السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
من هؤلاء تعلمتُ:
أ.د/ كمال بشرشيخُ اللغويين العرب، صوتٌ مُعلِّمٌ لا يشبهُهُ أَحَد - إبراهيم أبوطالب
الساعة 08:31 (الرأي برس - أدب وثقافة)



يَنزلُ مِن عَلى سيارةٍ، يفتحُ البابَ سائقُهُ الخاصُّ، فيهرَعُ أحدُ الطلابِ إليه بكلِّ احترام، يأخذ بيده، ذلك الطالب المؤدَّب هو "حسين عبد العظيم" زميلنا في دبلوم اللغة العربية، ثم يمضي الأستاذُ بكلِّ ثباتٍ، وبخطوات هادئة؛ وهو ذلك الثَّمانِينيّ الذي انحنى ظهره لكن الثَّمانين -وبلِّغَها- لم تحوجْ سمعَه إلى تُرجمان، فسمعه ممتاز، إنما بصره هو الذي احتاج إلى ترجمان الحروفِ، وعدستها المكبِّرة.
 

يدخلُ إلى قاعة التَّدريس التي اعتاد عليها منذُ فترةٍ ليست بالقصيرة في معهد البحوث والدراسات العربية بشارع القصر العيني، في موقع ذلك المبنى الذي يبدو عليه القِدَم مع الفخامة، وارتفاع سقف غرفه، وتنوع مداخلها، وساحته التي أخذت مساحةً لا بأسَ بها في مكان مُهمٍّ هو شارع الطلمبات في حي "جردن سيتي" ذلك الحي الأرستقراطي منذ زمن البشوات في مصر، وقد تعاقبَ على إدارة ذلك المعهد والتدريس فيه -منذ إنشائه في 23/ 9/ 1952م- عَددٌ من الأعلامِ والأساتذة الكبار منهم: الأستاذ ساطع الحُصري، ومحمد شفيق غربال، ود. طه حسين، وعبد الرحمن البزَّار، وآخرهم د.أحمد يوسف أحمد، أمّا الأساتذة والأكاديميون فحدِّث عنهم ولا حرج؛ في مختلف التخصصات التي يتكوَّن منها المعهد، وهي عشرةُ أقسامٍ على النحو الآتي:(قسم البحوث والدراسات: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والجغرافية، والتاريخية، والقانونية، والأدبية، والإعلامية، والتربوية، والتراثية). 
 

وأما أساتذتنا في قسم البحوث والدراسات الأدبية الذين كانوا من مختلف الجامعات المصرية فمنهم: د.عز الدين إسماعيل، د.نبيلة إبراهيم، د.صلاح فضل، د.محمد بريري، د.كمال بشر، د.محمد العبد، د.سعيد بحيري، د.وليد منير، وغيرهم. 
اعتاد ذلك الأستاذ الجليل على هذا المكان لسنواتٍ طويلة؛ كما تعوَّد على العطاء فيه لطلابٍ من كلِّ الدول العربية، يأتون للدراسات العليا في معهدٍ من أقدم المعاهد الأكاديمية التابعة لجامعة الدول العربية حين تأسيسه، ثم تبِعَ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم منذ قيامها في 1970م. 

 

ذلك الأستاذ القدير هو الأستاذ الدكتور كمال محمد بشر(1921- 2015م) أستاذ اللغويات، والأكاديمي الكبير منذ خمسينيات القرن العشرين حين تخرَّجَ في جامعة لندن، وحصل فيها على درجة الماجستير في علم اللغة المقارن؛ عام 1953م، وعلى درجة الدكتوراه في علم اللغة والأصوات، عام 1956م، وكثيرًا ما كان يتحدث ويشيد لطلابه عن أستاذه العظيم "فِيرث" رئيس قسم علم اللغة والأصوات، وطريقة تعليمه لهم، وأساليب التفكير العلمي التي زرعها فيهم.
 

وظل أستاذنا بشر يمارس التدريس والبحث والتأليف لأكثر من نصف قرن ويزيد، وبروحه العذبة التي تُعلِّمكَ جمالَ الأستاذية، وسموها مع خصوصية عذبة يمتاز بها، وهي إنه يخاطِبُ طلابَهُ بلهجته المصرية الريفية كاسرًا مهابة اللقاء الأول، فيسألهم عن أسمائهم، ويشير إليهم واحدًا واحدة، متخذًا من قوله: اسمك إيه يا واد؟ وانتِ يا وليه اسمك إيه؟ ومنين؟!، ثم لا تخلو محاضراته من النُّكتة التي يتبعها بضحكته المجلجلة المميَّزة.
 

كنَّا شبابًا في مختلف الأعمار من أكثر من قطرٍ عربي وإسلامي، من مصر، وفلسطين، واليمن، وموريتانيا، وأندونيسيا، وباكستان، أولئك مجموع الدفعة التي تدرس مقررَ (علم اللغة) وبالتحديد (علم اللغة الاجتماعي) في السنة الثانية للعام 2000/ 2001م الفصل الرابع التخصصي.
ومما يتميز به الدكتورُ بشر أنه يدرِّس كتابَهُ الذي اعتادَ عليه، وهو من أهم كتب اللغة، وكانَ حينَ يقفُ في نهاية المحاضرة عند نقطةٍ ما من الكتاب، ينطلقُ في المحاضرة القادمة مما يليها دون أن يسأل عن "أين وقفنا؟!" إنه يتمتَّعُ بذاكرة عجيبة قوية مركِّزة.

 

سألناهُ ذاتَ يومٍ عن تلكمُ الذاكرة وقوَّتها –لا قوَّة إلا بالله- ونحن نحتفلُ بعيد ميلاده التاسع والسبعين في عام 2000م، حين بادَرتْ إحدى الزميلات المصريات بلفتِ نظرنا إلى هذه المناسبة، فأعددنا لها شيئًا مما يعبِّرُ عن حبِّنا له، وإجلالنا لشيخنا الجليل، وأهداهُ بعضنا – فيما أهديناه- مُصحفًا فرحَ به فرحًا كبيرًا، وحينها قال لنا: "كلَّما استمعتُ إلى القرآن أو قرأتُ فيه؛ اكتشفتُ ظواهر صوتية، وفوائد عجيبة، ومع كل استماع أخرجُ بفكرةِ بحثٍ لغوي أو صوتي أو دلالي مختلف؛ إنه التجدُّد الذي يمتاز به كتاب ربنا"، إنها روح الباحث ولماحيته وفتح آفاق دراساته التي كان يقوم ببعضها أو يفتح بها على طلابه موضوعاتٍ تصلح للبحث والتحليل.
 

لاحظنا على أستاذنا أنه يتمتَّعُ بصحة جيدة، وبذاكرة قوية، وبتركيز علمي شديد على الرغم من أنه يدخِّن بكثرة حتَّى لا تكادُ تغادرُ السيجارةُ إصبعَه، ويشربُ قهوتَه التركية الثقيلة التي كان يهرعُ بها إليه ساعي المعهد -كعادةٍ يوميةٍ مع دخوله إلى القاعة- فسألناه ما سرَّ هذه الذاكرة – ما شاء الله تبارك الله- والصحة الطيبة؟ مع نصحه -على استحياء- بأن التدخين قد يضرُّ بصحته الغالية! فاخبرنا عن سرِّ تلك الذاكرة، والتركيز، والصحة –بعد حمد الله- أنه منذ كان في الفلاحين – بحسب عبارته- وهو ينامُ بعد التاسعة ليلاً أو عندها، ويستيقظ قبل الفجر، ثم لا ينام إلا وقت القيلولة -إن كان اليوم بمشاغله الكثيرة يسمح له بالعودة إلى البيت وأخذ قسط من الراحة- وإلا فإنه لا يغيِّر عادته في الحفاظ على نظامه الخاص في النوم المبكر، والاستيقاظ المبكر.
 

فتعلَّمتُ منه أن سرَّ الحفاظِ على العقل، وروح غذائه يكمنُ في عادة النوم السليمة، ولكني لا ألتزمها للأسف.
ويمضي أستاذنا في شرح قضايا منهجنا بكلِّ اقتدارٍ معهودٍ، نستفيد من تعليقاته العلمية، ونكته المعرفية، يشفعها جلال قدره مع تواضعه المهيب، ومكانته العلمية المعروفة والمشهودة في ميدان التأليف، والتدريس، والإشراف على الرسائل العلمية من ماجستير ودكتوراه بلغت المئات، إشرافًا وإرشادًا ومناقشات.

 

وأحاول الاقتراب من أستاذي الجليل لإعجابي الشديد بروحه الودودة، وعلمه الغزير، فيصادف صدورَ ديواني الثاني (أنشودة للبكاء، 2000م) فأهرعُ بهِ إليه زائرًا له في مكتبه بكلية دار العلوم، حيثُ يطلبُ من السَّاعي أن يحضرَ لي الشاي، وتلك عادة يقدِّمها لضيوفه ولطلابه، فلا يخرج من يزوره إلا بعد أن يشرب شيئًا، يسألني عن اسمي وجنسيتي -حين أخبرته أنِّي أحد طلابه في المعهد-، ثم يسألني عن اليمن، والحياة فيها، ويأخذ الديوان، وقد بشَّ به ووعد بقراءته، ثم يطلق عليَّ منذ تلك اللحظة لقب "اليمني الشاعر" وكلَّما رآني بعدها عرَّفني بهذا الاسم، وناداني به.
 

كنتُ أسعدُ برؤيته ولقائه، وبهذا النِّداء، وحين أتيحتْ له فرصةٌ لقراءة الديوان -على الرغم من مشاغله الكثيرة تدريسًا وإشرافًا ومناقشاتٍ وعضويةَ مجمع اللغة العربية وغيرها- بادرني ذات يوم فقال: "إنك شاعرٌ مثقَّف، في شعرك عوالم كثيرة، وقد لخصتَ في قصيدتك "أنشودة للبكاء" حياة الإنسانية من خلال رموزها وحياة الأنبياء فيها وغيرها من الدلالات تلخيصا بديعًا". إنها شهادة كدتُ أطير بها فرحًا لشاب متطلِّعٍ يعجب أستاذٌ بحجم كمال بشر بشعره ويثني عليه، سواء كان حقيقةً ذلك الإعجاب أو أنَّه بروح المشجِّع من عَالِمٍ خُلقُهُ خلق العلماء الكبار، فأيًّا كانَ فحسبي أنني مررت على خاطره، وحظيتُ بقراءته وإقراره بصحة ما جاء في ديواني من اللغة، والصور، والمعاني؛ إذ ما كان له أن يسكت عن خطأ أو يتغاضى عن زَلَّة، فكان ذلك لديَّ شهادة عبور، وجواز انطلاق.
 

ثم تمضي الأيامُ، وفي ذاتِ نهارٍ يدخل علينا قاعة الدَّرس، ويبدو عليه الضيق والحزن والأسف من قضية أرَّقتهُ، وهي أنَّ أحد الأكاديميين قد أثار في إحدى الصحف أو المنابر العلمية "أن كمال بشر أخذ عنه شيئًا من الأفكار أو المعلومات... لست متأكدًا من التفاصيل..."، ولكن ما لاحظته عليهِ من حزن قد أثار مشاعري، فأحببتُ أن أشاركَه شعرًا، مؤكدًا له محبتي ومشاعري نحوه أستاذًا وعالمًا، وقد ردَّ هو بدوره على تلك القضية في معارك العلماء وخلافاتهم التي تدور عبر الزمان، ولا حسد إلا في اثنتين -كما هو معروف- ولكنِّي كتبتُ قصيدتي التي عبَّرتُ فيها عن مكانة الرجل، وعلمه، فقلت، مما قلت فيها:
 

"... فَكَمالٌ بِعلمهِ
فاحَ في الأرضِ كالشَّذا

إن تكنْ قدْ جهلْتَهُ
سلْ عن البِشْرِ ذَا وذَا

يعرفُ العِلمُ فضلَهُ
باجتهادٍ تعوَّذا

نِصفُ قرنٍ ونَيِّف
وهو يُعطي، وكَم غَذا!

صارَ في العِلمِ حُجةً
للخِلافاتِ نَابِذَا

"مَجمعُ العُربِ" شاهدٌ
أنَّ فرسَانهُ إذا

قالَ بِشرٌ: مقولةً
أصبَحَ الكلُّ آخذا

"ابنُ جنيِّ" عَصرِه
مَنْ عَلَى نَهجِهِ حَذَا

حازَ فِي المَجدِ رُتبَةً
هَكذَا العِلمُ هَكَذَا

إنَّما كُلُّ عالمٍ
ليس ينجو مِن الأذى...الخ"

 

سعدَ بها أستاذي الكبير، وتقبَّلها بقبولٍ حسن، معلقًا على رَويِّها، وهو حرف (الذال) الصعب القلق، بقوله:"أنت شاعرٌ قديرٌ لا يكتب بمثل هذه القوافي، ويجيدها إلا القليل، وهي بذلك سَلِسَة طريفة قوية لفظًا ومعنى".
ذلك هو عالم اللغة الكبير وأستاذها القدير شيخنا الأستاذ الدكتور كمال بشر –رحمه الله- الذي تعلمتُ منه تواضع العالم الجليل، وقدرته، ومهابته، وبساطته مع طلابِ العلمِ ليحقِّقَ بكلِّ ذلك أستاذيَّتَهُ باقتدار دون أن ينقص تواضعه من مهابته ومكانته شيئًا، بل إنه يزيده رفعةً وسموًّا. 
تعلمتُ منهُ حرصَهُ على مواعيدِه المنضبطة، وتفانيه في تدريسه بصحة جيدة؛ رغم تقدُّم العمر لكنه استطاع المحافظة على ذاكرته بعاداته الصحية الجيدة، وبما يمنحه الله عزَّ وجل للعلماء من بركةٍ في الجهد، والوقت، والصحة، بفضل مسعاهم، ونُبلِ عطائهم.

 

كما تعلمتُ من كُتبهِ الكثيرة جودةَ السَّبكِ، ومنهجية العلم، وغزارة التَّحليل، وفي كتبه الكثير من الفوائد، والعلم التخصصيِّ الكبير، ومن تلك الكتب على سبيل المثال لا الحصر: كتاب قضايا لغوية، 1962م، وعلم الأصوات، ودراسات في علم اللغة، 1996م، ودور الكلمة في اللغة، وهو ترجمة لكتاب: words and their uses، وقد نشر أول مرة سنة 1962م، وأعيد طبعه أكثر من خمس عشرة مرة، وعلم اللغة الاجتماعي، نشر أول مرة سنة 1992م، وأعيد طبعه (منقحًا) سنوات 93، 94، 1995م، وخاطرات مؤتلفات في اللغة والثقافة، 1995م، واللغة العربية بين الوهم وسوء الفهم، نشر سنة 2000م، وفن الكلام، 2003م، وصفحات من كتاب اللغة، 2004م، ومجمعيات، 2004م، وإذاعيات لغوية، 2005م، والتفكير اللغوي بين القديم والجديد، 2005م).
 

وقد درَّس لنا واحدًا من تلك المؤلفات، وهو كتاب (علم اللغة الاجتماعي) دراسةً كاملة واستظهرناه عن عقلٍ وقلبٍ حاضِرَينِ، وتلقيناه عنه تلقيًا مباشرًا، وقد أدركنا من خلال ذلك الكتاب علمه، وتمكُّنه في التأليف وعرض موضوعات اللغة بما شكَّل منهجًا (بِشْريًّا) خاصًّا، و(كَمَالاً) علميًّا متحقِّقا نافعًا لكلِّ قارئ وطالب علم جادٍّ مثابر.
 

رحمَ اللهُ أستاذَنا القدير وجزاهُ عنَّا وعن طلابِ العلمِ والباحثين، وعن اللغة العربية وعلومها خيرَ الجزاء، وأثابه مغفرةً ورضوانا...
شهادةُ عَالِمٍ لعَالِم:
أجدُها مناسبةً جيِّدة للتعبير عن استفادة الأجيال العلمية المتعاقبة من خبرات الشيخ الجليل، وأعرضُ في مقالي هذا ما كتَبَهُ الأستاذُ الدكتور "عباس السُّوسوة" عن شيخه الأستاذ بشر؛ (وكنت قد نشرتُها من قبلُ مع الصُّور على صفحتي بالفيسبوك، حين استدعى تذكُّرها لدى الدكتور السُّوسوة مقالتي السابقة، فكتبَها بخطِّه)، ويقول:"لم أسمع بالدكتور كمال بشر إلا وأنا في السَّنة الثالثة، قسم اللغة العربية بآداب القاهرة (1979/ 1980)، شاهدته في برنامج "أمسية ثقافية" الذي كان يقدِّمُه فاروق شوشة.

 

كان معه في تلك الحلقة د.السَّعيد محمد بدوي، أستاذ علم اللغة في الجامعة الأمريكية، لم أعد أذكر موضوع الحلقة. لكن اللافت أن الضيفين كانا يتحدَّثان بمستوى الفصحى المعاصرة، دون تلعثم، أو تلكؤ، أو تأثُّر بلغة الأم. فالأصوات الفصيحة:(ث ذ ظ ج) من مخارجها التي ذكرها سيبويه، ثم علماء التجويد من بعده ملتزمة عندهما، ولا يظهر في كلامهما بطء في النطق، بل كأنَّما يتحدثان في المربد أيام عصر الاحتجاج باللغة. أو قُل: كأنما يتحدثان بالمَحكيَّة، وتنغيمهما للكلام لا يظهر فيه طابع محلي.
 

والتزام الفصحى دون تكلُّف في المحاضرة لم أجده عند من درَّسوني مباشرة في اللسانس (1977 -1980) وتمهيدي الماجي (1981- 1982) إلا عند شيخي محمود فهمي حجازي، ومحمود مكي، وكمال بشر، وسيّدة هي د. سَهير القَلَماوي. وحتى لا نستطرد إلى ذكر العلماء الأفاضل –رحمهم الله!- وهم يستحقون أكثر من هذه السطور، أعود إلى د.كمال بشر، الذي سمعتُه في السنة نفسها في إذاعة القرآن الكريم في برنامج عن ابن جنِّي.
 

في السنة الرابعة سافر د.حجازي إلى جامعة قطر، فتركَ فراغًا في القسم الذي حاول سدَّهُ باستدعاء الدكتورين: د.كمال بشر من دار العلوم، ود. محمد عوني عبد الرءوف، لتدريس مقرراته.
أخيرًا حلَّ علينا – د. بشر- عامًا جامعيًّا كاملاً في تدريس "علم اللغة الحديث"، رأيناه كهلًا قصيرَ القامة، حليقَ الشاربِ واللحية، موفور شعر الرأس يمشطه إلى الخلف، له شامة كبيرة ناتئة في ذقنه، على الجملة فيه شبه كبير من الأمين العام للاتحاد السوفيتي سابقًا "ليونيد بِرِجنيف" أو قل: هو "برجنيف" مضغوط إلى نحو النصف. يحاضر وهو واقف، ويسير بين صفوف الطلاب، صوته فيه بحَّة مميزة. محاضراته بالفصحى المعاصرة -كما وصفنا- وبين حين وآخر يتوقَّف ليشعلَ سيجارة "مالبورو" تشتعلُ حتى ربعها، وقد يتوقَّف ليقول نكتة أو يعلق على طالب أو طالبة، أو على مدير البريد الذي طرق الباب ليسلِّمهُ ظرفًا. ثم يضحك ضحكةً مميزة يظل الطلابُ في حالة ترقُّبٍ، وتشوق لسماعها، وتكاد تسمع بعضهم يستعجلها منه :"قولها يا شيخ" فما إن يجلجل بها حتى تسمع الفصل كاملاً يقهقه.

 

كان لديه مهارة فائقة في إيجاز موضوع المحاضرة في ربع ساعة أو توسيعه في ساعتين إلا ربعًا. وفي السنة التمهيدية كانت كلية دار العلوم قد انتقلت من مقرِّها القديم في شارع المبتديان بالسَّيدة زينب إلى حرم جامعة القاهرة.
كنتُ أحضرُ دروسَ د. كمال بشر في مناهج البحث اللغوي في الصَّباح مع الطلاب الدَّرَاعِمَة – مع أني لستُ منهم- أظنني حضرتُ أغلبها.

 

كانت في مكتب رئيس "قسم علم اللغة والدراسات الشَّرقية" أي مكتب "بشر" نفسه. ويصرُّ على أن يشربَ الطلابُ شيئًا، ولا يقبل عذراً للامتناعِ عن الشرب، وبالطبع كان لا ينفكّ عن التدخين، وشرب القهوة المركَّزة.
استفدتُ من محاضراته أيَّما استفادة، سواء في رسالتي للماجستير، أو فيما بعد، حينما قُدِّرَ لي أن أحاضر طلابي في المناهج...
لم تنقطع استفادتي من د.بشر بعد التمهيدي، بل كنتُ أذهب لزيارته بعد أن سجلتُ رسالة الماجي (ابريل 1983) في "لهجة ذمار؛ دراسة صوتية وصفية"، كان نهجي إذا تحيَّرتُ أمامَ مشكلةٍ، كيف أتصـرف إزاءها، وكنت أجده كريمًا بشوشًا دائمًا، لا يملُّ، ولا يتضايقُ من أسئلتي.
وعندما انتهت صلاحية جواز سفري، وليس لي بطاقة جامعية، استعنتُ به في الدخول إلى الكلية...
وبعد أن سجلت الدكتوراه (ابريل 1985) احتجتُ إلى معونته في قراءة رسائل جامعية من مكتبة دار العلوم.

 

ثم ضعفتْ الزيارات. وبعد الحصول على الدوكي (1989) لم أزر مصـر إلا في أول سبتمبر 1996، -وأنا عميد للآداب- في مدَّة محدودة، لم أتمكَّن من زيارة أحد إلا د.عوني عبد الرءوف.
وبعدها بعام كنت في زيارةٍ لجامعة أسيوط، فعرَّجتُ على شيخنا حجازي، وذهبت معه إلى المَجْمَعِ، وحضرتُ مستمعًا جلسة في لجنة الألفاظ والأساليب. وكان معه د.شوقي ضيف، ود.كمال بشر الذي كتبَ لي كلمة طيبة في دفتر التوقيعات.

 

ثم كنتُ أراهُ في أعوام: 2003، و2005، و2007، و2009 في مؤتمرات دار العلوم، إذ كان يحضر حفلاتها الافتتاحية. وآخر مرة رأيته في 2012 وقفَ خطيبًا في المُؤتمِرِينَ مُتَّكئًا على عصاهُ، بطريقته المعتادة في المحاضرة. رحمه الله تعالى، وأجزل مثوبته!"...انتهى كلام الدكتور عباس. 
تحية:

 

"هو الشَّيخُ
أصواتُه في ثنايا الِّلسانِ
وفي كلِّ قَلبٍ جَرَى بالبَديعِ البَيَانُ
هو الشَّيخُ
آفاقُهُ رَحبةٌ
وطُلَّابُهُ في المَدَى يَشهدون
وآثارهُ في مَعالي الدُّروسِ
هي الضَّادُ تَنعَمُ بِالمُعجِزاتِ
ويُورقُ فيها ربيعُ الحَيَاةِ
وقد أشرقتْ في النُّفوسِ
وميلادُها
كلَّمَا عادَ ميلادُ أبنائِها
ويولدُ من نبضِها عَالِمٌ
يَسيرُ
على نهجِ من قَد مَضَى
وأَخلَصَ في قولِها 
والفِعَال
وخلَّدها في مَرايا الوجود
سَلامٌ على شيخِنا 
يومَ عاشَ
سلامٌ على شيخِنا 
في الخلود...".
فصلُ الخِطاب:
"اللغة تشبِه الكائنَ الحيَّ في التطوُّر، فالخيرُ في اللغة انعكاسٌ لخير أصحابِ اللغة، والشَّرُّ في اللغة انعكاسٌ للشرِّ في أصحابِ اللغة. أصحابُ اللغة العربية هجروا هذه اللغة وعزلوها، فوقفت، وتخلَّفت، ولم تجارِ العَصر.

منقولة من مجلة أقلام عربية...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً