة ورفع سقف الأحلام إلى أقصى غاية . فحقائق اليوم أحلام الأمس . 

 

محطة أخيرة :
( اقرأ وربك الأكرم ) أمر من الله بالقراءة ووعد منه بالإكرام ، فاجتمعت هنا القراءة بالرزق والفتح . فكلما قرأت كلما أكرمك الله . سبب ونتيجة .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً